قال لمنى: هلم بنا. - إلى أين؟ - إلى الشارع، أريد أن أسير، هلم. - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - ولكني لا أستطيع. - لماذا؟ - لأنني أنتظر خطيبي هنا، فقد طلبت إليه أن يأتي إلى هنا.
ولم يسمع شريف شيئا مما قالت بعد خطيبي، فقد جمدت عيناه تنظران إلى عينيها وجمدت شفتاه لا هما مفتوحتان ولا هما مغلقتان.
وجمدت خلجات وجهه بين الدهشة والألم وبقايا فرحة تنحسر لتفسح مكانا لألوان شتى من المشاعر لا مجال فيها لفرح أبدا.
وبعد فترة لا يدري أقصرت أم طالت انتبه إلى نفسه ناظرا إليها فوجد صورته في عينيها الشابتين، وجد صورته الجازعة مطبوعة على عينيها الضاحكة المستبشرة، رأى صورته في عينيها فأطال التحديق، لقد نسي الأستاذ شريف شيئا وذكرته صورته ما نسي، نسي ذلك الشيب الذي اشتعل في رأسه فحرق مستقبله، وفى لحظة وامضة أدرك الأستاذ شريف ألا مستقبل له، وأدرك ألا ماضي له أيضا، لقد أكل الأدب ماضيه ومستقبله، وألهاه عن السنوات التي تمر لا تراعي القلب الشاب ولا الأمل الطفل وإنما هي تدمغ حيث تمر فتجعل من صبي الأمس عجوز اليوم.
كان الأستاذ شريف يقترب إلى الخمسين من عمره ولا يحس.
ولم يفق الأستاذ شريف إلا حين جلس إلى مكتبه وأخرج ورقة وقلما وكتب عنوان قصته الجديدة: «أخلفت الموعد».
ملاعب الصبا
على ضفاف الصحراء، جلس حمدان بن ربيعة يمد طرفه إلى الأفق البعيد، فلا يرى بعينيه غير انطباقة السماء على الرمال، فيخترق بفكره هذا الأفق ويوغل إلى ما وراءه، إلى هناك، إلى ملاعب الصبا، ومدارج الطفولة، هناك حيث انطبعت يوما على الرمالات البيض آثار ركبته ويديه وهو طفل يحبو، وآثار قدميه الطفلتين وهو حدث يتعثر في خطواته الأولى، وهناك حيث محت الرياح آثار قدميه الصغيرتين وهو صبي يدرج إلى الشباب، وويل لحمدان من ذكرياته لأيام الصبا؛ فهي أولى ذكريات وعاها عقله، وهي أحلى ذكريات صنعتها له الأيام.
كان ذلك منذ نيف وعشرين عاما، وكانت الحياة بين يديه لعبا مع الأطفال من أترابه.
وكانت هي بينهم تلعب كما يلعبون، ويجرى عليها من أحكام اللعب ما يجرى عليهم لا يراعون أنها ابنة شيخ القبيلة، وما شأنهم بأبيها؟ إنما هي عضو في جماعتهم لا يعنيهم من شأنها إلا مرحها ولعبها وإتقانها هذا اللعب.
Shafi da ba'a sani ba