قال أحد الأشخاص: «لواء البنادق.»
فقال فيرال بصوته الصبياني الفظ: «انظروا كيف يبدو.»
كان كولونيل لواء البنادق الأشيب واقفا على مقربة، وقد احمر غضبا حتى عنقه وأبلغ عن فيرال للجنرال. وجه توبيخ إلى فيرال لكن الجنرال، الذي كان هو نفسه ضابطا في الجيش البريطاني، لم يؤنبه بشدة. لم يلم شيء خطير حقا بفيرال قط بطريقة أو بأخرى، مهما بلغت إساءته. وأينما كان يقيم في أنحاء الهند، كان يخلف وراءه أثرا من أشخاص أهانهم وواجبات أغفلها وفواتير لم يسددها. ومع ذلك لم تلاحقه قط الفضائح التي كان أحرى بها أن تلاحقه. فقد كان الحظ حليفه دائما، ولم يكن لقبه وحده الذي ينقذه. كان ثمة شيء في عينيه يجعل المطالبين بسداد الديون وزوجات المسئولين البريطانيين في الهند وحتى الكولونيلات يجبنون أمامه.
كانتا عينين مربكتين، ذاتي زرقة فاتحة وجاحظتين قليلا، لكن صافيتان أشد ما يكون الصفاء. تفحصانك، وتضعانك في الميزان فلا تجد لك وزنا، بنظرة واحدة باردة قد تستغرق خمس ثوان. إذا كنت النوع المناسب من الرجال - أي إذا كنت ضابطا في سلاح الفرسان ولاعب بولو - فسوف يعمل فيرال لك حسابا بل ويعاملك باحترام؛ أما إذا كنت من أي نوع آخر من الرجال أيا كان، فسوف يزدريك إلى أقصى درجة حتى إنه لن يستطيع إخفاء ذلك ولو حاول. لم يكن يفرق معه مطلقا ما إذا كنت غنيا أو فقيرا، فلم يكن من الناحية الاجتماعية سوى شخص متكبر بطبيعته. بالطبع كان مثل جميع أبناء الأسر الثرية يعتقد أن الفقر مقزز وأن الفقراء فقراء لأنهم يفضلون الحياة المقززة. لكنه كان يحتقر العيش المرفه. كان ينفق، أو بالأحرى يستدين، مبالغ طائلة على الملابس، لكن يعيش زاهدا مثل ناسك. كان يمارس التمارين الرياضية دون انقطاع وبقسوة، ويرشد استهلاكه للشراب والسجائر، وينام على فراش المعسكر (مرتديا بيجامة حرير) ويتحمم بالماء البارد في أشد أوقات الشتاء برودة. كان لا يقدس سوى الفروسية واللياقة البدنية. وقع حوافر الخيل في الميدان، والشعور بالقوة والاتزان وجسمه متشبث بالسرج مثل كائن القنطور، وعصا البولو وهي مرنة في يده؛ كانت تلك الأشياء هي الديانة التي يعتنقها والهواء الذي يتنفسه. كان الأوروبيون في بورما بعاداتهم من معاقرة الخمر وملاحقة النساء والتسكع بوجوههم الشاحبة يثيرون اشمئزازه متى خطرت على باله عاداتهم. أما الواجبات الاجتماعية بجميع أشكالها فقد كان يدعوها أمورا نسائية ويتجاهلها. والنساء كان يبغضهن؛ إذ كن من وجهة نظره نوعا من جنيات البحر هدفهن هو استدراج الرجال بعيدا عن البولو وتوريطهم في حفلات الشاي ولعب التنس. لكنه لم يكن منيعا ضد النساء؛ فقد كان شابا والنساء من كل الأطياف تقريبا يتهافتن عليه؛ وكان يستسلم بين الفينة والفينة. لكن سرعان ما كانت هفواته تثير اشمئزازه، فيتصرف بغلظة مسرفة حين تقتضي الضرورة وتواجهه أي صعوبة في الهرب. وكان قد أقدم على ذلك الهروب نحو اثنتي عشرة مرة خلال العامين اللذين قضاهما في الهند.
مر أسبوع كامل ولم يتأت لإليزابيث حتى التعرف على فيرال. كان هذا مثيرا للغاية! كل يوم، صباحا ومساء، كانت هي وزوجة عمها تسلكان الطريق إلى النادي وتعودان مرة أخرى، مارتين بالميدان؛ وكان فيرال هناك، يضرب كرات البولو التي يلقيها إليه الجنود الهنود، متجاهلا المرأتين تماما. قريبا جدا لكنه بعيد جدا! ما زاد الطين بلة أنه ولا واحدة من المرأتين كانت ترى أنه من اللائق التحدث في الأمر مباشرة. ذات مساء ضرب الكرة ضربة شديدة فانطلقت في حفيف وسط الحشائش وتدحرجت على الطريق أمامهما. توقفت إليزابيث وزوجة عمها تلقائيا. لكن كان الجندي وحده الذي جرى لالتقاط الكرة. كان فيرال قد رأى المرأتين وظل مبتعدا.
في الصباح التالي توقفت السيدة لاكرستين بعد خروجهما من البوابة. كانت قد أقلعت مؤخرا عن ركوب الريكشا [عربة صغيرة يجرها رجل]. أسفل الميدان كان رجال الشرطة العسكرية مصطفين، صفا بلون الغبار بحراب لامعة. كان فيرال مواجها لهم، لكن من دون لباسه الرسمي؛ كان نادرا ما يرتدي لباسه الرسمي من أجل طابور الصباح، معتقدا أنه غير ضروري مع رجال من الشرطة العسكرية. كانت المرأتان تجولان بنظريهما في كل شيء عدا فيرال، وتتمكنان في الوقت ذاته، وبطريقة ما، من النظر إليه.
قالت السيدة لاكرستين: «البغيض في الأمر ...» - كانت هذه العبارة لتغيير الموضوع، لكن لم يكن الموضوع بحاجة إلى مقدمة - «البغيض في الأمر أن عمك عليه حقا الرجوع إلى المعسكر قريبا.» «هل يجب عليه ذلك حقا؟» «أخشى هذا. وتكون الأجواء بغيضة للغاية في المعسكر في هذا الوقت من العام! آه، وذلك الناموس!» «ألا يستطيع البقاء أكثر قليلا؟ أسبوعا مثلا؟» «لا أعتقد أنه يستطيع. لقد لبث في المقر نحو شهر حتى الآن. وسوف تستاء الشركة إذا علمت بالأمر. وبالطبع ستضطر كلتانا إلى الذهاب معه. يا للضجر! الناموس ... فظيع للغاية!»
قطعا فظيع! أن يضطروا إلى الرحيل قبل أن تكون إليزابيث قد قالت لفيرال كيف حالك حتى! لكنهما كانتا ستضطران إلى الذهاب حتما إذا ذهب السيد لاكرستين. فلن يصلح قط أن يترك بمفرده. فإن الشيطان يجد بعض المفاسد حتى في الغابة. سرى وهج كأنه حريق مشتعل في صف الجنود؛ كانوا يخلعون حرابهم قبل السير راحلين. انعطف الصف المغبر يسارا، وأدوا التحية وساروا مبتعدين في صفوف من أربعة أفراد، بينما جاء العساكر من صفوف الشرطيين بالأمهار وعصي البولو. وهنا اتخذت السيدة لاكرستين قرارا بطوليا.
قالت: «أرى أن نسلك الطريق المختصر عبر الميدان. فهذا أسرع كثيرا من الدوران يمينا باتخاذ الطريق.»
كان أقصر بنحو خمسين ياردة، لكن لم يسلك أحد ذلك الطريق مشيا قط، بسبب بذور الحشائش التي تدخل في الجوارب. توغلت السيدة لاكرستين بجسارة في الحشائش، متخلية حتى عن التظاهر بالتوجه إلى النادي، واتجهت مباشرة إلى فيرال. كانت كل من المرأتين تفضل التعذيب حتى الموت على المخلعة على الإقرار بأنها كانت تريد أي شيء سوى اتخاذ طريق مختصر. رآهما فيرال آتيتين، فراح يسب، وكبح جماح مهره. لم يكن من اللائق أن يتجاهلهما الآن وقد جاءتا علنا لتبادراه بالكلام. يا لجسارة هاتين المرأتين! اتجه إليهما ببطء ممتطيا فرسه وعلى وجهه إمارات التجهم، وهو يطارد كرة البولو بضربات صغيرة.
Shafi da ba'a sani ba