بدا أنهما يجب ألا يلتقيا أبدا دون أن يكون حوارهما عن الطقس. غير أن وجهها وشى بشيء مختلف اختلافا جذريا عن الكلمات التافهة. بل تغير سلوكها تماما منذ ليلة أمس، لذلك داخلته الشجاعة. «كيف حال الموضع الذي أصابه ذلك الحجر؟»
مدت إليه ذراعها وتركته يمسكها. كان سلوكها رقيقا، بل ووديعا. هنا أدرك أن مأثرته ليلة أمس قد جعلته شبه بطل في عينيها. لم تكن تعلم كم كان الخطر صغيرا في الحقيقة، وسامحته على كل شيء، حتى ما هلا ماي؛ لأنه أظهر شجاعة في اللحظة المناسبة. إنها حادثة الجاموسة والنمر تتكرر مرة أخرى. كان قلبه يدق في صدره، فانزلق بيده على ذراعها وأدخل أصابعه في أصابعها. «إليزابيث ...»
قالت: «سيرانا أحدهم!» وسحبت يدها، لكن غير غاضبة. «لدي شيء أود أن أقوله لك يا إليزابيث. هل تذكرين الخطاب الذي كتبته لك من الغابة، بعد ما جرى بيننا منذ عدة أسابيع؟» «نعم.» «هل تذكرين ما قلته فيه؟» «نعم. آسفة أنني لم أكتب ردا. كل ما هنالك ...» «لم يكن لي أن أتوقع منك الرد حينذاك. أردت فقط أن أذكرك بما قلته.» بالطبع كان جل ما قاله في الخطاب، على استحياء شديد، أنه يحبها، وسوف يظل يحبها أبدا، مهما حدث. كانا واقفين يواجه كل منهما الآخر، مقتربين جدا. باندفاع أخذها بين ذراعيه وضمها إليه، وقد حدث هذا على نحو مفاجئ جدا حتى إنه فيما بعد وجد صعوبة في تصديق أنه حدث على الإطلاق. ظلت مستسلمة للحظة وتركته يرفع وجهها ويقبلها؛ ثم تراجعت فجأة وهزت رأسها. ربما لأنها خشيت أن يراهما أحد، أو ربما لأن شاربه كان مبتلا جدا من المطر فحسب. دون أن تقول أي شيء آخر انفصلت عنه ودخلت النادي مسرعة. كان على وجهها نظرة كدر أو تأنيب ضمير؛ لكنها لم تبد غاضبة.
تبعها إلى النادي ببطء أكثر، فقابل السيد ماكجريجور الذي كان في غاية من انشراح النفس. بمجرد أن رأى فلوري قال بصوت مدو ومزاج مرح: «أها! ها هو البطل المغوار!» ثم هنأه مجددا بأسلوب أكثر جدية. انتهز فلوري الفرصة بأن قال عبارات قليلة في حق الطبيب؛ إذ رسم صورة حية لبسالة الطبيب أثناء الشغب «كان واقفا في خضم الحشد، يقاوم مثل الأسد.» ولم يكن في ذلك الكثير من المبالغة؛ فقد خاطر الطبيب بحياته حقا. وقد انبهر السيد ماكجريجور، وكذلك الآخرون حين سمعوا بالأمر. فدائما ما تستطيع شهادة أوروبي واحد أن تفيد رجلا شرقيا أكثر من شهادة ألف من أهل بلده ؛ وكان رأي فلوري في هذه الآونة له ثقل. هكذا استعاد الطبيب صيته الحسن فعليا، وصار من الممكن الاطمئنان لانتخابه عضوا في النادي.
بيد أنه لم يتأت الاتفاق نهائيا على الأمر بعد؛ لأن فلوري كان بصدد العودة إلى المعسكر. وقد مضى في المساء نفسه، مسافرا ليلا، ولم ير إليزابيث مرة أخرى قبل مغادرته. كان السفر في الغابة آمنا تماما في ذلك الوقت؛ فقد كان من الجلي أن التمرد العقيم قد انتهى. ونادرا ما يأتي أي أحد على ذكر التمرد بعد بدء الأمطار؛ إذ يكون البورميون منشغلين للغاية بالحرث، كما يتعذر خوض مجموعات كبيرة من الناس في الحقول المغمورة بالمياه على أي حال. كان فلوري سيعود إلى كياوكتادا بعد عشرة أيام، عندما تحين زيارة القس التي كان يقوم بها كل ستة أسابيع. الحقيقة أنه لم يرغب أن يكون في كياوكتادا بينما إليزابيث وفيرال هناك. إلا أنه، على ما في ذلك من غرابة، كان قد زال عنه كل الأسى - كل الحسد الفاحش المتغلغل الذي كان يعذبه من قبل - بعد أن عرف أنها قد صفحت عنه. كان فيرال فقط الذي يحول بينهما الآن. باتت حتى صورتها بين أحضان فيرال بالكاد تؤثر فيه؛ لأنه كان يعلم أن العلاقة لا بد أن تنتهي في أسوأ الأحوال. إذ كان من المؤكد تماما أن فيرال لن يتزوج أبدا من إليزابيث؛ فالشبان من عينة فيرال لا يتزوجون من الفتيات المعدمات اللواتي يتعرفون عليهن في قواعد هندية مجهولة. فقد كان يسلي وقته مع إليزابيث ليس إلا. عما قليل سيهجرها، وستعود هي إليه - إلى فلوري، حسبه ذلك - ذلك أفضل كثيرا مما كان يرجوه. ثمة مذلة في الحب الحقيقي، مذلة بغيضة بعض الشيء بشكل ما.
كان يو بو كين مستشيطا غضبا؛ فقد باغته الشغب البائس على حين غفلة، إذا كان ثمة ما يمكن أن يباغته على غفلة مطلقا، وكان بمثابة العقدة في منشار خططه. وهكذا تحتم الشروع مجددا في عملية تشويه سمعة الطبيب. وقد بدأ بلا شك بفيض غزير من الخطابات المجهولة ، حتى إن هلا بي اضطر إلى التغيب عن العمل لأسبوعين كاملين - متعللا بالالتهاب الشعبي هذه المرة - حتى يكتبها. واتهم فيها الطبيب بشتى الجرائم من اللواط إلى سرقة طوابع بريد الحكومة. في ذلك الوقت مثل للمحاكمة السجان الذي سمح بهروب نجا شوي أو. وقد أفرج عنه بانتصار؛ إذ كان يو بو كين قد أنفق حتى مائتي روبية في رشوة الشهود. انهال على السيد ماكجريجور المزيد من الخطابات، تبرهن بالتفاصيل أن الدكتور فيراسوامي، المدبر الحقيقي للهروب، حاول تحويل اللوم عنه إلى مرءوس بلا حول ولا قوة. بيد أن النتائج كانت مخيبة للآمال؛ فقد فتح على البخار الخطاب السري الذي كتبه السيد ماكجريجور إلى المفوض، وكانت نبرته مقلقة للغاية - إذ تحدث السيد ماكجريجور عن الطبيب قائلا إنه «تصرف بمنتهى الشرف في ليلة الشغب» - حتى إن يو بو كين استدعى مجلسا حربيا.
قال يو بو كين للآخرين: «حان الوقت لاتخاذ خطوة حاسمة.» كانوا جالسين في اجتماع سري في الشرفة الأمامية، قبل الإفطار. كان بينهم ما كين وبا سين وهلا بي، والأخير هو فتى مشرق الوجه مبشر بالنجاح في الثامنة عشرة، له سلوك شخص سيفلح يقينا في الحياة.
واصل يو بو كين كلامه فقال: «لقد وصلنا لطريق مسدود؛ وذلك الطريق هو فلوري. من كان يتوقع أن يقف ذلك الجبان التعيس بجانب صاحبه. لكن هذا ما حدث. وما دام هو يدعم فيراسوامي سنظل مغلوبين على أمرنا.»
قال با سين: «لقد تحدثت إلى ساقي النادي يا سيدي، وقد أخبرني أن السيد إليس والسيد ويستفيلد ما زالا لا يريدان انتخاب الطبيب عضوا في النادي. ألا تعتقد أنهما سوف يتشاجران مع فلوري مرة أخرى بعد أن تنسى مسألة الشغب؟» «بالطبع سيتشاجران؛ فإنهما دائما ما يتشاجران. لكن في الوقت ذاته لقد وقع الضرر. فلنفترض أن ذلك الرجل انتخب! سوف أموت من الغيظ حقا إذا حصل ذلك. كلا، لم يتبق أمامنا سوى حل واحد. سوف نهاجم فلوري نفسه.» «فلوري يا سيدي! لكنه رجل أبيض!» «وهل آبه لذلك؟ لقد دمرت رجالا بيضا من قبل. متى ألحقت العار بفلوري، ستكون نهاية الطبيب. وسوف يلحقه العار! سوف أفضحه حتى إنه لن يجرؤ على دخول ذلك النادي ثانية أبدا.» «لكنه رجل أبيض يا سيدي! ما الذي يمكننا اتهامه به؟ من قد يصدق أي شيء ضد رجل أبيض؟» «ليس لديك حس التخطيط يا كو با سين. إنك لا تكيل التهم لرجل أبيض؛ وإنما عليك أن تضبطه متلبسا بالجرم. نفضحه في العلن وهو في حالة تلبس. سأرى كيف سأبدأ الأمر. والآن اصمت بينما أتدبر السبيل لذلك.»
ساد الصمت، ووقف يو بو كين يحدق في المطر عاقدا يديه الصغيرتين وراءه فوق الارتفاع الطبيعي لردفيه. وظل الثلاثة الآخرون يرمقونه من الطرف الآخر للشرفة، خائفين بعض الشيء مما قاله عن الهجوم على رجل أبيض، ومنتظرين ضربة معلم لمواجهة الموقف الذي فاق قدراتهم. كان في المشهد شبه صغير من اللوحة الشهيرة (هل كانت للرسام ميسونيه) لنابليون في موسكو، التي يظهر فيها منكبا على خرائطه بينما مارشالاته منتظرون في صمت، بقبعاتهم المردودة في أياديهم. لكن بالطبع كان يو بو كين أكثر كفاءة للموقف من نابليون. فخلال دقيقتين كانت خطته جاهزة. حين استدار كان وجهه المكتنز تغمره فرحة مفرطة. أخطأ الطبيب حين وصف يو بو كين فقال إنه كان يحاول الرقص؛ فجسم يو بو كين لم يكن ملائما للرقص؛ لكنه لو كان ملائما لذلك، لكان رقص في هذه اللحظة. وقد أشار إلى با سين وجعل يهمس في أذنه لبضع ثوان.
Shafi da ba'a sani ba