ولفظة «منزل» لتقابل لفظة
house ) ... وهنا وجدت أنا الفرصة سانحة لأعبر عن شديد إعجابي بجمال الذوق في كل شيء حولي، وبالروح الدافئة النابضة التي تشيع في كل جزء من أجزاء المكان، ثم سألت: ما الذي يجعل «المنزل» «مسكنا»؟ فأجابتني السيدة بتر (صاحبة الدار) قائلة: أظن أن أهم عامل هو أن يكون المنزل قديما في بنائه وفي أثاثه ... وهنا هبط علي ما يشبه الوحي، وعرفت لماذا تخلو منازلنا المصرية من الروح، عرفت لماذا تتصف منازلنا بهذه البرودة التي تقشعر لها الأجسام؛ ذلك لأنها - على عكس ما قالت السيدة بتر - قد فرشت بالجديد اللامع البراق! إنني كلما رأيت «مسكنا» من هذه «المساكن» الدافئة بروحها، انتقل خيالي فجأة إلى «منزلي» بالقاهرة، وأحسست البرودة تسري في مفاصلي وعظامي، أحسست بالبرودة تسري على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.
السيدة بتر - مثل زوجها - غزيرة الثقافة جدا، فلا هم لهذين الزوجين الكهلين سوى القراءة وخدمة الدار! إي والله، فلا خادم عند هذين الكهلين ولا خادمة، تراهما يسعيان في أنحاء دارهما يعدان للضيوف ما يعدانه، وينظفان ويغسلان ويمسحان ثم ... يقرءان! ومن لطيف ما قالته السيدة بتر أنها تعلمت من خبرة الحياة أن بعض الرجال يؤذيهم أن تأمرهم امرأة، فإذا أرادت امرأة من رجل أن يؤدي عملا فعليها أولا أن تستوثق من أن الرجل ليس من أولئك الذين لا يحبون الائتمار بأمر أنثى ... وهنا علق السيد «ش» بأنه رجل من أولئك، مع أنه المثل الوحيد الذي شهدته في حياتي لرجل يقيم في المنزل بلا عمل إلا أن يعد الطعام وينظف الدار، على حين تقوم زوجته الدكتورة «س. ش» بكسب الرزق لهما معا!
وبعد أن فرغنا من زيارة الدكتور بتر وزوجته، انتقلنا - السيد «ش» وزوجته وأنا - إلى دار هذين حيث دعواني على العشاء ... لهما قط يعزانه إعزازا يدعو إلى العجب، وقد أجلسته الدكتورة «س» على حجرها، وراحت تربت له بكفها، وتقص علي قصة القط العزيز ... أخذته صغيرا ولما شب وعرف لذائذ الحياة الليلية أخذ يموء ويصرخ لنطلق سراحه بالليل، فأشفقنا عليه وفتحنا له الباب وذهب إلى ما لست أدري أين، والظاهر أنه في الليلة الأولى قد غرق في المتعة طيلة الليل فلم يعد إلينا إلا مع الصبح، وعاد متعبا ورقد على الأرض منهوكا يغط في نعاسه طول النهار، وما هو إلا أن ظهرت عليه بعد حين كل الدلائل الدالة على «عقدة أوديب» - أي الدالة على حبه لأمه حب الذكر للأنثى - فقد حاول مرات عدة أن يتصل بأمه، لكن أمه استعصت عليه وكانت تفلت منه هاربة إلى حيث لا يستطيع اللحاق بها، ولم يلبث أن دارت معارك دامية بينه وبين أبيه، كان يعود بعدها دائما مهزوما يقطر الدم من جراحه ... (وهنا تنظر الدكتورة الفيلسوفة إلى قطها مخاطبة إياه قائلة: كان ينبغي أن تتعلم بالخبرة بعد معركة أومعركتين) ...
هنا سألت الدكتورة الفيلسوفة إن كانت حقا ترى أن «عقدة أوديب» لها أثرها في الآدميين (وبالطبع لم أفهم حديثها عن القط إلا على سبيل المزاح) فهل تدل مشاهدة الحياة اليومية على أن الرجل يشتهي المرأة التي هي على طراز أمه؟ أم هي نظريات لا تتفق والواقع الملحوظ؟ فقالت الدكتورة «س»: إن العجيب في هذه النظرية هو أنها تتأيد بالإيجاب والنفي معا، فإذا كان الرجل يشتهي الأنثى على غرار أمه كانت النظرية صادقة، وإذا هو اشتهى الأنثى من طراز مختلف كانت النظرية صادقة أيضا؛ لأنه في هذه الحالة يشعر بتحريم شديد نحو أمه ونحو سائر من يشبهها من نساء، إلى حد يفقده الرغبة في طرازها، وما التحريم الشديد إلا دليل على وجود الرغبة الشديدة في أول الأمر، رغبة لم يقتلعها من نفسه إلا تحريم شديد ... ولذلك نرى بعض الناس تشتد شهوتهم للغرباء عن جنسهم، بمعنى أن تتقرر رغبة الرجل لامرأة من وطن غير وطنه، إمعانا منه في البعد عن طراز أمه، وكذلك قد تشتد شهوة الرجل إلى امرأة تختلف عنه لونا، ومن ذلك ما يقال عن جورج واشنطن أن في أوراقه الخاصة ما يدل على أنه في الوقت الذي لم يستطع فيه الاقتراب من امرأة بيضاء - مع شدة إعجابه بكثير منهن - أشبع شهوته الجنسية في نساء سوداوات.
الأحد 14 فبراير
جاءتني في الصباح السيدة «ج» لتأخذني إلى «مدرسة الأحد - ففي الكنائس أيام الآحاد يجتمع الأطفال في أعمار مختلفة ليتلقوا دروسا، ويسمون هذا النظام في الكنيسة «بمدرسة الأحد» - فهي متطوعة للتدريس في كنيستها أيام الآحاد، وأرادت أن تعرضني على أطفالها نموذجا لرجل جاء من أرض الإنجيل أو ما يجاورها ... الأطفال في فرقتها تقع أعمارهم في التاسعة أو العاشرة، وكان هناك أربعة من رجال وسيدات - عدا السيدة «ج» - كلهم منوط بهم الإشراف على هذه الفرقة الدراسية ... الغاية في جمع الأطفال هذا في الكنيسة هي تعويدهم ارتياد الكنيسة منذ الصغر؛ ولما كانت الصلاة أمرا قد يتعذر أداؤه وفهمه وتقديره على هذه الأعمار الصغيرة، رأيتهم يجمعون الأطفال في فصول دراسية ملحقة ببناء الكنيسة ذاتها، بل رأيت كنائس ملحقا بها أبهاء للعب الأطفال الذين هم دون سن الدراسة، فترى هناك الكرات والعرائس والعجلات وما إلى ذلك، ومجموعة الصغار يلعبون ويصيحون.
وقفت السيدة «ج» أمام مجموعة أطفالها - وكانوا حول الثلاثين طفلا، ويجلسون على تخوت مدرسية - وأعلنتهم أن زائرا معهم اليوم، جاءهم من مصر القريبة من الإنجيل، وأن هذا الزائر سيحدثهم عن بعض ما رآه بنفسه في البلاد المقدسة.
وعندئذ بدأ مدرس يعرض الصور بالفانوس السحري عن القدس وتل أبيب ويافا وغيرها من بلاد فلسطين، وكنت كلما طاف برأسي شيء خاص بإحدى هذه الصور مما قد يلذ للأطفال أن يعلموه تحدثت عنه ... ومن الصور التي عرضت صورة أسماها «البوابة الذهبية»، وقال لهم مدرسهم إن هذه البوابة مغلقة، أغلقها المسلمون، وهم يقولون إن الوادي الذي ينتهي إلى هذه البوابة مشدود فيه سلك رفيع، وسيمشي الناس على هذا السلك يوم القيامة، وعندئذ ستنفتح البوابة لمن يستطيع الوصول ... فأثارت هذه القصة اهتمام الأطفال، وأخذوا يسألونه: أين هو السلك؟ هل مشى على السلك أحد؟ من الذي أغلق البوابة؟ وكيف ستفتح البوابة حين تفتح؟ وما سمك السلك على وجه الدقة؟ ... إلخ إلخ. فلما أزهقوا المدرس بأسئلتهم وهو في كل رد يرد به على سؤال يقول لهم: هذه عقيدة المسلمين وعلينا أن نحترم عقائد الناس؛ أقول: إنهم حين أزهقوا المدرس بأسئلتهم قال لهم: مهما يكن من أمر هذه القصة فنحن باعتبارنا مسيحيين لا شأن لنا بها، وكل ما يجوز لنا أن نقوله إزاءها هو أنها عقيدة المسلمين، وأننا نحترم عقائد الناس، لكننا لا نلتزم بها.
فلما انتهى من عرض صوره قال لهم: ربما تفضل زائرنا الآن بالتحدث إليكم؛ فقمت وقلت لهم: ما دامت قصة السلك قد أثارت اهتمامكم فأحب أن أقول لكم إن السير على سلك رفيع أو ما يشبه السلك الرفيع، يراد به الرمز إلى العمل الصالح؛ وانفتاح البوابة لمن يستطيع الوصول رمز لدخول الجنة جزاء العمل الصالح؛ فالعمل الصالح كثيرا ما يكون عسيرا صعبا؛ لأن الإنسان يقاوم به شهواته ورغباته؛ ولذلك شبهوا أداءه بالمشي على سلك رفيع ... فوقفت السيدة «ج» وقالت: إذا فهذا شبيه جدا بما قاله المسيح وورد في الإنجيل، وهو أن الطريق إلى الجنة ضيق، وأما الطريق إلى جهنم فواسع عريض.
Shafi da ba'a sani ba