وأعود فأقول إنني لا أتصور كيف يمكن أن تكون الدنيا خارج القطار بهذا البرد كله، إن عربات هذا القطار ليست فقط مدفأة تدفئة صناعية، بل أعدت على نحو يجعلها تحتفظ بدرجة واحدة من أول الرحلة إلى آخرها؛ فآلة التدفئة في القطار تزيد من درجة التدفئة أو تقلل كلما نقصت درجة الحرارة الخارجية أو زادت ... ومما هو جدير بالذكر أيضا أن زجاج النوافذ في هذا القطار معدة بحيث يستحيل أن يتراكم عليها ضباب لكي تكون الرؤية واضحة دائما.
جاء الليل ولم يعد ما نراه، وبدأ الملل يدب في نفسي بسرعة لأن الرحلة طويلة، وقد كانت المناظر الطبيعية أثناء النهار تلهيني عن طول الطريق، أما وقد أقبل الليل بسواده، فلم يعد إلا أن أنصرف بنظري إلى الداخل، إلى داخل نفسي، فأتتبع الملل وهو يزداد ... وصلنا بورتلاند في منتصف الثانية عشرة مساء، بعد أن قضينا في القطار ست عشرة ساعة، فانتقلت إلى القطار الآخر الذي سيقلني إلى «سياتل»، بحيث يصل إليها في ساعة مبكرة من صبح الغد، وكان لي بهذا القطار الثاني «غريفة»، فلم أكد أنتقل إليه حتى أنزلت سريري في غريفتي ونمت نوما عميقا.
الإثنين أول فبراير
وصلت مدينة «سياتل» في الصبح المبكر، وظللت بها النهار بطوله؛ إذ غادرتها في التاسعة مساء إلى «سبوكان» التي أصلها صبيحة الغد.
لما وصلت إلى «سياتل» ودخلت غرفة الانتظار بالمحطة، كانت الدنيا أشبه ما تكون بساعات الفجر، فضباب معتم ومصابيح موقدة ... أين أذهب في هذه الساعة المبكرة؟ جلست في غرفة الانتظار أكتب مذكراتي، وما كادت أضواء الصبح تشيع في الفضاء حتى خرجت أسعى في المدينة طائفا، وكان أول ما استوقف نظري لافتة كبيرة تضيء مصابيحها وتنطفئ، فإذا أضاءت أبانت بضوئها ما يدل على الوقت وعلى درجة الحرارة، وكان المكتوب عندئذ الساعة 8,50 ودرجة الحرارة 42 (فهرنهايت، وهي تساوي 5 مئوية).
أخذت خريطة المدينة من إحدى محطات البنزين، ووقع نظري صدفة على مبنى المكتبة العامة، فدخلتها ونشرت الخريطة على منضدة في قاعة المطالعة لأدبر لنفسي طريق السير أثناء النهار، ثم خرجت مستعينا بالله على مشي متصل طول النهار.
سياتل! من ذا يسمع في مصر عن سياتل إلا المختصون في الجغرافيا؟ ومع ذلك تعال فانظر كيف تقف الأنفاس لما ترى! مدينة واسعة شاسعة نظيفة ليس بها بناء واحد لا يدل على العظمة والثراء، الثروة الثروة الثروة! هذا هو ما تنطق لك به سياتل: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة في الطريق؛ فهنا لأول مرة في أمريكا أرى ما يقولون عنه من أن الناس في هذه البلاد يسرعون الحركة ويشغل العمل رءوسهم وخواطرهم ... عشرات الألوف من الناس ليس فيهم واحد أو واحدة على ثيابه أو ثيابها آثار البلى أو ما يشبهه، حتى نيويورك لم تكن كذلك، واشنطن لم تكن كذلك ... قف دقيقة هنا، على هذه الناصية، وانظر: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة، لا تسمع إلا وقع أحذيتهم على الأرض؛ معاطف، قفازات، قبعات؛ معاطف، قبعات، تلفيعات من الصوف حول الأعناق؛ معاطف، قبعات، مظلات في الأيدي؛ معاطف، قبعات، أقراط جميلة في الآذان ... أريد أن أرى معطفا واحدا، قبعة واحدة، قفازا واحدا، تلفيعة واحدة، عليها آثار البلى؛ أريد أن أرى من هذه الألوف شخصا واحدا مشعثا ممزق الثياب ... لا بد أن تكون الثروة هنا بالهيل والهيلمان.
مشيت ثلاث ساعات أو نحوها من شارع إلى شارع أنظر وأتعجب؛ الفنادق الفاخرة من الطراز الأول لا يكاد يحصرها عدد؛ المحلات التجارية العظيمة من الطراز الأول ليس لها حصر؛ كل شارع من هذه الشوارع التي تعد بالمئات لا تعرف كيف يمكن أن يكون أكثر من ذلك دلالة على الغنى.
ركبت سيارة عامة قاصدا إلى الجامعة - جامعة واشنطن - فمررت في طريقي ببحيرة الاتحاد؛ هي بحيرة تنحدر شواطئها، وتقوم المنازل على هذه الشطآن المنحدرة ... لبثت في السيارة ساعة، ذهبت كلها في ركن صغير من أركان البلد، ومن هذا تعلم كم تمتد سياتل.
نسبة الجمال هنا مرتفعة إلى درجة نادرة، فضم الجمال إلى الغنى في هذا البلد العجيب! أنا لا أعرف من الناحية الإحصائية كم يكون ثراؤها، لكني أكون أعمى البصر والبصيرة إذا لم تكفني نظرة واحدة هنا لأقول إن هذا البلد غارق إلى ذقنه في الذهب ! وليس عندي شك - بعد أن تفرست في الوجوه ما تفرست - أن أهلها يختلفون عن الناس في البلاد الأخرى، هنا الجد باد كالشمس الواضحة: سرعة المشي في الشوارع، وانعدام التلكع والتسكع والتلكؤ ؛ إنك لا ترى من يقف مسندا ظهره إلى الحائط ناظرا إلى المارة كما ترى في «لوس أنجلس»، ولا تجد من يبدو عليه أنه قد جاء للتنزه والتمتع كما تجد في «نيوأورلينز» أو «سان فرانسسكو» ... هنا عمل عمل، هنا جد جد جد، هنا ثروة ثروة ثروة ... وهنا جمال فاتن في النساء؛ هذه هي «سياتل».
Shafi da ba'a sani ba