سأخلف سان فرانسسكو صباح الغد وفي القلب حسرة؛ إنها مدينة تحب، هي كالمرأة الجذابة في غير عهر، كالمرأة حيث تضحك فتملأ المكان مرحا دون أن تقهقه في تسفل مرذول، كان يخيل إلي دائما وأنا سائر في طرقاتها ذات الأضواء البهيجة أن أهلها في عيد؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه هي الحياة الرتيبة الكئيبة التي ألفها الناس في سائر أنحاء الدنيا خلال ساعات العمل والكفاح، ومع ذلك فهي المدينة الثانية - بعد نيويورك - من الوجهة المالية في أمريكا كلها، بها حي مركزه شارع مونتجومري ويسمى - على سبيل المجاز - شارع وول، ليقابل بذلك نظيره شارع وول في نيويورك، هذا مركز المال على الساحل الشرقي، وذلك مركز المال على الساحل الغربي.
الأحد 31 يناير
تركت الفندق في سان فرانسسكو في الصباح الباكر؛ لأن القطار يغادرها قبل الساعة الثامنة، وبيني وبين المحطة مسافة طويلة فيها عبور للخليج ... كان القطار الذي جئت به من لوس أنجلس إلى سان فرانسسكو يدعى «البومة»، ولعل هذه التسمية راجعة إلى أنه يقطع الطريق في ظلمة الليل؛ إذ يغادر لوس أنجلس ساعة الغروب ويصل إلى سان فرانسسكو ساعة الشروق، أما القطار الذي سأسافر به اليوم من سان فرانسسكو قاصدا إلى مدينة سياتل فاسمه «شاستا في ضوء النهار»، و«شاستا» اسم بحيرة في الطريق، وكذلك اسم سلسلة جبلية من أعلى الجبال في روكي، و«ضوء النهار» جزء من الاسم مقصود؛ لأن عربات القطار قد صممت على أساس أن يرى المسافر كل ما تمكن رؤيته من الطريق الجبلي الذي سنمر فيه.
وصلت إلى مكاني من القطار، وهو في العربة الأخيرة التي تسمى «الصالون»، والعربة كلها عبارة عن شرفة من زجاج لاتساع نوافذها، وليس بها مقصورات ولا حواجز، كل ما فيها صفان من المقاعد ذوات الأذرعة، تدور على محاور في قواعدها، فبأقل جهد يستطيع الجالس أن يدور بكرسيه ليتجه به إلى أي وجهة شاء؛ حتى يرى المنظر كله من يمين وشمال وأمام ووراء.
غادرنا سان فرانسسكو حين كان ضباب الصبح الكثيف يحول دون الرؤية؛ لكن ما هي إلا أن طلعت الشمس رويدا وانجاب الضباب، وتمتعنا بنهار مشرق كالبلور الصافي، فكانت فرصة نادرة مكنتني من رؤية الطريق الجبلي الذي كنت أتوق إلى رؤيته.
في هذا القطار وسائل كثيرة للراحة والمتعة، فعدا «الصالون» الفخم الذي كنا نجلس فيه، كانت هناك طبعا عربة المطعم، ثم عربة للشراب، ثم عربة ثالثة يسمونها المقصف حيث تشرب القهوة وتؤكل الوجبات الخفيفة لمن أرادها ... هذا القطار هو «أمريكا» من نواح كثيرة، من حيث العلم والراحة في الحياة والفخامة والغنى.
ظللنا مسافة طويلة بعد مغادرتنا لسان فرانسسكو ومياه الخليج عن يسارنا وحافة الجبل عن يميننا؛ وبعد قليل كنا ننساب في أرض زراعية إلى مدى البصر، لا أثر فيها للجبال ولا ما يشبه الجبال؛ فالمنظر شبيه بما يراه المسافر في الدلتا المصرية، ألسنا في جبال روكي؟ أين هي جبال روكي؟!
فلما قضينا أربع ساعات أو خمسا تغير المنظر، وبدأنا نزحف في وسط الجبال إلى نهاية الرحلة ... الجبال أول الأمر يغطي قممها قليل من بياض الثلج كأنه جير متناثر، وبقية السفوح تغطيها أشجار الصنوبر ... اقتربنا من بحيرة شاستا، والجبال تطوقها من كل أقطرها، من أمام وخلف ويمين وشمال، وكلها أخضر بما عليها من شجر يغطي السفوح كلها من القمة إلى الوادي؛ نفذنا خلال الجبل في نفق معتم طويل، وخرجنا منه لنعبر بحيرة شاستا على كوبري قيل إنه أعلى كوبري في العالم؛ إذ يزيد ارتفاعه على ستمائة قدم ... المنظر ونحن على الكوبري عبر البحيرة ومن حولها الجبال من كل ناحية - بعضها مثلوج القمم - منظر سويسري صرف، وانتهينا من البحيرة لننفذ خلال جبل آخر من نفق يخترقه، ولم نخرج من النفق إلا لندخل نفقا ثانيا فثالثا.
هذه هي جبال روكي كما كنت أتمنى أن أراها؛ فالقطار يزحف عليها زحفا ويخترق بعضها اختراقا، كل الفرق بين ما تخيلته وما رأيته هو أنني كنت أتخيل جبال روكي صلعاء الصخور، فوجدتها مغطاة بالشجر في معظم أجزائها.
القطار لا يستقيم له الطريق خمس دقائق كاملة؛ فهو يتلوى كالثعبان، ينثني ثم يعتدل لينثني من الناحية الأخرى؛ الانثناء قد يبلغ أحيانا من الحدة أن يتقابل طرفا القطار، فتكون القاطرة مقابلة للعربة الأخيرة التي هي عربة الصالون التي أجلس فيها، خصوصا في موضع عند منبع نهر ساكرامنتو ... كنا على فترات متقاربة نقطع نهرا ضيقا سريع الجريان هو نهر ساكرامنتو، يعبره القطار من يمينه إلى يساره ثم من يساره إلى يمينه.
Shafi da ba'a sani ba