ولما وصلنا إلى ستوديو يونيفرسال دخلنا إليه بالسيارة لنطوف في أرجائه؛ فهو أيضا مكان هادئ كأنما هو مكان مهجور، وكل ما رأيناه هناك «مناظر» معدة للإخراج السينمائي ... الحق أني لم أكن أتخيل أن الخداع السينمائي يبلغ هذا الحد البعيد: فهذه بحيرة صغيرة جدا شبيهة بالبحيرة التي تحف بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان بالقاهرة، وإلى جانبها مجموعة من الغاب المزروع ونخلة أو نخلتان، وهنا تؤخذ مناظر أواسط أفريقيا! ... وترى ركنا آخر على سفح جبل كل ما فيه ثلاثة منازل أو أربعة، هي منازل صغيرة جدا، بل قل هي نماذج للمنازل، ثم يقال لك هذا هو المنظر الذي مثلت فيه رواية كذا! ... ترى فنطاسا فيقال لك إن في هذا الفنطاس تمثل مناظر ما تحت الماء من غواصات وغيرها! ... ترى عربة قطار صغيرة جدا وقاطرة صغيرة جدا كذلك، وإذا بهذه «اللعبة» هي القطار الذي يستخدمونه إذا أرادوا قطارا؛ في ركن من أركان الاستوديو أكداس من ألواح الخشب كأنها بقايا بيت مهدم، هذه الألواح الخشبية التي يقيمونها لتكون الشوارع والمدن! ... ترى هناك بيتا صغيرا من الطوب الأحمر، هو الكنيسة التي يمثلون فيها حفلات الزواج؛ إذا أرادوا ثلجا متساقطا أسقطوا في الهواء رقائق الخبز المقدد بعد طلائه لونا أبيض فتتطاير الرقائق خفيفة في الهواء كما يتطاير ثلج الشتاء ... كل شيء غاية في البساطة، وإني لأدهش دهشة لا حد لها كيف يمكن تأليف المناظر العظيمة التي يؤلفونها في الأفلام السينمائية من هذه البسائط الساذجة؛ فالظاهر أن الخداع السينمائي أكثر مما كنت أظن بألف ألف مرة.
خرجنا من الاستوديو وقصدنا ما يسمونه «وعاء هوليوود» وهو منخفض على هيئة الوعاء، تعقد فيه الحفلات الموسيقية الكبرى حيث تستخدم جدران «الوعاء» لجلوس المستمعين على مقاعد تتدرج مع تدرج الجدران.
عدت إلى مدينة «لوس أنجلس» أجول في أرجائها؛ فدخلت المكتبة العمومية، وبناؤها شديد الشبه بنادي الأطباء في القاهرة، يجد الداخل على يساره غرفة للمجلات امتلأت مقاعدها بالقارئين، وعلى يمينه غرفة للصحف اليومية امتلأت مقاعدها كذلك، ثم تدخل إلى بهو أوسط، فترى جدرانه مغطاة برفوف عليها أحدث الكتب صدورا، وكل مجموعة من رفوف وضعت إلى جانبها مقاعد تمكن من الاطلاع السريع على هذه الكتب الجديدة؛ وبعدئذ دخلت غرفة فسيحة خصصت للمؤلفات التي كتبت باللغات الأجنبية (أي غير الإنجليزية) فتتبعت كل ما أذكره وما لا أذكره من لغات الأرض، لكني لم أجد بينها كتابا واحدا باللغة العربية كأننا لسنا من هذا العالم الذي نعيش فيه ... وهكذا جعلت أنتقل في المكتبة من غرفة إلى غرفة لأجدها مليئة بالقارئين، ولأجد اليسر كل اليسر في القراءة؛ فالكتب كلها على رفوف مكشوفة، وللقارئ أن يستعرضها كيف شاء، وأن يأخذ منها ما شاء، ثم يجلس بما اختار من كتب حيث شاء في القاعة، ويقرأ ملء شهوته، ويترك الكتب حيث هي على المنضدة، حتى تمر العاملة تدفع أمامها عربة صغيرة، لتلتقط الكتب المتروكة وتردها إلى أماكنها. «لوس أنجلس» بما فيها ضاحية هوليوود مدينة غير طبيعية، فيها أشياء كثيرة تدل على أن أهلها مجتمع مصطنع؛ أعني أنهم مجموعة من سكان لا يجمعهم روح الانتماء إلى مدينة واحدة، هم جماعة تأتي إلى المدينة باحثة عن عمل أو منجزة لعمل، ثم تمضي عنها، وليسوا هم كأهل كولمبيا (بولاية كارولاينا الجنوبية) مثلا يضربون في المكان بجذور عميقة، حيث يسكنون بيوت آبائهم وأجدادهم؛ في كولمبيا مجتمع طبيعي؛ ولذلك تحس فيه حرارة الحياة، وأما هنا في لوس أنجلس فالمدينة أشبه بالاستوديو السينمائي الذي شهدته في هوليوود، تقوم فيه المدن المصطنعة قياما سريعا بغية أداء غرض معين، والأمر كله من أوله إلى آخره «تمثيل» ... لكن «لوس أنجلس» مع ذلك مدينة عامرة بما فيها من ازدحام الناس ونشاط العمل.
الجمعة 29 يناير
وصل بي القطار في الصباح الباكر إلى محطة سان فرانسسكو، وفي دخول القطار إلى حظيرة المحطة لمحت ماء المحيط الهادي لمحة سريعة، ورأيت مركبا كبيرا، فكانت هذه أول نظرة ألقيها على المحيط الهادئ، وكانت السماء غبشاء بسحاب الصبح وضبابه ... محطة سان فرانسسكو لا جمال فيها، وهي شبيهة بمحطة بادنتن في لندن، وهناك مشيت في غمرة المسافرين إلى حيث ذهب تيارهم، فانتهيت معهم إلى غرفة انتظار قبيحة المنظر، مقاعدها خشبية مطلية باللون الأزرق، ومن هناك ركبنا معدية بخارية كبيرة عبرت بنا الخليج إلى حيث مدينة سان فرانسسكو ... وهو الخليج الذي يصل طرفيه كوبري أوكلاند المشهور؛ لأنه أطول كوبري في العالم، طوله ثمانية أميال وربع الميل؛ وكانت المعدية تسير بنا عبر الخليج بحذاء الكوبري، وكانت مياه الخليج عندئذ هادئة جدا، فكأنها لوح مصقول من زجاج أزرق، فهل كان ذلك لأن الخليج مستور بالجبال؟ أم لأنها ساعة الصبح الباكر حين يهدأ البحر؟ أم لأن المحيط «هادئ» بطبعه دائما؟
أول ما فعلته فور وصولي إلى الفندق الذي نزلت فيه - فندق سان فرانسز - أن جلست في البهو أدرس خريطة البلد؛ لأصمم لنفسي طريقة السير؛ فطريقتي دائما هي السير على الأقدام فيما استطعت أن أطوف به من أجزاء المدينة التي أزورها.
كان أول مكان قصدت إليه في سان فرانسسكو بقعة يتلاقى عندها شارعان كبيران: شارع «فان نس» وشارع «ماك ألستر»، فها هنا مجموعة من الأبنية العامة، فأولا هناك ما يسمونه «بناء الحكومة» وهو يشغل ضلعا بأسره من ميدان مربع تتوسطه حديقة جميلة في وسطها نافورة بديعة حط على حافاتها وحول جدرانها عشرات من الحمام ومن طيور الماء البيضاء؛ وقفت وسط الحديقة ونظرت مبهورا إلى واجهة «دار الحكومة» فرأيت بناء فخما تعلو وسطه قبة عالية كبيرة كقبة الكابتول في واشنطن، ومدخله مكون من عدة أبواب حديدية تمتد فوقها شرفة، والأبواب والشرفة مذهبة الأطراف على نحو جميل ... دخلت البناء ووقفت تحت قبته الرفيعة في البهو المصقول الرائع الذي قام في كل من أركانه الأربعة نجفة كبيرة على حامل، والنجفة وحاملها مذهبان بما يتناسب مع زركشة القبة من الداخل، كما يتناسب مع أبواب المدخل.
عدت فعبرت الميدان إلى الجانب المقابل لدار الحكومة، فهناك بناء المكتبة العامة؛ تدخل فيلاقيك بهو، وترى أمامك في صدر البهو سلما عريضا مسطوح الدرجات تعلوه أعمدة، وسقف السلم مقوس مزخرف ببروز في حجر البناء نفسه ... اصعد هذا السلم مسحورا مبهورا لتجد أمامك غرفة البطاقات (الفيش): هي قاعة فسيحة نظيفة مصقولة لامعة ساطعة هادئة منظمة، تتدلى من سقفها نجفة كبيرة جدا من البلور؛ ومن غرفة البطاقات تدخل غرفة المطالعة، وهي بدورها قاعة طويلة لا يقل طولها عن خمسين مترا، رصت جدرانها برفوف الكتب، وجلس على مقاعدها قراء متناثرون هنا وهناك، فما نزال في ساعة مبكرة من الضحى؛ والإضاءة في غرفة المطالعة مصدرها ثلاثة أشرطة تمتد بامتداد القاعة: ضوء هادئ وذوق هادئ ... البناء كله مصمم على أساس الذوق الهادئ؛ فالجدران لونها لون الحجر الجيري بغير طلاء، والبلاط بني اللون في اصفرار، إنه مصقول مصقول مصقول، كل جزء في الأرض مرآة من الحجر ...
هناك وقفت متذكرا غرفة البطاقات في مكتبة باب الخلق بالقاهرة؛ حيث جلس الموظفون أمام مناضد تكدست عليها أوراق قذرة؛ وحيث أحاط بالجدران صواوين قذرة، وملأ الأدراج بطاقات قذرة ... وقد يقول قائل: على رسلك يا أخي، إننا شعب فقير، فلا تقارن بين أمريكا ومصر؛ وأنا أجيب قائلا: ما شأن الفقر بالحاجز الخشبي الأدكن القذر القبيح الذي أقاموه في غرفة البطاقات هناك ليحجز جزءا من القاعة خاصا بالسيدات، حتى أصبح المكان كله كومة من قبح الذوق وقلة الثقافة وقذارة الطباع وتأخر التفكير؟! إن هذه الأماكن العامة هي غرفة الاستقبال بالنسبة إلى الشعب كله؛ أعني أنها من البلد بمثابة غرفة الاستقبال في المنزل، هي أنظف ما فيه، وأجمل ما فيه، هي العنوان هي الذوق العام، هي الأمة كلها عند الزائر الغريب؛ لأن الزائر لا يدخل البيوت وإنما يزور الأماكن العامة.
خرجت من المكتبة وعدت فعبرت الميدان راجعا إلى دار الحكومة، فاخترقت بناءها لأخرج في الشارع من الناحية الأخرى، وهناك تجد عند خروجك بناءين توءمين حديثين بينهما حديقة لها بوابة واسعة مذهبة تتناسب مع الزخرفة الذهبية التي تزخرف دار الحكومة المقابلة لها ... وأحد هذين البناءين التوءمين دار الأوبرا، والآخر يسمى «بناء المجاهدين»، وكلا البناءين قد أقيما لتخليد ذكرى شهداء الحرب، وفي «بناء المجاهدين» اجتمع مندوبو الدول عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث أعدوا الوثيقة التي على أساسها أنشئت منظمة الأمم المتحدة.
Shafi da ba'a sani ba