وهاتان صورتان ، كل منهما صورة نافذة تطل على الخارج، إحداهما من رسم «ماتيس» والأخرى من رسم «دران» وكلاهما من رجال الفن الحديث ...
وانتقلت إلى الغرفة التي تليها، فبدل أن أنظر إلى الصور بترتيبها على الحائط، جذبتني صورة هناك في الوسط، فذهبت نحوها فورا: فيها ثلاثة شخوص، رسموا بجرات غليظة من الفرجون، وهي للفنان «روولت» واسمها القضاة الثلاثة، ومرة أخرى أقول إن من لم يعطف بعد على الفن الحديث سيسخر من هذه الشخوص التي ظهرت أمامه في الصورة، وسيسأل قائلا: هل هذه صور لرجال؟ والجواب هو ما أجاب به «ماتيس» على المرأة التي سألته مرة عن إحدى صوره: هل هذه امرأة؟ فقال: يا سيدتي، هذه صورة وليست بامرأة ... انظر إلى هؤلاء القضاة الثلاثة وسل نفسك أي شعور يدور في نفسك؟ هل من شك في أنك إذ تنظر إلى بشاعة هذه الوجوه تحس بصداها في دخيلة نفسك شعورا بالتقزز والنفور؟ وإذا فلا بد أن يكون الفنان لأمر ما قد استبشع العدالة في هذه الدنيا، فاستفز الناظر إلى الصورة وحفزه إلى مشاركته هذا المقت وهذا النفور مما يسمونه على هذه الأرض عدالة وقضاة، ولكي يزيد الفنان من كآبة الأثر الذي تتركه الصورة في نفس رائيها؛ أحاط شخوص القضاة بخط من اللون الأسود الحالك.
وعدت إلى «بيكاسو» من جديد: غرفتان أو ثلاثة مليئة بمختلف الصور من رسم «بيكاسو» ... كم صورة رسمها بيكاسو؟ كم مائة، بل كم ألف صورة رسمها بيكاسو؟! في كل متحف صور لهذا الفنان؛ ولهذا طاف بذهني هذا الخاطر وهو: هل يستطيع الشخص العادي من الناس - هل أستطع أنا مثلا أن أخلق أكثر من عشرين أو ثلاثين شكلا دون أن أكرر نفسي؟ إذا فجانب هام من نبوغ هؤلاء الناس هو هذه الخصوبة في الخيال ... انظر كم خليطا لونيا خلقه بيكاسو، وكل خليط منها جميل! وإذا أنا أثبت هنا كل ما دار في نفسي من خواطر حين استعرضت صور بيكاسو؛ لاستطرد الحديث، فيكفي أن أسجل اسمين أو ثلاثة لتذكرني بما وقع مني موقع الإعجاب الشديد من صور هذا الفنان: «الموسيقيون الثلاثة»، و«صيد السمك في ضوء القمر»، و«آنسات أفنيون».
وهنالك بضع صور لفنان روسي هو «تشاجال» لها طابعها المميز عن الصور جميعا؛ هو رسام يحلم على لوحته! انظر إلى هذه الصورة التي يسميها «عيد الميلاد» وفيها امرأة ممسكة بطاقة من الزهر، وراحت تجري في غرفتها في سبيل إعداد العدة لحفلة المساء، وصورة زوجها معلقة في الهواء من خلفها، بادئة من التقاء الشفاه، أعني أن شفتي الزوج على شفتي زوجته، ثم امتد جسمه طائرا في الهواء وراءها كأنه «تلفيعة» تلفعت بها فطارت في الهواء وراءها وهي مسرعة في السير! أيكون معنى الصورة أن الزوجة تحمل معها قبلة زوجها أينما سارت؟ إن الرجل أحيانا يقبل امرأة ويظل طعم القبلة عالقا على شفتيه مدة طويلة، وإذا فيجوز أن تكون الصورة تعبيرا عن هذا المعنى ... وتستطيع أن تفسر الصورة تفسيرا آخر، فتقول إنها امرأة اكتسحت زوجها اكتساحا؛ فهو بالنسبة إلى شخصيتها كالزائدة أو «كشرابة الخرج» - كما يقولون - فهي وحدها الشخصية التي تسيطر داخل دارها، وما زوجها إلا تكملة؛ فهو يقبل ويحب لتنشأ الأسرة التي هي عمادها النشيط الفعال ... واضح جدا أن هذه صورة من الأسلوب الذي يسمونه في الفن بما فوق الواقع «السير ريالست»؛ لأنه ليس في واقع الأشياء شيء كهذا؛ ليس هنالك في دنيا الواقع امرأة تحمل زوجها على هذا النحو وتسير به عالقا وراءها في الهواء، لكننا إذا لم نكن قد رأينا هذا الشكل بحذافيره، فقد شعرنا هذا الشعور، سواء كان التفسير الأول صحيحا أو التفسير الثاني؛ وما الفن إلا تصوير لمشاعر الإنسان أولا وقبل كل شيء.
وروسي آخر اسمه «كاندنسكي» (مات 1944م) له صورتان متجاورتان وليس فيهما إلا مزيج لوني، لم يحاول حتى أن يجعل مدار ألوانه شيئا يختاره بين الأشياء التي يراها كمقعد أو منضدة، بل ترى الصورة عنده وكأنها ألوان سكبت، مما يدل أقوى دلالة على أن الصورة في الفن الحديث هي نغم لوني لا تصوير، ويزيد ذلك وضوحا أن ترى الفنان قد كتب على صورتيه اسميهما هكذا: «إنشاء لوني رقم 1» و«إنشاء لوني رقم 2» على نحو ما تسمى المقطوعات الموسيقية التي ليست سوى تأليفات صوتية ... وقد تسأل نفسك وأنت تنظر إلى صورتي «كاندنسكي»: لكن ما العاطفة التي يريد هذا المصور أن يصورها أو أن يثيرها في نفس الرائي؟ أليس الفن تصويرا للعواطف؟ والجواب هو شبيه بما نجيب به في الموسيقى، فإنه يقال إن القطعة الموسيقية لو أحدثت في السامع عاطفة محددة معلومة كانت موسيقى من النوع الساذج؛ لأنها تكون واضحة الغرض، مع أنه لا يجوز للقطعة الفنية أيا كان نوعها أن تكون واضحة الغرض، وإلا كانت درسا لا فنا؛ أما الموسيقى الراقية الرفيعة فهي التي تخلق «جوا عاطفيا» معينا، دون أن تحدد العاطفة تحديدا قاطعا، إنها مثلا لا تثير «الكراهية» بشكل محدد، بل تثير «جو القلق» ... وهكذا قل في صورتي «كاندنسكي» وأمثالهما؛ فالمزيج اللوني الفني يثير ارتياحا أو نفورا أو ما شاكل ذلك ... الفن الحديث موسيقى للعين لا تصوير للأشياء.
وأريد أن أختم حديثي عن متحف الفن الحديث بما رأيته في غرفة وضعوا لها عنوانا هو «فن المستقبل»، والصور المعروضة هنا هي لفنان إيطالي اسمه «بالا»، فله صورة عنوانها «السيارة المسرعة»، وأخرى عنوانها «المدينة تنهض»، وفيها رموز واضحة لنهضة صناعية كأنما هذا الفنان الإيطالي قد سئم أن تكون إيطاليا بلد الجمال الذي يزوره السائحون، كأن إيطاليا بأسرها تحفة في متحف؛ وهو يريد أن يكون المستقبل في بلده انقلابا صناعيا ... ما أحوجنا في مصر إلى هذا الفن «المستقبلي» ينفض عنا غبار القدم!
أما بعد، فأين الفن الأمريكي في هذا كله؟! إنه قليل جدا، ومعظم هذا القليل في الفن هو من نوع «ما فوق الواقع» (السير ريالست)؛ فهنالك الفنان «تانجاي» بصورته «نحو الشمال في بطء»، وهي صورة مما فوق الواقع صور فيها مركبا في بحر هادئ، وصورة أخرى غاية في الجمال عنوانها «أماه! أبي جريح» وقفت أمامها مدة طويلة أحاول أن أرى أين تكون الأم أو الأب الجريح؟ فلم أجد من ذلك شيئا، وحسبي أنها جميلة، وهنالك أيضا ترى فنانا أمريكيا آخر هو «ماكس إرنست» بصورتيه: «نابليون في التيه» و«امرأة ورجل كهل وزهرة».
الإثنين 28 ديسمبر
زرت اليوم متحف المتروبولتان بنيويورك، وهو بناء فخم ضخم؛ فهو ليس بناء من نوع متحف الفن الحديث في بساطته ... أول ما يصادفك داخل المتحف بهو عظيم تعلوه قبة البناء الرئيسية، فانحرفت إلى اليمين لأبدأ زيارتي بالقسم المصري، وهو يشغل عشر غرف متتابعة.
لم أكد أجاوز الغرفة الأولى إلى ما بعدها - والغرفة الأولى خاصة بما قبل التاريخ - حتى مرت مجموعة كبيرة من الطالبات، كل منهن تحمل لنفسها مقعدا، ومعهن مدرسة جاءت معهن - على الأرجح - لتحاضرهن في موضوع يتصل بما في المتحف من آثار ... فأحدث الفتيات ضجة حين مررن بالغرفة التي كنت بها، حتى إذا ما غادرنها نظرت إلي سيدة في نحو الثلاثين من عمرها، أميل إلى الجمال وعلى ملامحها علامات الثقافة، وفي عينيها بريق جذاب، وقالت: ما رأيك في جماعة من الناس تمر في متحف الفرض فيه أن يكون هادئا صامتا ساكنا، فيحدثن مثل هذا الضجيج؟ فقلت لها وقد لمحت في عينها لمعة تشجع على التفكه في الحديث: لولا أنك امرأة لقلت لك ماذا تتوقعين من مجموعة من نساء إلا صخبا وضجة؟ فقالت: قلها ولا تبال، فإني أقولها معك ... وبعد لحظة نظرت خلالها إلى معروض قالت: أنا مفتونة بالفن المصري، انظر إلى هذا الانسياب في نحت التمثال! وكانت تشير إلى تمثال من الخشب واقف إلى جانب تمثال «الكاتب الجالس»، فقلت لها: وربما ازددت رفقا بالفن المصري حين تعلمين أن من تحدثينه الآن مصري!
Shafi da ba'a sani ba