على أن الفن الأمريكي ليس كله متشابها؛ لأنني أرى من فنانيهم كل مدرسة وكل مذهب، كأنما يساير الفن الأمريكي الفن الأوروبي خطوة في إثر خطوة؛ فالفن الأمريكي في القرن التاسع عشر يتجه اتجاهات الفن الأوروبي إذ ذاك: فرسم لأشخاص في النصف الأول من القرن، وتدرج بعد ذلك إلى رسم المناظر الطبيعية في النصف الثاني ... خذ مثلا صورة «أمازون وطفلاها» للفنان «لويتزة» (1816-1868م)، وصورة «الشاطئ عند باترسي» للفنان «وسلر» (1834-1903م)، وصورة «السيدة والكلب» للفنانة «كاسات»، وغيرها وغيرها ... لماذا لا تكون هذه أو تلك لفنان أوروبي؟
لست أرى حدودا قومية تفصل الفن الأمريكي وتميزه من سواه، يتأثر بنفس المؤثرات التي تؤثر في الفن الأوروبي، فتجد من رجال الفن الأمريكي في القرن التاسع عشر فريق الواقعيين وفريق الانطباعيين وفريق العاطفيين ... ولماذا نتوقع شيئا غير هذا ما دامت الأمة الأمريكية نفسها خليطا من أوروبيين؟ إنني لا أرى الأمة الأمريكية قد أحست بعد «بأمريكيتها» إحساسا قويا، فما بالك بإحساسهم في القرن التاسع عشر؟ إنني حتى اليوم أسمع الناس ينسبون أنفسهم إلى أصولهم الأوروبية في أول حديث لهم معك؛ كنت بالأمس مع السيدة «د» فكان أول ما قالته لي عند نفسها إنها أيرلندية.
ومن أكثر الصور التي وقفت عندها وقفة الإعجاب الشديد، صورة ل «إنس» واسمها «الخريف في مونتكلير» وصورة ل «ونزلو هومر» واسمها «ضياء على البحر»؛ ففي هذه الصورة ترى امرأة وقفت وحدها في إجلال على شاطئ البحر ويملأ جسم المرأة حيزا كبيرا من الصورة، حتى لترى البحر وراءها وكأنه «أرضية» فقط لإبراز شخصها، كأنما يريد الفنان أن يضع الإنسان بجماله وقوة إرادته وجلال شخصه إلى جانب الطبيعة بموجها وصخرها؛ لتكون الغلبة للإنسان! فمن ذا ينظر إلى هذه الصورة ويقول إن البحر أقوى أو إن صخور الشاطئ أصلب؟ ... إنه الإنسان صاحب القوة والسطوة والجمال.
وتنظر بعد ذلك إلى الفن الأمريكي في القرن العشرين، فتنتقل نقلة واضحة لا تخطئها عين الأعمى، وأنا أعد نفسي من عميان النقد الفني ولا ريب ... فهنا يغلب على الصورة أن تكون «صورة» لا «تصويرا»؛ إذ إن الألوان هنا لا تستخدم لتقلد الطبيعة في أزهارها وحقولها وغروب الشمس وشروقها، بل تستخدم لإحداث التناغم اللوني من ناحية، والتعبير عن مزاج الفنان من ناحية أخرى ... كيف كان يمكن أن نقول عن فنان يرسم صورة لرجل من الأغنياء والنبلاء ليتقاضى أجر رسمه إنه كان يعبر عن مزاجه في فنه؟ إن الفنان لم يكن يعبر عن شيء كثير من نفسه الخاصة اللهم إلا قدرته على التصوير، كأنه آلة كاميرا ... لكن ما هكذا الفنان في عصرنا الحاضر، الذي يمزج الألوان ليعبر عن مزاجه هو دون أي شيء آخر، مهما يكن محتاجا إلى مال: إنه يمزج الألوان بنفس الروح التي يلعب بها الطفل برمال الشاطئ.
فهذا مثلا «إفر جد» (1901م-...) في صورته «الجانب المشمس من الطريق» التي ترى فيها شارعا وفيه بضعة زنوج، وترى امرأة بيضاء واحدة وقفت على سلم دارها، ثم ترى تخطيطا كثيرا بالطباشير الأبيض على الأرض، وتبحث في الصورة عن «الجانب المشمس» فلا تراه؛ إذ لا شمس هناك ولا ظل، لكن أثر هذا الطباشير الأبيض، ووجود الفتاة البيضاء في ركن الصورة، يوحي إلى الرائي بهذا المعنى؛ معنى الضوء مجاورا للظلام؛ فمن ذا أراد الفنان أن يرضيه بصورته هذه؟ لا أحد، إنما أراد أن يمزج اللون ويبني أجزاء الصورة على نحو يسره هو ويمتعه قبل أن يسر ويمتع أحدا سواه.
ومن أعجب الصور التي رأيتها صورة ل «جيميسن» (1912م-...) اسمها «الأسرة»، رسمها على هيئة خليط متداخل من جلود الثعابين، لا تتبين فيها شيئا بذاته أبدا، حتى إذا ما بعدت عنها تبين لك في خفوت واختلاط صورة رجل نام على جنبه متكئا على ذراعه وهو عاري الجسد، وامرأة نامت في نفس الوضع تقريبا من الناحية المضادة، بحيث يكون رأس كل منهما في طرف من طرفي الصورة يمينا وشمالا، وعند تلاقي جسديهما في الجزء الأوسط صورة طفل.
وحملت في ذهني هذه الصورة، حتى انتقلت إلى غرفة أخرى ورأيت صورة أخرى لفنان آخر هو «مانجرافيت» (1896م-...) واسمها أيضا «أسرة» فيها سيدة شابة وعلى حجرها قطة وأمامها طفلتها، وظهر في جانب الصورة كتف الزوج من جانبه الخلفي ... فأي الفنانين يا ترى أعمق نظرا في حقيقة الأسرة؟ أهو «جيميسن» الذي رآها اتصالا عاريا بين رجل وامرأة ينتج طفلا؟ أم هو «مانجرافيت» الذي رآها «مجتمعا» صغيرا أساسه الإلف والحب والعشرة التي جمعت الإنسان بالإنسان، بل جمعت الحيوان (القطة) بالإنسان؟ وطبعا ظاهر في صورة «مانجرافيت» أنه يرى المرأة في الأسرة أعظم مكانة من الرجل؛ فليس للرجل في الصورة إلا كتفه ظهرت من خلفها.
حسبي هذا من زيارتي لمعرض كور كوران، غير أني أحب أن أذكر ذكرا عابرا ثلاث صور يستحيل علي ألا أذكرها لعمق أثرها في نفسي: صورة ل «جاربر» (1880م-...) اسمها «الغرفة الجنوبية» فيها ركن من غرفة، ونافذة دخلت منها أشعة الشمس، وشاب يجلس على كرسي، وفتاة وقفت تقرأ خطابا ... والله إني لأوشك أن أقول إن هذه الصورة هي أجمل ما رأيت في الوجود بكافة ما فيه من طبيعة وفن؛ وصورة ل «بيرشتاد» (1830-1902م) عنوانها «نهاية ثور» فيها قتال بين فارس وثور؛ ثم صورة ثالثة ل «ماير» (1827-1899م) واسمها «الفراغ والعمل» فيها سيد ثري اتكأ بكتفه في استرخاء وكبرياء على جانب باب الإسطبل، وإلى جانبه كلبه، وعامل يجثو ليضع حدوة لجواده.
الخلاصة التي أحب أن أوجز بها رأيي المتواضع، هي أن الفن الأمريكي يسير جنبا إلى جنب مع مدارس الفن في أوروبا، وأكاد أقول إنه يساير الفن الفرنسي أكثر من مسايرته للفن الإنجليزي؛ ولست أدري على وجه الدقة بماذا نجيب إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال: كيف يعبر الفن عن الحياة الاجتماعية في الوقت الحاضر؟ سوى أن نقول بصفة عامة إن تحرر الأفراد وزيادة استقلالهم الفردي في الحياة الجديدة، وعدم تبعية الفقير للغني على نحو ما كان تابعا له فيما مضى، كل ذلك يظهر أثره في الفن الحديث على صورتين: فأولا أصبح الفنان لا يرعى إلا مزاجه الشخصي حين يمزج الألوان بعضها ببعض، وحين يختار موضوعه، فلا عبرة عنده لغني أو أمير؛ وثانيا أصبح صميم الحياة الشعبية مصدرا لكثير جدا من موضوعات الفن، ومن أوضح الأمثلة على ذلك: صورة «بعد الغداء» بريشة «موريس ستيرن»، وصورة «اثنان وأربعون طفلا» بريشة «بلوز»، وصورة «غرفة الانتظار في محطة السكة الحديدية» للفنان «سوبر» ... وبعبارة واحدة مختصرة أقول: إن الفن الأمريكي - مع الفن الأوروبي - يسير نحو التعبير الذاتي والبعد عن الموضوعية، والنقل عن الطبيعة الخارجية.
الخميس 24 ديسمبر
Shafi da ba'a sani ba