Shriners
تأتي من أطراف الولاية لتجتمع هنا في العاصمة - أعني في مدينة كولمبيا، وقد عرفت أنها جماعة تنتشر في سائر أنحاء الولايات المتحدة، وهي فرع من الماسونية، تهدف إلى الخدمات الاجتماعية الإنسانية كإنشاء المستشفيات الخيرية، لكنها تمزج نشاطها هذا بالمرح الشديد الذي قد يصل إلى عبث الصبيان، والذي يلفت النظر بصفة خاصة هو أن أعضاءها في مثل هذه الاحتفالات يلبسون أردية غريبة، منها أنهم يلبسون الطرابيش على رءوسهم، لكنها طرابيش ذات أزرار طويلة، وعليها زخارف براقة بألوان ذهبية أو فضية، و«أصحاب المزار» هؤلاء فريقان، لكل منهما اسم يميزه: «عمر» و«حجاز»! وليست هي جماعة قليلة العدد؛ فالمجتمعون اليوم في كولمبيا وحدها أربعة آلاف، فإذا كان هذا بعض أعضاء الجماعة من ولاية واحدة، فلك أن تضرب هذا العدد في ثمان وأربعين ولاية لتعلم كم عددها على وجه التقريب.
لا تفتأ السيدة «م» أن تصفني بالرهبنة، ولما عدت ظهر اليوم نبهتني إلى مقال في الصحيفة اليومية عنوانه «أنت كذلك تستطيع أن تكون راهبا - إذا وجدت صومعة»، والمقال لكاتبة تكتب كل يوم بانتظام في الصحيفة اليومية، وهي اليوم تعلق على كتاب أصدرته الكاتبة «هلن إرسكن» عنوانه: «خارج هذا العالم» كتبته عن أعلام الرهبان الذين تركوا هذه الدنيا واعتزلوا الحياة؛ وذلك لأنها هي نفسها تتمنى هذه العزلة لنفسها؛ فتقول الصحفية كاتبة التعليق: وأنا كذلك - كمؤلفة الكتاب - أتمنى أن أعتزل المجتمع ولو إلى حين؛ فتلك متعة لا أنعم بها حتى في الحلم، نعم أتمنى أن أنعم بعزلة لا يدق فيها التلفون وأنا في الحمام مغطاة الجسد برغاوي الصابون، ولا تأتيني خطابات تحيرني وتربكني، ولا تدق لي الساعة حينا بعد حين، ولا تكون ورائي المواعيد الدقيقة التي ترهف أعصابي بانتظارها ... لكن المشكلة الكبرى هي: أين عساك أن تجد المكان الذي تعتزل فيه هذا العالم الواسع؟ إن معظم المعتزلين إنما اعتزلوا العالم إما عن اضطهاد أو عن إهمال الناس لشأنهم، أو لأن الأيام قد حطمت لهم آمالهم، لكن حتى هؤلاء - حين التمسوا لأنفسهم صوامع في قلب الصحراء أو في جوف الجبل - لم يكن اعتزالهم حلا لإشكالهم؛ لأنهم أخذوا معهم آلامهم، وستظل معهم إلى أن يدركهم الموت ... فربما تكون طريقة غاندي في الصوم عن الكلام يوما في الأسبوع هي أفضل طريقة ممكنة للعزلة، وكذلك من طرق الاعتزال الممكنة اتخاذ الهوايات، كأن تفلح بستان بيتك أو ترعى الطيور أو تجمع طوابع البريد؛ لأنك وأنت مشغول بهوايتك إنما تكون بمثابة من يبني حول نفسه حائطا لا يتخلله صوت المجتمع.
ويشاء لي الله أن أقرأ هذا المقال وأنا في حالة حنين شديد إلى عزلة تامة، فقلت لنفسي لما فرغت من قراءتي للمقال: إنني أضيف إلى مؤلفة الكتاب وكاتبة المقال شخصا ثالثا يتمنى العزلة، ذلك هو شخصي، أتمنى العزلة من صميم نفسي، العزلة التي تقطع كل أسلاك الصلة بالعالم الذي حولي، فإذا كانت عزلة الصحراء أو جوف الجبل لا تكفي، فلتكن عزلة في حفرة القبر، هذه هي الرغبة الحقيقية التي يرن بها معدن طبيعتي، وكل ما عدا ذلك تمثيل خادع وتقليد للناس فيما ينشطون فيه ... لكن لأترك هذه النغمة الحزينة ولألتفت إلى تيار الحياة.
ذهبت إلى نادي الأساتذة بعد الغداء، فوجدت الدكتور واتسن الذي ألقى أمس محاضرة عن الفن الحديث، وجدته هناك يشرب القهوة مع لفيف من أساتذة الجامعة، وكانوا عندئذ يتحدثون في الأثاث وتطور الذوق فيه؛ فقال واتسن: كان يراعى في الأثاث القديم أن يكون جميلا، وأما الأثاث الحديث فيراعى فيه النفع والراحة حتى لو أدى ذلك إلى قبح، وعندئذ تذكرت رأي أولدس هكسلي في ذلك؛ إذ يقول إن الأثاث يسير مع الديمقراطية منتقلا من جمال المظهر بغض النظر عن الراحة، إلى الراحة بغض النظر عن جمال المظهر. ثم أضاف الدكتور واتسن قوله إن فلانا يبذل جهده الآن في أن يحتفظ في الأثاث بالراحة والنفع مع إضافة جمال المظهر ولو إلى حد محدود، وهو يعتقد أن فلانا هذا سيوفق إلى خلق اتجاه جديد في فن الأثاث.
وحضرت في المساء محاضرة أخرى للدكتور واتسن عن «الحدائق في أمريكا وأوروبا»، عرض فيها صورا لأشهر الحدائق مع التعليق المفيد للذين يهتمون بهذا الموضوع؛ فمما قاله مثلا أنه يحسن دائما أن يكون للزهور البيضاء نصف ما في الحديقة من الزهور، وعرض صورا لحدائق مختلفة روعي في بعضها أن ينتشر فيها الزهر الأبيض فكانت جميلة، ولم يراع في بعضها الآخر هذا المبدأ فبدت أقل جمالا ... وفي الحدائق العامة لا بد أن يتعاون فن النحت مع إنتاج الطبيعة، وعرض صورا لحدائق انتثرت فيها التماثيل فكانت رائعة، وأخرى افتقرت إلى التماثيل فكانت أقل جمالا، ولاحظ المحاضر أن حدائق أمريكا بوجه عام لم تدخل فن النحت فكانت أقل جمالا من نظائرها في أوروبا.
وكان مما عرضه صورة حديقة لأسرة متوسطة في جهة ما بأمريكا، كانت منها موضع عناية ورعاية وهواية بحيث تغير طلاء نوافذ المنزل وأبوابه عدة مرات في العام الواحد حتى يتناسب لونها مع لون الزهور التي تزدهر في الفصل المعين من فصول العام ... وما هذا المثل إلا واحد من أمثلة كثيرة ساقها ليدل بها على صدق مبدأ وضعه في محاضرته، وهو وجوب التناسب بين تنسيق الحدائق وفن البناء الذي يجاور تلك الحدائق، وراح يطلعنا على أشهر الحدائق العالمية التي روعي فيها الاتساق بين الحديقة والبناء، في طليعتها حديقة فرساي.
ومن جميل ما قاله: إن الناس يختلفون في أيهما يتبع الآخر: أننشئ الحديقة وفقا للبناء المجاور لها، أم ننشئ البناء وفقا للحديقة وتنسيقها وأزهارها؟ الفرنسيون يأخذون بالشق الأول، وعندهم أن الزهور هي التي تأتي في ختام القائمة لكي نختارها على أساس ما حولها؛ فهي كالقرط عند السيدات: تزدان السيدة بثيابها وتصفيف شعرها وبسائر حليها، وآخر ما تعمله هو أن تختار القرط الذي يناسب المجموعة بصفة عامة، وهكذا تأتي الأزهار في لونها ونوعها قرطا في أذن حسناء.
الخميس 19 نوفمبر
من أجمل الدعوات التي دعيتها حتى الآن، هذه الدعوة التي لبيتها؛ دعوة نادي السيدات الشابات لألقي فيهن كلمة عن المرأة المصرية وحالتها الاجتماعية؛ فهؤلاء السيدات الشابات قد أنشأن ناديهن منذ عامين، منسلخات به عن نادي السيدات المتقدمات في العمر لما رأين أن السيدات الكهلات يستأثرن بالنشاط كله، وقد جعل السيدات الشابات أربعين عاما حدا أقصى لعمر المرأة العضو ... ومن لطيف ما قالته لي السيدة «س» (وهي في السبعين من عمرها وعضو في نادي السيدات الكبريات ولا تنقطع فكاهتها) حين سألتها: وماذا تصنع السيدة من الشابات حتى تبلغ الأربعين؟ هل تستقيل لبلوغها أرذل العمر؟ ضحكت وقالت: لا يأخذنك الهم؛ فلن تبلغ منهن واحدة سن الأربعين، بل هناك ما هو أمر وأنكى؛ وذلك أن كثيرات من أعضاء نادينا قد انضممن إلى الشابات ليقلن بذلك للناس إنهن دون الأربعين، مع أنهن فوق الخمسين فيما أعلم علم اليقين!
Shafi da ba'a sani ba