تحدث إلي طالب من طلبتي حديثا طويلا، فقال فيما قال إنه سيدرس القانون تحقيقا لرغبة أبيه، ولكنه في الواقع لا يميل أبدا إلى حياة تضعه على مكتب وأمامه أوراق وكتب، ثم قال: إنني مصمم منذ الآن على أن تكون لي مزرعة؛ إن لأبي مزرعة فسيحة، وأنا أحب العيش فيها، وأتشوق إلى عطلة الأسبوع لأقضيها في رحابها، أصيد الطير ... هل عندكم في مصر طير وصيد؟ قلت: قليل، وذلك في منطقة البحيرات الشمالية على الأغلب؛ فقال: إني أود أن آتيك بمجموعة من السمان الذي أصيده هذا الأسبوع، نظيفة معدة للطهي إذا كان لديك استعداد للطهي؛ فشكرته معتذرا لانعدام وسائل الطهي في سكني؛ قال لي عن أبيه إنه درس القانون واشتغل بالمحاماة حينا، ثم تركها وتفرغ لمزرعته، وقد كان أول الأمر يزرع القطن، ثم تبين له أن ربحه قليل، فقلب أرضه كلها مرعى للماشية؛ لأنها أكثر ربحا؛ وراح يشرح لي تفصيلات كثيرة عن تربية الماشية على وجه مريح.
ودهشت حين سألني هذا الطالب أسئلة نافذة رأيتها أكبر من سنه، ومنها هذا السؤال: هل المعونة المالية التي تغدقها الولايات المتحدة على العالم كمشروع النقطة الرابعة وما إليه، تثير الحب بقدر ما تثيره في النفوس من بغض وحسد؟ ... وعقب على ذلك برأيه، وهو أن تكف أمريكا عن هذه السياسة الخارجية؛ لأنها - في رأيه - تهريج كثير لا ينطوي إلا على لباب ضئيل.
مما قرأته اليوم وأسكرني بالمتعة الفنية، مقالة أدبية في مجلة بوست لهذا الأسبوع، عنوانها: «إذا فأنتما متخاصمان؟!» فيها تحليل من أبدع وأروع وأجمل وألذ ما يمكن أن يكتبه كاتب في الدنيا عن موقف الزوجين حين يتخاصمان، لا يكلم أحدهما الآخر، ومع ذلك يقضيان شئون الحياة من زيارات واستقبالات وغيرها من أوجه النشاط الاجتماعي ... يسأل الزوج صديق له: وكيف يا أخي تطيق العيش مع زوجتك بغير كلام طول هذه الأيام؟ فقال الزوج: ولم لا؟ ليس هناك أكثر إغاظة لخصمك من صمتك عنه، على شرط أن تفعل ذلك وأنت مالك لزمام أعصابك فلا غضب ولا انفعال؛ قال الصديق: لكن العبوس المستمر سيئول بك إلى حال أقرب إلى الغلظة البدائية؛ فأجاب الزوج: حذار أن نخلط بين حالتين: الخصومة من ناحية، والعبوس من ناحية أخرى؛ فالصمت عن الحديث لا يستتبع حتما حالة العبوس، أنا وزوجي لا يعبس أحدنا في وجه الآخر أثناء الخصومة التي ينقطع فيها كل منا عن التحدث إلى الآخر، وفي هذا يقع الفن كله ... هي قطعة أدبية ممتازة، وإني لأشعر بالحسرة كلما وقعت على أمثال هذه الآيات الأدبية المبتكرة؛ لأنني عندئذ أستعرض أدبنا وأدباءنا، فأسأل نفسي: هل يصنع هؤلاء - كبيرهم وصغيرهم على السواء - سوى أن يقرأ الواحد منهم كتابا أو جزءا من كتاب، قديما كان هذا الكتاب أو حديثا، ثم يعلق أو يلخص أو ينقد؟ ... لقد حرمنا الله نعمة الابتكار، وكان الله بالسر عليما.
كذلك قرأت في مجلة «لايف» مقالا مصورا له دلالته، مؤداه أنه قد حدث في مدينة شيكاجو أن سكنت أسرة زنجية في عمارة بقية سكانها بيض، كان هذا بالطبع يستحيل حدوثه في ولاية جنوبية مثل كارولاينا الجنوبية التي أقيم فيها؛ لأن ولايات الجنوب تمنع ذلك الاختلاط بقوة القانون، أما في الشمال فالقانون لا يمنع شيئا، غير أن القانون شيء، ومشاعر الناس شيء آخر؛ فالبيض الذين يسكنون العمارة قد أغاظتهم جرأة هذه الأسرة السوداء، فأخذوا يقذفون أفرادها بالطوب والطماطم كلما خرجوا من البناء أو دخلوا، وحطموا لهم زجاج نوافذهم؛ مما اضطر الأسرة الزنجية أن تسد نوافذها بألواح مسمرة من خشب ... وأقامت الحكومة حراسة قوية من الشرطة لتحمي هؤلاء السود من اعتداء البيض ...
إن مشكلة الزنوج في أمريكا نكبة نكب بها الأمريكيون وليس لهم منها خلاص؛ فألف عام لن تكفي للفوارق أن تزول زوالا تاما، ولقد مجدت في نفسي تلك الأسرة الزنجية التي صممت ألا تتحول مهما لاقت من إيذاء؛ فبمثل هذه الشجاعة، وبمثل هؤلاء الرواد تتقدم الإنسانية نحو الكمال.
الإثنين 16 نوفمبر
قرأت في مجلة «هاربرز» لشهر نوفمبر قصة للكاتب «ولمر هاملتن» عنوانها «صديق بالتراسل»، خلاصتها أن كاتبا في سن الخامسة والستين لم يتزوج، وقد اعتزل الناس في بيت ريفي صغير، لا عمل له إلا القراءة والتأليف، تزوره أخته آنا بعد آن، وقد جاءت له أخته بخادمة على شيء من الجمال وقليل من التعلم، وبعد أشهر طويلة عرف الكاتب عن خادمته أنها تراسل صديقا لم تره تراسلا منتظما مطردا؛ إذ قرأت ذات يوم إعلانا في مجلة تصدرها إحدى الكنائس يقول فيه صاحبه: «أشعر بوحشة ووحدة، وأريد أن تراسلني فتاة حتى تقل وحشتي؛ أنا مسيحي.» فشعرت الفتاة أنها في مثل وحدته ووحشته وأخذت تراسله، ولا تعلم إلا ما يرد في خطاباته من آراء، وهي آراء كانت تدل على أن الشاب مثقف مهذب ... وأخيرا أرسل الفتى إلى الفتاة يسألها إن كانت توافق على لقائه يوما في المدينة، فتأتي في قطار الصباح وتقضي معه بقية اليوم ثم تعود إلى ريفها في المساء، واتفقا على أن يكون ذلك في يوم محدد ... لم يكن يعرف الكاتب المخدوم شيئا من أمر الفتاة، لكنها طلبت أن يجيزها يوما وقصت عليه قصتها مع الفتى، وكيف بدأ التراسل بينهما إثر إعلان نصه كذا وكذا؛ فتعجب الكاتب من ذكر الفتى في إعلانه «أنه مسيحي» لماذا يقول ذلك؟ فتقول له أخته ألا غرابة في الأمر ما دام الإعلان منشورا في مجلة كنسية، لكن الكاتب أبصر بطبيعة البشر من أن يرى ذلك أمرا لا غرابة فيه.
أعدت الفتاة ثوبا بمعونة الأخت؛ فقد كان في رأي كل منهم - الكاتب وأخته والخادمة - أن اللقاء المنتظر قد يكون وسيلة زواج، ولو أن أحدا من الثلاثة لم يقل شيئا من هذا صراحة.
ذهبت الفتاة وعادت في المساء تحمل غما ثقيلا، ولم يجرؤ الكاتب أو أخته أن يفاتحها بالكلام لاضطراب نفسها، وذهبت إلى المطبخ، وهناك سرعان ما راحت تجهش بالبكاء ... ماذا في الأمر يا ترى؟ هل علمت أن الفتى متزوج فضاع أملها؟ هل قابلها ولم تعجبه فهرب منها؟
وبعد أيام كانت تقدم الشاي إلى مخدومها، وكانت الأخت قد سافرت، وتلكأت قليلا فعرف الكاتب أنها تريد قولا، فشجعها على القول، وعندئذ طفقت تقص عليه قصة اللقاء لتطلب منه المشورة ... ولم تكد تمضي الفتاة في وصف اللقاء حتى عرف الكاتب أن الفتى زنجي أسود! هو زنجي متعلم لا يجد فتاة يأنس إليها، وأحس بوحشة، وهنا يأتي لباب القصة وهدف التحليل، وهو أن هذا الزنجي كان يعلم أن الفتيات البيضاوات ينفرن منه؛ لأنهن يرين سواده قبل أن يرين علمه وثقافته، فلو استطاع أن يظهر تهذيبه وتثقيفه قبل أن يظهر سواده، فربما وجد البيضاء التي تحبه، ومن ثم الإعلان والتراسل أولا، ومن ثم ذكره في الإعلان أنه مسيحي، كأنما أراد أن يقول إني واحد من هؤلاء الناس، أدين بدينهم وأتثقف بثقافتهم، وليس بي من نقص إلا لون جلدتي ...
Shafi da ba'a sani ba