92

قال أرسطو قديما: يتميز الإنسان عن الحيوان بنظره في العواقب، ولم يخالفه فلاسفة الأوروبيين والأمريكيين، ونحن نبين ماذا فعل بعقله أولا وبم امتاز.

إن عقل الإنسان زاده أرجلا يمشي عليها، وهي آلات النقل، كالترام والسيارات، والقطارات والبريد والسفن العظيمة، وأطال أظفاره الضعيفة، بما يلائم مخالب السبع، ويزيد عليها، من الرصاص والمدفع والأساطيل والجنود المجندة، والسفن الغاطسة، والدوارع السابحة والقباب الطائرة المسلحة، وأناله سواعد أخرى بآلات الحرث والزرع والبناء وما أشبهها، وأنبت له ما هو كأجنحة الطير، من القباب الطائرات وما أشبهها، وهل زاد الإنسان بهذه القوى المسخرة له بابتداع العقل إلا شهوات بهيمية، أو قوى غضبية، ولم يعرج على الإنسانية، ولم يمدها عقله بالسلام أيما إمداد.

الإنسان دائر في الدائرة الحيوانية، ونسي أنه إنسان، أنا لا أفهم ما أمتاز به عن الحيوان، ولا أدري، أين مدنيته وهل تحققت.

كان الإنسان يحبو كالطفل على الأرض، فاكتشف البخار، فانتصب قائما يمشي بالقطار، وبه قطع الكرة، وها هو استنبت له الجناحين ليطير في الهواء، وهل بعد هذا إلا البحث عن المدنية والإنسانية، أين هما، وكل ما اكتشفه لا يغني عنهما شيئا، وما معرفته للعواقب بممتازة كثيرا عما ركز في نفوس الطيور الطائرات، والحيوانات السارحات، والحيتان الغاطسات، من تدبيرها بيوتها وتربيتها أولادها، وحفظها جماعاتها، إلا امتيازا نسبيا، ليس يحل الإنسان المحل اللائق بمقامه إلا متى دبر المجموع الإنساني المجموع الإنساني.

إن نظر الأفراد في مستقبلها، والأمم في شئونها الحالية والمستقبلة، يشارككم فيه أكثر الحيوان. ومتى تولى المجموع تدبير المجموع، ظهر معنى الإنسان وتجلى للعيان، ثلث هذا النوع رشيد، وثلثه نصف رشيد، وثلثه غارق في بحار الجهل، ويحاول الأول اتخاذ بعض الثاني، وجميع الثالث كالحيوان، إذ يتخذون من جلودها صوفا ومن ضروعها ألبانا، وطوائف هذا الفريق فيما بينهم دائمو العداوات، لما لهم من القوى المتكافئة.

وإني ليجدر بي أن أطرح على بساط البحث بين فلاسفتكم وحكمائكم من جميع الأمم الأرضية، على اختلاف نحلهم، وأجناسهم ومللهم، هذا السؤال، أيهما أنفع للثلث الأول الرشيد، أيكون الثاني مثله في الإنسانية يعاونونه، أم تتنزل ملكاتهم، إلى دركات الحيوانية؟ فإن كان الأول أنفع، وثبت بالبرهان، فلا مناص لملوك الأمم، وقادة الشعوب، من السير على منواله، وإن كان الثاني، بقي النوع الإنساني على ضلاله إلى الأبد.

ليس يحل المشكل الإنساني، إلا ناموس الوجود، وقانون الطبيعة. من حاد عن فطرة العالم في سياسته، حاق به العذاب. كل شيء سائر بنظام حسن، ألا ترى دوران الكواكب بحساب لا يتغير، وسير النواميس الطبيعية بنظام عجيب، وهكذا غرائز الحيوان، كنسج وهندسة النحل، وسياسة النمل، وجمهورية كلاب البحر، أفلا يكون لهذا النوع ناموس لراحته، ونظام لم يكتشفه للآن، وربما كان حاضرا لديه، يراه في غدوه ورواحه، وهو مع الغافلين، كما كان يرى البخار صباحا ومساء والناس عنه ساهون.

فلننظر في هذا الإنسان، نجد جسمه منظما، معتدلا، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مد يديه إلى الجانبين، كان طوله كعرضه، هكذا سائر أعضائه بميزان عجيب. وأكثر الحيوان والإنسان تولد بحواسها الخمس، إلا النادر جدا، كما ندرت مدارس الصم البكم والعمي.

أفليس هذا الوضع دالا على حكمة عالية، غرست في نفوسكم كل ما تحتاجون، حتى تتم سعادتكم في الحياة بنظام، كما كملت أجسامكم، ونظمت حواسكم. والعناية التي نظمت الأعضاء والحواس لا تغفل عن تنظيم القوى والملكات.

أوليس من العجيب أن يمتد النظام إلى ما هو أعم من نظام الأجسام، فارتقى إلى نظام مجموعكم، فإنا نرى الذكران والنسوان في المواليد على سطح الكرة الأرضية يكادون يتساوون.

Shafi da ba'a sani ba