فلو رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا، وتمثلت لك في ذلك السقف الأزرق مصابيح أشباه الثريا، وأخرى تشبه المجرة في استطالتها وبياضها، وترى فيها هيئة الدب الأصغر، وصورة الدب الأكبر، والنجمة القطبية.
فعلوا ذلك حتى لا يحجب عنهم نور العلم وإشراق الحكمة السماوية بسقف كوكبي، وترى تلك الأعمدة دقيقة مرصعة بالأحجار الكريمة، مرسومة بأحجار ثمينة، بهيئة أشكال هندسية، متداخلة، الصور متضارعة في الجمال، وكلما كان العمود أقرب إلى وسط القبة فهو أطول، وكلما تناءى عنها فهو أقصر، ومن رآها علم لأول وهلة أنها زينة للناظرين، وترى الحكماء في ذلك المكان على الكراسي جالسين، وقد أقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلل مرصعة بالجواهر واللآلئ والمرجان.
وكان رئيس الحكماء في وسط الجماعة وحوله الأول فالأول، وهم في روضة بهية، فلو رأيت ثم رأيت أشجارا ذات أوراق بيض ناصعة، كأنهن الدر المكنون، يتخللها أوراق حمر قليلات، لم أتبين، أهي أزهار أم أوراق، وتلك الأشجار صفوف منظمة تتبين تحتها فرشا حمرا قانية، وما أدري أذلك نبات متراكم، أم متاع منظم، وذلك في وسط محيط يشاكل القطع الناقص.
فلما نظرت في إحدى البورتين شاهدت أنواعا من النبات حمرا مختلفات الأشكال، وكلما قاربت الوسط آنست ما وصفناه من الأشكال الدرية، ذات الألوان البهية، ولقد سمعت خطب الحكماء، وما أدري ماذا كانوا يقولون، وقد كنت جالسا في زاوية بحيث أراهم ولا يروني، ولكن لم يتسن لي أن أميز وميض النور المشرق من الحلل والجواهر، والدرر المرصعة المجلوة للناظرين، ولبثوا على ذلك ساعات متواليات.
وبينما أنا كذلك إذ قال لي صاحبي: لقد جاءني نبأ من الأستاذ الحكيم أنه سيبعث لك بتلميذه الأول ليلقي عليك العلم والحكمة، ويعلمك ما لم تكن تعلمه بمقدار استعداد قومك في أرضك.
وما أتم كلامه حتى جاء ذلك الرسول عليه ثياب خضر تشبه ثياب أهل الأرض، قليلة البهجة والزينة، فحياني وسلم علي وآنسني، وأخذ يسمعني من صنوف الحكمة عجبا مما يلائم طباعنا ويواتي أمزجتنا، إذ قال: لعلك تبينت الفرق بين زيي وزي هذا الجمع المحتشد؟ فقلت: نعم. فقال: إنهم أحسن بزة وأبهج شكلا ليتشاكل ما أوتيت من قليل الحكمة بما أزدان به من الملابس، ولتعلم أن الفرق بين الحكمتين الأرضية والكوكبية كالفرق ما بين البزتين، وأن ما سمعته من الحكمة يسير بالإضافة إلى حكمتنا، كما أن ما لدينا من الحكمة قليل إذا قسناه بمن هم فوقنا قدرا وعلما.
يقول لك أستاذنا: قل لأولي الألباب من أهل الأرض: إنكم امتزتم عن سائر نوع الإنسان بخاصة الذكاء والفطنة، وجعلتم في الأرض نورا مضيئا لتنقذوهم من الجهل المبين، فما مقامكم إلا أيام قلائل تبثون فيها الحكمة ثم ترحلون، وإنما مثلكم في نوع الإنسان مثل الإنسان في أنواع الحيوان.
أولو الألباب كنجوم تشرق لتضيء على العالمين، وشموس تطلع ثم تغيب عن الناظرين، فلينقذوا نوع الإنسان من تهلكته، إن الإنسان لفي خسر عظيم، أولو الألباب أنزلوا إلى الأرض لقصد الإنعام على أولئك الأنعام الضالين، لا مقام للعقلاء في الأرض إلا ليصنعوا الجميل، ويرحموا الجاهل، والناس كلهم ظلوم جهول، فليرشدهم أولو الألباب للمحبة العامة، ليستخرجوا كنوز أرضهم، ويكونوا أمة واحدة، ولتصبح الكرة الأرضية كلها جنة دانية الجنى.
فالإنسان الحقيقي المستقبل من جمع بين الحس والمعنى، وجنى ثمرات الجنتين، هذا هو الصراط المستقيم.
ثم أخذ بيدي وسرنا حتى أشرفنا على واد فسيح أشبه الأمكنة بأرضنا، فاعترتني الوحشة، وأخذتني الدهشة، واستولت علي الحيرة، وأحسست أني خرجت من النعيم إلى الجحيم، ومن السعادة إلى الشقاء المقيم.
Shafi da ba'a sani ba