عار عليكم أيها العلماء والفلاسفة، أيها الملوك والعظماء، أف لكم، ما لكم أجهلتم أنفسكم، ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون، تقول الأمة وعلماؤها وسواسها: ما لنا ولمنافع الأمم الآخرين، نحن أشرف وأفضل منهم، ولا صلة بيننا وبينهم، إلا بالمادة، تبا لمن لا يعقلون، أما علموا أنه ما دامت أمة واحدة في الأرض جاهلة تسرب الجهل والغفلة إلى غيرها على مدى الأيام، أما علموا أنهم إذا أرادوا تقليل السلاح بعد أن ظلموا أمة ضعيفة فقويت تلك الأمة وصنعت الأسلحة النارية، ولم يكن بينهم وبينها صلات علمية ولا مودات أخلاقية، ولا يدرسون معهم دروس الحب العام فإنهم إذ ذاك حريون أن يتقلدوا السلاح ويقدموا للكفاح، فيرجع الناس كما كانوا آسادا وذؤبانا وجهالا فاسقين.
المذكرة التاسعة: إلى أين يا قرطاس
ازدحمت هذه الآراء بفكري، وتسابقت إلى قلمي، فرسمتها على القرطاس، إلى أين يا قرطاس؟ فأجابني إني سائر إلى الناس، إلى من يا قرطاس؟ فقال: إلى أحبابك، إلى إخوانك، إلى أصدقائك، إلى عشاقك، إلى الذين يعجبون برأيك من أفاضل الأمم وأخيار الممالك، إلى من يا قرطاس؟ إلى أمتي وحدها أم للأمم؟ فقال: الأمم كلها أمتك، والعقول الإنسانية والأرواح البشرية تشاركك في علمك.
إن قلبي لهذه الحكم مشوق، وهو لامتلاء أفئدة إخواني من سائر الأمم أشوق، أنا إن لم أبرز هذه الكلمات للناس فلا سعادة لي، ولئن أوجدت لسائر الناس فأنا بهم فرح، إذ هم المشاركون لي في فكري.
وكلما كثر المشاركون زاد فرحي، وبقلتهم يقل، فعلى قدر انتشارها واتساعها تزداد سعادتي، وكلما رأيت أمثالي من الأمم ازداد فرحي، أليس سائر علماء الأمم يفرحون بأشكالهم وأشباههم في سائر الأقطار، وانظر إلى الطائر، هذه الطيور لا تدون أفكارها، ولا تكتب أخبارها، ولا تعرف تاريخ أمم الطيور قبلها، ولا ترسل بريدا إلى ما عاش معها من جنسها على الأرض، ولا إلى أبنائها الآتين بعد فنائها، إنها لا يهمها إلا حياتها وتربية أولادها إلى حين، وهي مع ذلك تنظم جماعاتها عند الحاجة للنظام كالغربان وكلاب البحر وغيرها، فيا ويح الإنسان.
ما الذي جرى لك أيها الإنسان؟ أعرف أخبار الشرقي والغربي، وسعادتي في أن يشاركوني في فكري، وأقيس المستقبل بالماضي، وأن لي مع السالفين واللاحقين والمعاصرين من سائر الأمم والممالك علاقة عظيمة، فكيف يكون نظامنا أسوأ النظامات، وبيننا العداوات والبغضاء، نظام الغراب والزنبور والنحل وكلب البحر على مقدار حاجاتها، أفلا يكون نظامنا على مقدار حاجاتنا .
ألا إنا لسائر البشر لمحتاجون، إن قلبي وقلوبهم في مستوى واحد وأفق واحد، بيننا علاقة واتصال ومحبة ومودة ، وأعلمهم ويعلمونني، وأحبهم ويحبونني. (قاعدة): وكلما زاد علم الإنسان ازداد حبه للناس، وكلما قل العلم قل الحب، ولذلك ترى الحكماء أشد حبا للناس، والجهال والكذابون والسواس أقل حبا، وأكثر طمعا وجمعا للمال، والرجل الجاهل أقرب للحيوان الأعجم يقل عطفه على النوع الإنساني بمقدار جهله بإخوانه من سائر البشر.
الأمم اليوم أقرب إلى الحيوان، فإذا علمت وربيت ترقت عن الحيوان إلى درجة الإنسان وصار الناس إخوانا.
المذكرة العاشرة: البلاهة خير من الفطانة البتراء
قال الغزالي المتوفى في أوائل القرن السادس: البلاهة خير من الفطانة البتراء، يريد أن العامة والبلداء يصدقون بالدين بلا حجة ولا برهان، فإذا تعلموا تعليما ناقصا صاروا بين بين، لا هم عامة مقلدون، ولا علماء محققون، فيكون الجاهل راضيا بربه قانعا بعيشه، وذلك الناقص العلم يعيش في شك وألم وعذاب أليم.
Shafi da ba'a sani ba