ما أجهل الناس اليوم، وما أجهل الإنسان، كان الإنسان لا يعلم الكهرباء إلا في الكهرمان عند حكه وفركه، فلما أن بحث عنه ألفاه مخزونا في كل معدن وهواء وماء، وهو يرى في قلبه رحمة على عدوه إذا أصابه ضر كما كان يؤانس آثار الكهرباء في الكهرمان عند فركه، وقد اكتشف أن الكهرباء عامة في سائر أنواع المادة، فما باله لا يكشف الستار عن هذه المحبة والعطف العام الذي هو به أولى، بل هو الإنسانية الحقة، بل هو النور الإلهي، والشمس المضيئة.
يا ليت شعري من لي بمن أتلقى هذه الدروس العالية عنه حتى أبلغها لهذا الإنسان، أين عقولنا؟ أين محبتنا؟ أين الجمال؟ أين الفهم؟ أين العشق العام؟ اللهم أنت المعلم، فإذا لم تفض علمك على قلوب عبادك في مشارق الأرض ومغاربها فإنهم في العذاب خالدون.
هذه خمس عشرة مذكرة مما كتبته في مذكرتي في الفترة التي مضت في شهر يونيو وبعض يوليو، وهنا تم الفصل الحادي عشر.
الفصل الثاني عشر
في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
في هذه الفترة تاقت نفسي لحل هذا المشكل السياسي في النوع الإنساني، نظرت في كتب الحكماء والعلماء فلم أجد حلا يشفيني، والأمم يقتل بعضها بعضا ويلعن بعضها بعضا، ورأيت علماء الأمم يضرمون نار العداوة والبغضاء إلا قليلا منهم كالعلامة هربت سبنسر الإنجليزي، والفاضل اللورد أفبري، والعلامة مركس الألماني والسيدة المستشرقة المدام لبيديف «جلنار الروسية» وأحزابهم و... الأمريكي وكنت الألماني، فأولئك وأمثالهم يحبون نوع الإنسان، ومن عداهم سائرون على هوى الفكر العام كأهل السياسة الذين لهم قلبان ظاهر وباطن، فتاقت نفسي لكشف هذه الغمة، وتمنيت لو يتاح لي شهود الصديق وهو الوجدان، حتى كانت ليلة الأحد من شهر يوليو سنة 1910.
فبينما أنا نائم في غرفتي إذ أقبلت تلك الروح البهية في نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، فأيقظني، فرأيته ساطع النور عليه ملابس فضية اللون ووجه كالشمس إشراقا، وقد صار أنضر حسنا وأبهج جمالا وأبهى إشراقا، فقال لي: قم لأريك هذا العالم البديع، وأطوف بك أكناف السماء، وأريك ما لم يقف عليه كثير من الحكماء، فقمت معه ولم أدر وما إخال إني سوف أدري أأنا في يقظة أم في منام، فسرنا في الجو لحظات، إذا نحن على سطح البحر الأحمر تحملنا سفينة، فنظرت إذا مركبة في الهواء تقرب منا رويدا رويدا، حتى إذا كانت منا قاب قوسين طلعنا فوقها وعلت بنا في الجو في لمح البصر وأنا أظنها القمر، فلما أن امتطيتها وهو آخذ بيدي آنست فيها أشجارا، وعليها عصافير تغرد بألحان شجية وهي ذات ألوان بديعة، وكأن أرضها قد رويت قريبا وهي مبتلة، أو كأن المطر قد سقتها، وأقلعت قبل أن تطأها أقدامنا، وما رأيت إنسانا، ولا حيوانا إلا تلك الطيور. فقلت في نفسي: إذا رجعت إلى أهل الأرض بشرتهم بأرض مباركة طيبة.
ما أسهل وصولهم إليها سأريهم هذه الأرض الواسعة الخالية من السكان فيعمروها ويقلوا من تناطحهم كما تتناطح الكباش والأعنز، وفرحت بهذه الأرض الجديدة، وقلت: متى يكثر الناس زرع الأشجار لتغرد عليها الطيور فتغتذي بالدود الآكل لشجرة القطن وغيره.
ثم أخذت أسأل صديقي الوجدان وهو أحب إلي من نفسي فلا صديق سواه ولا معين إلا حكمته وعلمه. فقلت: أيها الصديق رعاك الله، قل لي، أنحن الليلة في القمر؟ إن القمر ليس فيه هواء ولا ماء، فمن أين نبتت فيه هذه الأشجار فغردت عليها الأطيار؟ نعم إن في القمر جبالا شامخات وأودية واسعات، ولكنه خال من آيات الحياة وسمات الأحياء، إن القمر له دائرة لا يتعداها ومدار لا يتجاوزه فكيف تنزل من فلكه إلى سفينتنا فركبناه؟
إن ما شاهدته الليلة لا يرضاه العلم ولا تألفه العلوم الرياضية والفلكية. إنا قرأنا العلم والحكمة نحن أهل الأرض وعرفنا الكواكب والشمس والقمر ودرسناها حق دراستها، فلم نجد في القمر أثرا للحياة.
Shafi da ba'a sani ba