106

وهناك طوائف بشرية وشرذمة من العلماء قلبوا صحيفة الإنسان والحيوان وقرءوها معكوسة، وشوشوا وضعها واستحبوا ضد ما قام عليه البرهان من الرحمة العامة، وقالوا: إننا قرأنا ما ذهب إليه الفلاسفة العظماء والحكماء الكبراء، لقد قرأنا مذهب داروين إذ جاء بما لم يأت به الأولون، ونظم الإنسان والحيوان في نظام الاشتقاق، وقد غفل عن ذلك السابقون، ألا إنهم هم الكاذبون، إن هذا المذهب كان من قبل ذلك معروفا كما قدمناه عن إخوان الصفا، ولقد أوقعهم هذا الوهم في هوة الرذائل، وأخذوا يسلكون في البحث سبيل الجاهلين، وقالوا ضد ما قال الأولون، وهم كانوا أغزر منهم علما وأوسع مادة وأرقى أدبا. قالوا: إن هكلسلي أوضح أن لا فارق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان كما بين الحيوانات العليا والدنيا، بل المسافة في آخرهما أوسع مما في أولهما.

فظن أولئك الجهال أن هذا يجيز لهم اهتضام حقوق الأمم الضعيفة معتبرين أنهم أدنى منهم مقاما فزادوا في غلوائهم وضلوا في طغيانهم وجهلوا المنطق وظنوا أنهم بتخمينهم «أن الفرق بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى من نوع الإنسان أوسع مما بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان»، قد عثروا على كنز من الحكمة ثمين إذ يجعلون الإنسان الجاهل في عداد الحيوان، وتقول الأمة العالمة للجاهلة وإن كانت أكثر منها استعدادا وأصح أجساما: إنكم بالنسبة لنا خادمون، وعبيد مسخرون. ولقد عتوا عتوا كبيرا، وظلموا الحكمة باستنتاج قبيح إذ رأوا أن كثيرا من القرود الشبيهة بالإنسان يكون أكثر وقوفها منتصبة، وإبهام أرجل بعض المتوحشين أشبه بأرجل بعض الشمبانزي والغوريلا من القرود.

أليس من المدهش أن صحيفة المواليد الثلاثة تعرض على بوذا فيرى الحيوان يشعر بما يشعر به الإنسان فيرحم الطائفتين ويسعد الحيين. ونفس هذه الصورة تتجلى لبعض رجال العصر الحاضر فينسون عقولهم وأنفسهم ويقولون: ما لنا وللرحمات! إنما المفضل في العالم هم الأكثرون مدافع المنظمون جنودا، ومن عداهم من الإنسان فإنما هم من الحيوان، فلنتخذهم خدما وحشما. ألا ساء مثل الجاهلين. يا أيها الناس ادرسوا العلم كما بيناه، اقرءوا هذا العالم، افهموا هذا الوجود. هذه القضية في الإنسان غريبة كاذبة، فإن جمال الصنع وإتقان الوضع في اتصال الإنسان بالحيوان نظاميا أقوى حجة وأجل برهان على وجوب العطف العام على الناس والحيوان، أفلا تعقلون! ما لكم لا تفكرون! هل غلبت على عقولكم شهوات بطونكم ونزعات شياطينكم فأزلتكم للذنوب؟ يا أيها الناس، إنكم جميعا إخوان، إن الفلسفة التي تدعون أن داروين اخترعها ثابتة في كتب العرب معلومة عند الأمم الغابرة في القرون الخالية. لا تجعلوا العدل تبع القوة، فالعدل عام في الوجود.

وهب أن الرحمة خاصة بالأقوياء، فماذا أباح لكم أن تمنعوا ضعفاء الأمم من التعليم، وهل آنستم في الحيوان الذي احتقرتموه طيرا يمنع أخاه تعليم الطيران؟ فما أجهل الإنسان! وإذا كنتم تربون أبناءكم على المبادئ الشريفة، فهلا اعتبرتم الأمم الجاهلة أطفالا تلقنونهم العلم.

وما هو حد الوطن؟ أهو ذلك الخط الفاصل بين بلادكم وما جاورها، ولو حل فيها أعداؤكم وسكن فيها خصومكم واستظل بها قوم من أمم لكم مبغضين؟ أم الوطن وأهله الذين عاشوا معكم أيام حياتكم؟

فإن كانت الأولى فلقد حددتم تحديد الواهمين، وجعلتم إحسانكم خاصا بدائرة أرض لا يتعداه، كأنها صنم تعبدونه أو كلب تطعمونه، وهل تخدمون بهذا إلا المصادفة العمياء، فلو هلكت أبناؤكم وحل محلها قوم آخرون فإن خدمتكم بالرغم عنكم راجعة لنوع الإنسان لا لأمة خاصة؛ فإن من يتجنسون بجنسكم ويسكنون أرضكم من أمم آخرين غير معروفين.

ولكم هضمتم حقوق أمة حبا في أمتكم، ولقد والله ظلمتم للإحسان واغتصبتم للإرضاء، فرحمتم قوما وعذبتم آخرين، فما أكثر أوهام الإنسان!

وإن زعمتم أن من عاشوا معكم في الوطن هم الذين تعنونهم بخدمتكم وقصرتم عليهم رحمتكم، فإن لم تغتصبوا حقوق الأمم الضعيفة فقد أحسنتم، وإن ظلمتم الأمم وهضمتم الحقوق إرضاء لأبناء بلادكم فأنتم مجردون عن الفضيلة الإنسانية. ومثلكم كمثل السارق الذي يطعم من كسبه الفقراء، ومن يقتل امرأ ليجعله طعاما للآكلين، ومن لكم بأن تقصروا بلادكم على ساكنيها؟ فقد يتبدل السكان بالسكان، ويملأ المكان بقوم غرباء، إن الناس يخدمون أهواءهم ويتبعون جهالاتهم.

أطفال الإنسانية وما أدراك ما أطفال الإنسانية

أطفال الإنسانية هم الأمم التي ضل سعيها في الحكمة والفلسفة، نظروا نظام النبات والحيوان والإنسان واتصال هذه السلسلة البديعة فعجزوا عن فهمها وضلوا فيما يعملون.

Shafi da ba'a sani ba