103

اعلم أن مثل الرحمة الإنسانية العامة كمثل الماء الذي سلك ينابيع في الأرض فخالط أجزاءها، وداخل أحشاءها، وتخلل باطنها، وجرى في مجاريها، وسرى في كرتها، وخزن في جبالها، فتارة تفجر أحجاره أنهارا، وآونة تشقق فتخرج ماء، وطورا يحفر الناس الأرض فيستنبطون ماءها ويستخرجون معينها. فهذا مثل الرحمة الإنسانية الكامنة في القلوب البشرية وما غشاها إلا المطامع والشهوات، وطين الرذائل وحمآت الجهالات السائرة.

ومثل آخر أن ما كمن من الرحمة في الإنسان أشبه بالكهرباء والنار، وما العلم الذي ظهر والمحبة التي جمعت الناس إلا كأضواء المصابيح المتقدة بالنار والكهرباء.

هذه صفحة قرأتها من الرحمة العامة في هذا الإنسان وكيف غشي وجهها بعذاب واقع، ضربت لك الأمثال بحال هذا الإنسان وآرائه، وضرب الأمثال مشعر بالإجمال.

فهل لك أن تطلع على صحيفة من علمه، ورسالة من عنده، ونور أشرق على عقله، وآيات نزلت على قلبه، ورحمة أحاطت به، وإلهام تنزل عليه، فاسمعوا وعوا.

منظر علماء الطبيعة

رسم علماء الطبيعة صورة من هذا الإنسان، ووصلوه بالحيوان والنبات، وكونوا منهما سلسلة ذهبية منظمة، ظهر جمالها في مقالات العلماء الإسلاميين كما في الفوز الأصغر لابن مسكويه وإخوان الصفا إذ أبانوا كيف ترقى النبات من أدنى أنواعه، وتعالى في تدرجه، وارتقى إلى درجة عظيمة، تلاصق أرقى الحيوان، وأخذ هذا يتدرج حتى انتهى إلى الإنسان، وهو عالم واسع عظيم، وهاك نص ما قيل في إخوان الصفا: واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصلة بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصلة بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة النبات متصل بآخر مرتبة المعدن، وأول مرتبة المعدن متصل بالتراب والماء كما بينا قبل، فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها، من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة، تطلب مادة يغتذي بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة، حذرا من مؤذ لجسمها، ومفسد لهيكلها. وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا الحس واللمس فقط، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار، ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جلب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه لو أعطاه ما لا يحتاج إليه لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها. فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية، وتلك الحاسة أيضا قد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط، والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية وامتناعه من إرساله نحو الصخور واليابس أيضا، فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه عن الذهاب علوا وكان له ثقب من ناحية مال إلى نحو تلك الناحية، حتى إذا طال طلع من هناك فهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بقدر الحاجة. وأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك أنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان؛ وذلك أن الحيوان لما جعلت له أن يحس بالألم جعلت له أيضا حيلة، إما بالفرار والذهاب والهرب، وإما بالتحذر، وإما بالممانعة، فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوان مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان فنقول:

إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد لكن من عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنا للفضل وينبوعا للمناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية لصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قارب الأخلاق الإنسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الإنسان ويأنس به إلا ولنفسه قرب من النفس الإنسانية. أما القرد فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان، صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس، وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبا للملوك؛ وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ويروث ما دام بحضرة الملك أو حاملا له، وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كما يكون الرجال الشجعان كما وصف الشاعر فقال:

وإذا شكا مهري إلي جراحه

عند اختلاف الطعن قلت له اقدما

فلما رآني لست أقبل عذره

Shafi da ba'a sani ba