Takarduna … Rayuwata
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Nau'ikan
قلت لها تعالي شوية يا صفية، وجاءت صفية إلى بيتي، جلست إلى جواري وأنا راقدة في السرير، حكيت لها عن زيارتي الأخيرة لبطة، كانت تعرف كل شيء، ولا شيء يدهشها، هي أيضا تعرضت لصدمة من نوع آخر، إلا أنها لم تذهب مثل بطة إلى الشيخ المحلاوي، كانت تذهب إلى الدكتور عبد القادر أستاذ الطب النفسي، وكان زميلا لنا في الكلية منذ أربعين عاما، أصبح يمتلك الخمسة «عين»، ومنها عمارة عالية في مصر الجديدة يسمونها عمارة «الدكتور» إلى جوارها عمارة لا تقل عنها ارتفاعا يسمونها عمارة «الشيخ»، أصبح الدكتور والشيخ متجاورين كما كانا في العصور السالفة، ومن الكهنة ورجال الدين القدامى انزلق الأطباء إلى التاريخ الحديث. كان الليل قد تأخر وصفية تحكي دون انقطاع، ست ساعات مضت وهي متكئة بكوعها على الوسادة دون أن تغير جلستها على السرير، دون أن تتغير نبرة صوتها الخافت، أو تتحرك عيناها الشاخصتان نحو قطعة من السماء وراء زجاج النافذة المغلق، كأنما تهمس لنفسها أو لامرأة أخرى كامنة في أعماقها، أو تخاطب القوة المجهولة داخل هذا الخضم الأسود الذي اسمه السماء، والذي بدأ سواده ينقشع بالتدريج ليصبح رماديا بلون الضباب، وانتبهت صفية فجأة كمن تصحو من النوم وصاحت: يا خبر، النهار طلع يا نوال! - باين عليك تعبانة تحبي أوصلك البيت؟! - بيت إيه وزفت إيه خليه ينهد على أصحابه! - نامي شوية يا صفية وبعدين نتكلم.
أغمضت عينيها، راحت في النوم وكوعها كما كان في مكانه لم يتغير، حركتها قليلا لتنزلق الوسادة تحت رأسها، غطيتها بالبطاطين، وأطفأت اللمبة الصغيرة إلى جواري، لتغرق الغرفة في الظلمة إلا خيطا رفيعا من الضوء الرمادي يتسرب من وراء الزجاج.
وأغمضت عيني أنشد النوم دون جدوى، صوت صفية الهامس يسري كأنما لم ينقطع، أراها إلى جواري نائمة مغمضة العينين. ليلة كاملة مضت ونحن نتحدث، تذكرني بليالي الداخلية في حلوان الثانوية. كنا نقضي الليل كله في حديث متصل، تفتح القلب الذهبي يتدلى من السلسلة حول عنقها، تلثم الصورة وخصلة شعر من رأسه، اسمه مرقص أبوه قبطي وأبوها مسلم، هددها بالسكين لتقطع علاقتها بمرقص. أصابته ذبحة صدرية حين دخل أخوها سعد السجن بتهمة الشيوعية، أمسكه البوليس وهو يهتف في مظاهرة ضد الإنجليز، وكانت ضابطة الداخلية تمر علينا بكشافها، تفتش على نومنا وأحلامنا، لم نكن نحلم إلا بالحب والحرية، وفي ضوء القمر تشتعل فوق صدورنا الحروف «الجلاء بالدماء»، والناظرة تضربنا بالمسطرة فوق أصابعنا حتى تنزف منها الدماء، نلف حولها أربطة من الصوف، ندفنها تحت البطاطين ونتهامس طوال الليل، نتشاطر الألم والفرح والأمل في المستقبل.
الليل ساكن لا أسمع إلا صوت أنفاسي، وأنفاسا خافتة إلى جواري، صفية غارقة في النوم، عضلات وجهها مسترخية كأنما نفضت عنها العبء، بشرتها بيضاء إلا خطا واحدا داكنا عميقا في اللحم يمتد من زاوية عينها اليسرى حتى زاوية الفم، لم ألحظ هذا الخط من قبل، أدرك فجأة أنها لم تعد شابة، لم يبق أمامها إلا شهور قليلة وتبلغ السبعين من العمر، إلا أن أنفها وذقنها وشفتيها وكل ما في وجهها يبدو طفوليا، كما كانت في المدرسة الثانوية، ولا شيء يخرجها من الطفولة إلا هذا الخط الوحيد الذي بدا أنه ظهر فجأة على وجهها كأنما طعنة مباغتة أصابت نصف وجهها الأيسر، أو صفعة حادة غيرت موضع الفك فتحرك نحو الأنف، أكاد أرى الأصابع مرسومة فوق الخد الأيسر، تشبه أصابع زوجها الدكتور مصطفى، كانت له كف كبيرة ضخمة تشبه قدم الفيل.
وعلى مهل ومن دون أن أوقظها طبعت على خدها قبلة خفيفة كأنما بهذه الملامسة السريعة أمسح نصف قرن من الألم الغائر في اللحم. •••
منذ كتابه عن أبي ذر الغفاري والاشتراكية في الإسلام لم يكتب مصطفى الزهيري إلا مقالات قصيرة تنشرها صحف الحكومة في مصر وصحف حكومية أخرى في عدد من البلاد العربية، تصله المكافآت بالدينار أو بالدولار على شكل شيكات، تكون فوق مكتبه قبل النشر، إلا أن كلمة الاشتراكية سقطت تماما من مقالاته منذ السبعينات، وسقط أبو ذر الغفاري في الثمانينيات، ولم يبق في التسعينيات إلا الإسلام ووجه الله الكريم. أعلن الدكتور مصطفى الزهيري في أحد المقالات أنه رأى الله، ومنذ ذلك المقال ظهرت الزبيبة السوداء فوق جبهته العريضة، والسبحة الصفراء بين أصابعه لها فصوص تلمع في الظلمة، وأصبح أستاذا له لحية طويلة بكرسي في أرضي الحجاز بجوار الحرمين الشريفين، وفي مصر أصبح يملك الخمسة «عين»، وعيونا أخرى تتجاوز أحلام طلبة الطب والكليات الأخرى، ومنها شارع وجامع في مصر الجديدة أصبح يحمل اسم الزهري، ومكتبة كبيرة وقاعة سينما واسعة لعرض الأفلام الدينية في رمضان وموائد الرحمن لليتامى والمساكين.
حين تزوج صفية منذ أربعين عاما على الوفاء والصدق حكى لها عن حبه الأول لابنة العمدة، حين تزوجت ابن خالتها التاجر بالموسكي، صام عن الطعام ثلاثة أيام، في اليوم الرابع قرصه الجوع، كان يوم الجمعة وأمه تخبز أمام الفرن تساعدها واحدة من البنات اليتيمات، تكسب قوت يومها بمساعدة النساء في الخبيز. حملت أمه الخبز الساخن مع الجبن والمخلل وخرجت إلى زوجها في الحقل، كان يوما شتويا باردا، وقبع الدكتور الزهري - وكان عمره عشرين عاما - على ظهر الفرن يلتهم الرغيف والبنت اليتيمة الصغيرة كانت تقاومه بذراعيها وساقيها، تستحلفه بالله والرسول أن يتركها، ولم يتركها وقد تخيلها حبيبته الأولى ابنة العمدة، إلا أنها بلا أم ولا أب، ولن يصيبه أذى إذا انكشف الأمر، وفعلا ظل الأمر طي الكتمان، ولم يعرف شيئا عن البنت منذ حادث الفرن. غادر القرية إلى القاهرة، استأجر غرفة في شارع الملك. كانت له مع البنات والنساء مغامرات، حكى لصفية عنها بزهو كثير، كأن الفساد الأخلاقي هو الرجولة، وسألها عن حياتها السابقة، كانت صفية عذراء لم يمسسها بشر، إلا أن قلبها مليء بالإثم. في المدرسة كانت تعلق في عنقها صورة مرقص، لم تعرف في حياتها إلا هذا الحب العذري، لم يقبلها أحد على شفتيها أو خدها، حرقت الصورة ومعها الذكرى قبل الزواج، وفي ليلة الزفاف أرادت أن تقول الصدق، حكت لزوجها قصة حبها الوحيدة، نسي كل شيء في الكون إلا هذه القصة، وإن شردت عيناها لحظة نحو السماء بعد أربعين عاما يسألها: بتفكري في الدكتور مرقص؟! - كان عنده شك فيك يا صفية رغم السنين دي كلها؟! - أبدا، كان عنده شك في نفسه طول الوقت، رغم جسمه الطويل العريض وغزواته مع البنات والستات كان عنده شك في رجولته، ودايما يبلع فيتامينات ويشتري برطمانات زيت كبد الحوت وملكات النحل، وكل ما يسمع عن أقراص جديدة للتنشيط الجنسي يشتريها، حتى حبوب الفياجرا، لكن المشكلة مش الجنس، المشكلة الشرخ في الشخصية من الطفولة، الفساد اللي ينخر في العضم، أبوه كان كده وجده، ويظهر إن معظم الرجال بالشكل ده إلا القليل جدا، ويمكن كلامك صحيح يا نوال عن النظام الطبقي الأبوي، كنت دايما أعارضك وأقولك طبقي إيه وأبوي إيه، لكن أخيرا فهمت بعد أربعين سنة جواز وكنت مش عارفة حاجة، ومشغولة بالعيال والشغل في المستشفى، وهو كان المدير لا شغل ولا مشغلة، ييجي آخر الليل ويقول كان في اجتماع مع الوزير، وبعد ما انحال على المعاش بقت الحجة السفر في المؤتمرات، والحقيقة إنه كان متجوز واحدة تانية ، وعايش معاها أكثر من عشرين سنة وأنا مش داريانة، ولما عرفت قالي ده حقي حسب القانون والشرع، وإن كان مش عاجبك نعمل طلاق، قلت له نعمل طلاق، راح رافع إيده وضربني، حسيت إن عيني الشمال طارت، ولعن أبويا وأمي وقال: كان لازم أطلقك من أربعين سنة من أيام سي مرقص أفندي بتاعك!
بعد ساعة نهضت صفية وعادت إلى بيتها، لم يطلقها زوجها ولا هي طلبت الطلاق، جاءني صوتها مستسلما عبر أسلاك التليفون: طلاق بعد أربعين سنة يا نوال وأروح فين؟ ... أبويا مات وأمي ماتت والعيال اتجوزوا وما عنديش بيت إلا بيتي، يروح هو مطرح ما يروح وأنا في بيتي لغاية ما أموت، وعندي معاشي ومش عاوزة حاجة من حد، ولكن أي بنت تسألني: «أقول لخطيبي بصدق عن حياتي قبل الخطوبة؟» أقول لها: «تبقي حمارة لو قلتي والدنيا دي ما ينفعش فيها إلا الكذب!»
الشرفة في الدور السادس والعشرين
يوم من أيام يوليو الحارة عام 2000، أجلس في الشرفة المطلة على النيل في الدور السادس والعشرين، منذ عودتي من المنفى وأنا أعيش في هذه الشقة الصغيرة في حي شبرا القديم، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج. لم يعد هناك داخل وخارج، أو شرق وغرب، أو شمال وجنوب، أو العالم الإسلامي والعالم المسيحي. نحن نعيش في عالم واحد يحكمه نظام طبقي أبوي منذ نشوء العبودية، تغيرت أشكال العبودية تحت أسماء جديدة؛ منها العولمة وحرية السوق، والخصخصة والخصوصية، يتربع على قمة النظام العالمي الجديد أقل من خمسمائة شخص يملكون أكثر من نصف ثروة العالم، ويعيش مليار ونصف من البشر تحت خط الفقر، أغلبهم نساء وشباب وأطفال، يعيشون داخل هذه البيوت على شكل العشش، أراها من حولي، تمتد من شبرا إلى إمبابة وبولاق وروض الفرج، ومن نزلة السمان عند سفح الأهرامات إلى القلعة والسيدة زينب وسفح المقطم، تتساند البيوت القديمة الآيلة للسقوط إلى جوار المباني الجديدة الفاخرة، يتربع على العرش في بلادنا قلة قليلة تملك الثروة والسلطة والسلاح، والاتصالات بالخارج، من حولها نخبة مثقفة تعيش في كنفها، تحول جرائمها إلى بطولات. تحت اسم الديموقراطية يتم ذبح الديموقراطية، تحت اسم حقوق الإنسان يتم ذبح حقوق الإنسان، تحت اسم حقوق المرأة يتم ذبح حقوق النساء. من يختلف في الرأي عن الفرد الحاكم أو الأفراد الحاكمين يجد نفسه في السجن دون محاكمة، أو محاكمة شكلية تختفي فيها العدالة، يفقد الإنسان سمعته الأدبية أو الوطنية، يتحول من مدافع عن حقوق الفقراء والنساء إلى خائن للوطن، يتم اختزال الوطن إلى أفراد قلائل أو فرد واحد يجلس على العرش، مثل فرعون القديم الحاكم والإله في آن واحد.
Shafi da ba'a sani ba