227

Takarduna … Rayuwata

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Nau'ikan

رفعت اليد الملفوفة بالجبس وضربت الوجه داخل المرآة، انكسرت، وانقسم وجه المرأة قسمين، أصبح لها وجهان، في كل وجه عين واحدة.

استدرت لأرى المرأة العجوز ورائي، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، ترمق ذراعي داخل الجبس بنظرة الحدأة المستكشفة، «حصل إيه كفى الله الشر يا دكتورة نوال؟»، «أبدا ما فيش حاجة يا طنط، رميت نفسي من البلكونة»، ثم ضحكت، ضحكت هي الأخرى غير مصدقة ما أقول، أدركت أن الحقيقة حين أقولها لا يصدقها الناس. وكان ابنها حين يسألني «أتحبينني يا نوال؟» أرد بسرعة: لأ. يضحك غير مصدق ما أقول. وقالت أمه في اليوم التالي: خدي إجازة من المستشفى يا دكتورة عشان صحتك وصحة العيل اللي جوه بطنك. ترمق بطني بنظرة حانية كأنما ترى حفيدها، ابن ابنها الغالي، تضمه داخل جفونها، تصعد نظرتها إلى صدري ثم وجهي، تلتقي عيناها بعيني، ترمقني بنظرة الحدأة.

لا شيء يربطني بهذه المرأة أو ابنها إلا الجنين في أحشائي، قطعة من هذين الغريبين داخل جسدي. فكرت في التخلص من جسدي، راودتني فكرة الانتحار، نظرت إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبي، الرواية! تشدني إليها لأكملها قبل أن أموت، قررت تأجيل موتي إلى بعد الانتهاء من الرواية. •••

لم أعد قادرة على الكتابة، أمسك القلم بيدي اليسرى، أصابع اليد اليمنى لا تزال ضعيفة بعد إزالة الجبس، لا أستطيع أن أمسك القلم بين أصابعي، ينزلق من بينها كأنما هي فاقدة الحياة، أعيدها إلى الحياة يوما بعد يوم بالتدريب، تمرينات لعضلات الأصابع والمفاصل، تحريك المعصم، تحريك الذراع، تكرار التمرينات عشر دقائق كل ساعة، أهبط إلى الحديقة الصغيرة خلف البيت أمسك فأسا صغيرة، أشتغل بها كل يوم نصف ساعة، ثم أجلس تحت شجرة الكافور، ترمقني عصفورة صغيرة واقفة فوق الفرع بعيون حزينة.

إنه عام 1960، عام الهزيمة الصغرى، هزيمتي الخاصة وانسحابي من الحياة، حنيني إلى الموت، أيام الحزن العميق والأحداث المؤلمة الساقطة من الذاكرة، لولا النسيان ربما مات الإنسان، داخل خلايا المخ مصفاة تنقي العمر من لحظات الضعف والهزيمة، تلقي بها في قاع التاريخ، تظل كامنة في البئر، داخل قوقعة سميكة، جرح مفتوح غائر في اللحم، نظن أنه التأم، فإذا ما حلت بنا هزيمة أخرى أدركنا أنه لم يلتئم، يطل من تحت الجلد مثل رأس الدمل، إن هي إلا هزة واحدة حتى تسقط القشرة وينزف الجرح.

ثلاثة شهور من الحزن، كنت في التاسعة والعشرين من عمري أرى نفسي عجوزا في نهاية حياتي، أنشد الموت وأنا راقدة إلى جواره في السرير العريض، أحمل في أحشائي جزءا منه لا أعرف كيف أتخلص منه، أبحث في أركان البيت عن سم أبتلعه، أفتح العلبة السوداء في الصيدلية الصغيرة البيضاء فوق الحوض، أبتلع الحبوب السامة حبة وراء حبة ثم أتوقف فجأة، يلوح لي وجه ابنتي الطفلة تبكي على موت أمها، عيون أخواتي الأربع القاصرات بلا أم ولا أب، ليس لهن في الحياة إلاي، تنهمر دموعي ... أبكي عليهن قبل أن أبكي على موتي.

فوق المائدة في الصالة تتراكم الصحف، تأتيني كل صباح من تحت عقب الباب، أركلها بقدمي. صورة الدكتور حمدي زوج صديقتي بطة تظهر في الصحف، يدلي بتصريحات عن الديموقراطية، يردد ما يقال عن أعداء الثورة، يدعو الله أن ينزل عليهم الطير الأبابيل، تجعلهم في بئر سجيل. كل من يعارض جمال عبد الناصر يصبح من أعداء الثورة، كل من يرى أن الوحدة الاندماجية لن تنجح بين مصر والعراق. فشلت الوحدة بين مصر وسوريا، أصبح رجاء الشاعر من أعداء الثورة، طارده البوليس حتى هرب إلى باريس، أسعد شقيق صفية دخل المعتقل ومعه رفاعة زوج سامية. تمط شفتيها وتقول: شوية عساكر يا نوال مسكوا الحكم وعاملين إرهاب في البلد! •••

مسرح الأحداث في حياتنا الخاصة هو السرير، ربما أيضا مائدة الطعام، يدور كل شيء داخل الأربعة جدران، قد يتسرب شيء خارج الأبواب المغلقة إلى آذان الجيران، ارتطام أجسام بالحوائط والجدران، تكسير الصحون وتطاير الشظايا في الجو، زعيق متدرج الصوت يعلو وينخفض، ثم يدب الصمت. في الصباح ينخرط الزوج في عمله، تنخرط الزوجة في عملها، يعود الاثنان في نهاية اليوم إلى مكانهما بين الجدران الأربعة، حيث تتكرر المأساة.

كانت تحلم كل ليلة بالفرار دون جدوى، لماذا كانت تعجز؟ الخوف من الفشل للمرة الثانية في الزواج؟ الخوف من ألسنة الناس؟ الخوف من الوحدة؟! رغم أن الوحدة كانت تبدو لها مثل النجمة بعيدة المنال! اهو التناقض التاريخي في عتمة هذه العلاقة التي يسمونها الزواج؟

كنت أتفادى الخروج معه إلى حيث يرانا الناس، قامتي أطول من قامته، يدي سمراء محروقة بالشمس، أصابعي طويلة رفيعة، أصابعه قصيرة ممتلئة بالراحة وعدم العمل، قدمه صغيرة بيضاء شاحبة لم تلمسها الشمس، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، خطوته ضيقة مترددة مهتزة، لم يكن لي أن أراه يمشي حتى يعتريني المرض، لا أعرف هل أستسلم للقلق أم أسرح في الأحلام، يمشي بجواري في المدينة المكتظة يهز ذراعيه، كأنما له ذراع أقصر من ذراع، جسمه يهتز بحركة تؤلم العين، عضلاته مرتخية من طول الجلوس في المكتب والبيت، يركب السيارة من البيت إلى المكتب، لا يمشي، لا يمارس الرياضة، ذراعه إن تعرت تبدو بيضاء تكشف من تحتها عروقا طويلة متعرجة تمشي فيها دماء زرقاء، أرمقها بدهشة مع أنها عروق طبيعية؛ فالدم الأحمر يبدو تحت الجلد بلون أزرق. كنت أنسى الطب والمنطق، يصيبني القلق كلما تعرت ذراعه، كأنما كشف عن عاهة مستديمة، يتباهى بها أمام الرجال، ينافسهم فيما يسمونه الذكورة، أنكمش داخل نفسي خزيا، أبقى في مكاني مسمرة مذهولة لا أعرف إن كنت في حالة من اليقظة أو أغط في النوم.

Shafi da ba'a sani ba