Takarduna … Rayuwata
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Nau'ikan
كانت الفكرة هي صنع عدد من الثقوب في القماش ببوز المقص، هكذا يحدث الإتلاف للكفن الحريري ولا يصلح للسرقة، أمسكت المقص بيد ثابتة كأنه المشرط، باليد الثانية أمسكت الكفن فوق صدر أمي، رفعته عن جسدها حتى لا يصيبها المقص، ارتطم بوز المقص بصدرها فارتعشت، تصبب العرق يجري فوق ظهري وأنا متكورة داخل القبر، سمعت صوت أبي يناديني: يا نوال اطلعي، امسكي في إيدي!
رأيت ذراع أبي ممدودة إلي من فوق رأسي، كالحبل يمدونه إلى قاع البئر، ينتشلون به الغرقى، أمسكت بأصابعي الخمسة في يد أبي وصعدت إلى سطح الأرض، أنفض عن ملابسي التراب، وجهي وشعري بلون التراب، جسدي يغطيه التراب، كالموءودة يخرجونها من القبر، قلبي تحت ضلوعي لا ينبض.
في البيت أخذتني أم إبراهيم إلى الحمام، غسلت عني تراب القبر، دلكت قدمي وساقي: «خالتك هانم دي زي التعابين، ناعمة من بره ومن جوه سكين، كان لازم هي اللي تنزل وتقص كفن أختها شقيقتها بنت أمها وأبيها، وهي ست كبيرة وجامدة لكن أنت يا ضنايا لسه صغيرة، كان بدري عليكي تشوفي كل اللي شوفتيه يا ضنايا ... ربنا يعينك.»
في الليل أحاطتني بذراعيها، كنت أهذي بالحمى، راقدة في الفراش، أمد عنقي فوق الغطاء طلبا للهواء مدفونة في الأرض أبحث عن ثقب للخلاص، جسد أمي داخل الكفن معه جسدي، كلانا جسد واحد لا ينفصلان، تحوطني ذراعاها تحت الكفن ثم تتركني لتموت وحدها، ثم تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثم ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معا تحت الكفن هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثم الانفصال، ثم الاتصال والانفصال من جديد، كنا نلعبها في بحر الإسكندرية وأنا في الخامسة من العمر.
في منتصف الليل كنت أنهض من سريري، نسيت أن أمي ماتت، سمعت صوتها يناديني من غرفتها، أسير على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها، في سريرها أبي نائم مكانها، كان ينام على الكنبة في الصالة وهي مريضة، فتح عينيه ورآني: صاحية ليه يا نوال؟ - الساعة كام يا بابا؟ - الساعة أربعة ونص يا نوال الفجر يا دوب طلع! - ياللا يا بابا نروح نشوف ماما يمكن الكفن انسرق وبقيت عريانة!
قضيت عدة ليال مؤرقة، جاء يوم الخميس ذهبت مع أبي لزيارة أمي في المقبرة، يسمونها القرافة، بالقرب من جبل المقطم اسمها «الغفير» بناها المرحوم جدي شكري بيه، من الحجر الأحمر، تشبه البيت الصغير، يحوطه حوش كبير وسور حجري، وباب حديدي صغير، له مفتاح في جيب الحارس، يرتدي جلبابا طويلا متربا ويداه مشققتان، يشبه الحانوتي وفراش المشرحة، يوم الخميس هو يوم زيارة الموتى، امتلأ الحوش الواسع بالكراسي الخيزران ، جلست عليها النسوة من عائلة شكري بيه، الفساتين الجديدة السوداء من الحرير اللامع، الطرح الشفافة الهفهافة تنحدر في أنوثة ناعمة على الجبين، الشق بين النهدين يطل من فتحة «العنق» «الدي كولتيه»، رائحة البودرة والعطور الفرنسية، كلمات عربية ركيكة تنقلب فيها الضاد إلى دال والقاف إلى كاف، تتخللها بعض كلمات فرنسية أكثر ركاكة، يتهامسن بأخبار العائلة وآخر الفضائح، فلان ماشي مع فلانة وفلان اتجوز على مراته وفلانة ماشية مع فلان، ثم تفتح الواحدة منهن فمها عن آخره وتطلق الصوت: كان بدري عليكي يا حبيبتي يا زينب!
تستريح وتسترخي في المقعد ثم تطلق التنهيدة العميقة كأنما تشدها من قاع الحوض، تطلق سراح الحزن المتراكم في جوفها، تسري التنهدات في أذني وأنا واقفة، أخشى أن أقترب وإلا أصبحت واحدة منهن، تتراخى أجسادهن بعد عدد من الصرخات، يتمدد اللحم داخل الفساتين الضيقة، تنفرج الشفاه المدهونة بالروج، تفرد كل منهن ذراعيها تتمطى، ترفع وجهها نحو السماء تتلقى شعاع الشمس، تلمع عيناها بالسعادة لأنها لم تمت وغيرها مات، ثم تنهال بأسنانها على فطيرة الرحمة تأكلها عن آخرها.
كنت آخر من غادر المقبرة، أدور حولها وأعود، هناك شيء نسيته، أبحث فوق الأرض وفي الأركان، يرمقني الحارس بعينين ضيقتين، إحدى عينيه مغلقة تماما، العين الثانية نصف مفتوحة تبربش، هل أحكم إغلاق المقبرة؟! هل تسلل في الليل وسرق الكفن رغم الثقوب بالمقص؟ أسرق أمي كلها وباعها لفراش المشرحة؟ - افتح يا عم محمد عاوزة أشوف ماما! - ما اقدرشي أفتح القبر يا ضكطورة. - ليه يا عم محمد؟ - حرام نفتح عليها، ربنا في كتابه الكريم قال ... - ربنا ما له يا عم محمد؟
تدخل أبي بيني وبينه: «يا نوال، اطمئني، عم محمد راجل طيب ولا يمكن حد يقدر يقرب من المقبرة.» خرجت مع أبي من الحوش، أغلق الحارس وراءنا الباب، يرمقني بعين مفتوحة والثانية نصف مفتوحة تبربش، كانت له عين مغلقة تماما فكيف انفتحت؟ الشكوك تملؤني، أستدير وأنا أمشي لأرمق الباب الحديدي الصغير، أتوقف لحظة كأنما سأعود، يحثني أبي على مواصلة السير، أمشي إلى جواره حتى نهاية الزقاق، أستدير وألقي نظرة على الباب المغلق كأنما سيفتح، كأنما الباب فعلا سيفتح وتخرج أمي عارية الجسد بلا كفن، أطرد الصورة عن عقلي وأسير إلى جوار أبي، خطوتي ثقيلة، والباب الحديدي لا يزال في عيني، في النوم أفتح الباب وأدخل، أحفر الأرض وأقفز داخل الثقب، أسقط في البئر فوق قدمي كما تسقط القطط، كانت المقبرة غويطة أكثر مما كانت، مظلمة شديدة الظلمة، سقفها منخفض، أحني ظهري وأنا أمشي، ذراعي ممدودة أمامي، في يدي كشاف أبحث بين الجثث عن أمي، عدد كبير من الموتى الملفوفين في الأكفان القديمة، رأيت المرحوم جدي والمرحومة جدتي وجميع الرجال والنسوة من عائلة شكري بيه، دست بقدمي على جمجمة تشبه الجمجمة الموجودة فوق مكتبي، لها شارب طويل يشبه شارب جدي، كدت أنكفئ فوق وجهي، لمحت كفن أمي الحريري الأخضر، ولمعة الحرير الجديد، ولأنني أعرف شكل جسد أمي، استداراتها الخاصة عند الكتفين والردفين، الثدي الغائب ناحية اليسار فوق القلب، نفضت الغبار عن صدرها الناعم، أحكمت الثوب الحريري الأخضر حولها، أغلقت النافذة والباب حتى لا تصاب بالبرد، تركتها نائمة وأطفأت النور. ••• - ماما رايحة الجنة يا نوال، الجنة تحت أقدام الأمهات.
صوت أبي يكلمني حين أفكر في مصير أمي، لم أعد طفلة أصدق كل ما يقوله أبي، أنا في السابعة والعشرين من عمري، طبيبة متعلمة، أعالج الأمراض، أعرف أن الموت حقيقة مثل الجسد، والجسد إن ذهب ذهبت معه الروح. - وأين تذهب الروح حين تذهب؟!
Shafi da ba'a sani ba