Takarduna … Rayuwata
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Nau'ikan
داخل الميكروسكوب أتأمل جرثومة الدرن، ألا يمكن أن أكتشف شيئا يقتل هذه الدودة الصغيرة؟! أتلفت حولي في معمل المستشفى، رفوف خالية يعلوها التراب، تشبه الرفوف في مكتبة المدرسة الثانوية، الكتب القديمة الصفراء الورق غلافها مقطوع، كالبرطمانات المشروخة الزجاج بلا غطاء، الموظف يرتدي مريلة بيضاء مبقعة بجميع الألوان، عيناه صفراوان كالمصابين بداء الوباء الكبدي: «عاوزة حاجة يا ست الدكتورة؟!» - «أيوه عاوزة أعمل بحث.»
كلمة «بحث» لم تكن واردة حينئذ، الأطباء يعالجون الأمراض، لا علاقة لهم بالبحث، قابلت مدير المستشفى يجلس وراء مكتب ضخم، لا أرى منه إلا الرأس الأصلع، تعلوه صورة رئيس الدولة داخل برواز ذهبي عريض، عيناه تتسعان تحت النظارة الزجاجية والحاجبان يرتفعان: بحث إيه يا دكتورة نوال؟ المعمل عندنا يا دكتورة يا دوب للتحاليل، والبحوث الطبية يلزمها عقول وإمكانيات مش موجودة، وعاوزة تعملي بحث عشان إيه؟ - «عشان أكتشف علاج للدرن الرئوي.»
هل نطقت شيئا خارج حدود العقل؟ لماذا يرمقني بهذه النظرة الساخرة؟ - الاكتشافات يا دكتورة تحدث في أوروبا مش في مصر، باستير في فرنسا، كوخ في ألمانيا، دارون في إنجلترا، بافلوف في روسيا، حتى البلهارسيا المرض المتوطن في مصر من مئات السنين لم يكتشفه طبيب مصري، عارفة اكتشفه مين؟ خواجة اسمه «بلهارس».
صوته يرن في أذني كنعيق البوم، ملامحه تبدو صلعاء مثل رأسه، يؤمن بتفوق العقل الأوروبي على العقل المصري، درس الجراثيم فقط ولم يدرس التاريخ: «يا دكتورة الطب في العالم بدأ في مصر، التشريح والتحنيط، ورئيسة الأطباء كانت امرأة هي الإلهة «سخمت»، الأطباء العرب معروفون في التاريخ منهم «ابن سينا» والطبيب «الرازي»، وأنا عندي عقل وممكن أكتشف شيء في الطب، إذا كنت مصرة على حكاية البحث يا دكتورة نوال اكتبي طلب على عرضحال وحطي عليه الدمغة وأنا أحوله لوكيل الوزارة، يمكن يكون لك حظ وتسافرين فرنسا، هناك معهد «باستير» تقدري تكتشفي فيه علاج للسل والسرطان وكل حاجة، يعني أنت أقل من الست مدام كوري اللي اكتشفت الراديوم؟»
كتبت الطلب وبدأت أحلم بالسفر، في الليل أحرك ذراعي وأطير فوق البحر المتوسط، أجتاز اليونان وإيطاليا وأهبط في فرنسا، لا أعرف كيف أهبط، ربما أنا داخل الطائرة، لم أركب طائرة من قبل، أراها فقط في الجو، لا يزيد حجمها عن الحمامة، كيف يدخل جسمي الفارع الطويل داخلها؟! كيف أتحول إلى نقطة سوداء داخل السحب البيضاء تذوب شيئا فشيئا؟!
لم أعرف أن وزارة الصحة مثل المستشفى، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، لم تكن الطلبات فوق العرضحالات تخرج من الوزارة، إنها تدخل ولا أحد يعرف مصيرها إلا عفاريت الجن: «أصل السيد الوزير لازم يؤشر على الطلب يا دكتورة نوال.» - «طيب، والطلب فين دلوقتي يا أستاذ؟» - «مش عارف، المهم أنه مشي من عندي يا دكتورة، جايز يكون راح مكتب السيد المدير العام، أصله لازم يروح الأول للسيد المدير العام، بعدين يطلع للسيد الوكيل، بعد كده يروح لمكتب السيد الوزير.»
أخذت إجازة مرضية من المستشفى، الوجع في صدري يمتد من الرئة إلى القلب إلى الروح، أشعر بالتعب حين أصحو من النوم، لا يضيع الوجع إلا في الحلم، إنه طفلي المقدس، أهدهده وأنا نائمة، يتحول بين ذراعي إلى جسد دافئ ذراعاه تلتفان حولي كمياه النهر، إن هبت العاصفة يصبح شلالا يبتلعني، أفتح جفوني في الظلمة قبل أن يدمرني، أمد يدي تحت الوسادة أتحسس القلم والكشكول، دون أن أضيء اللمبة أكتب، أدفع اليأس بالكتابة، أثبت سن القلم فوق الورقة كأنما أثبت حياتي، إن لم أثبتها تفلت من يدي، يأخذها مني إله العدم، كالمحمومة ألهث وأنا أكتب، كأنما سأموت قبل أن أكمل العبارة، أريد أن أكملها وأمضي، لا يمكن أن أذهب دون أن أقولها، ما دمت موجودة فالموت غير موجود، وحين يحل بي الموت لن أكون موجودة، فلماذا لا أكتب ما أريد؟
لتذهب وزارة الصحة إلى الجحيم، لا أريد أن أبقى فيها ولا أريد السفر، كل ما أريد هو أن أحاجج الرب كما حاججه سيدنا أيوب، عندي من الصبر ما كان عنده ويزيد، فأنا ميتة والموتى خالدون، لم أدرك موت أمي إلا بعد موتها بوقت طويل، يعجز العقل عن إدراك الموت إلا بعد رحيله، أم إبراهيم كانت تقول: «السكينة سارقاكي يا ضكطورة.» الدجاجة المذبوحة لا تحس بالسكين، الموت أنواع ودرجات كالحب، كلها مصنوعة من الوهم ما عدا موت الأم.
الفصل السابع
ليس لأمي مكان في الجنة
Shafi da ba'a sani ba