Takarduna … Rayuwata

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
171

Takarduna … Rayuwata

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Nau'ikan

تخرج كلمة «المير دي دييه» من تحت شاربه الأسود الضخم رقيقة منفردة، صديقتي بطة تخرجت من هذه المدرسة الفرنسية، كانت تتفاخر بها، تمد عنقها كالديك الرومي وتقلب الراء إلى غين «الميغ دي دييه» الكلمة تعني بالعربية «أم الله»، عبارة كافرة في الإسلام، الله ليس له أم، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان اليوزباشي علاء في الإخوان المسلمين من أعوان كمال الدين حسين، «إزاي يا أستاذ علاء تبقى مسلم وموحد الله وتدخل مدرسة أم الله؟»

السؤال كان مفاجئا، ربما لم يكن يعرف أن المير دي دييه تعني أم الله، تصاعد الدم إلى وجهه، أخرج من الجراب صورة والده: «أنا كنت طفل يا دكتورة وطبعا والدي هو اللي دخلنا المدرسة، مستوى التعليم فيها كان مرتفع عن مدارس الحكومة، كل العائلات المحترمة في مصر كانت تعلم أولادها في المدارس دي، والدي كان أميرالاي في الجيش أيام الملك فاروق، بعد الثورة أصبح في البيت، مالوش شغلة غير أنه يشتم جمال عبد الناصر، وكل ليلة يحلم إنه ضربه بالرصاص، يصحى من النوم يسمع صوته في الراديو يعرف إنه لسه صاحي، يتنكد طول النهار، رفع إيده عليها وضربها، صممت على الطلاق بعد ثلاثين سنة زواج.»

كان يرشف القهوة ويحكي، ملامح أبيه في الصورة تشبه السفاحين، «وكان والدك بيضربك وأنت طفل؟» أعاد الصورة إلى الجراب وابتسم: «والدي كان راجل عسكري يؤمن بمبدأ الطاعة أو الضرب.»

في المعسكر يدربنا اليوزباشي علاء على الرماية، رئيس الوحدة العسكرية في بنها كان يزور المعسكر أحيانا، يقف أمامه اليوزباشي علاء كالتلميذ المؤدب «حاضر يا افندم» يؤدي التحية الموروثة منذ الاحتلال التركي، يخبط كعبيه، يرفع ذراعه اليمنى حتى يلامس إبهامه جبهته، مع الشباب من الفلاحين ينقلب الحمل الوديع إلى أسد، يخاطبهم بلهجة آمرة، إن أخطأ أحدهم يشتم أمه وأباه «يا ابن ال ...» وفي يده عصا من الخيزران يلسع بها أجسامهم، في يوم رأيته يضرب أحد الشباب في المعسكر، تذكرت طنط نعمات حين كانت تضرب الخادمة شلبية، وأمي حين كانت تضرب السجادة العجمية، كان الشاب غلاما تطوع في فريق المقاومة الشعبية، نحيف الجسم يرتدي جلبابا قديما، بشرته سمراء تعلوها بقع بيضاء علامة المرض بالأنيميا أو فقر الدم، مرض معروف في الطب باسم البلاجرا، نقص في الغذاء يصيب نهايات الأعصاب بالتبلد، منتشر بين أبناء الفلاحين الفقراء، يؤدي إلى الخمول والفهم البطيء، لم يكن الغلام يلبي الأوامر بالسرعة الواجبة، ينهال عليه اليوزباشي علاء بالعصا الخيزران، يهبط بها على الجسم الهزيل، لا يلين للتوسلات، يزداد قسوة كلما ازداد الغلام ضعفا، العصا الخيزران في يده كالكرباج، يمسكها بأصابعه الغليظة، ينتقض جسده الضخم كالدب الأبيض، ينفض عن فروته الغضب كرذاذ الماء، كالمياه الراكدة تحت الجلد، مكبوتة في ثنايا اللحم منذ الطفولة، ينتفض مع انتفاضة الغلام المضروب، الضارب نفسه بنفسه، ويغمض عينيه، يجز على أسنانه، يرفع العصا عاليا في السماء، كأنما يضرب السماء، بالضبط كان يضربها، كأنما هي الهدف، أو الوجه المتخفي وراء السحابة، له ملامح أبيه، مرسوم عليه كلمة الله.

وقع الاعتداء الثلاثي، دخل جيش إسرائيل سيناء، تبعته جيوش إنجلترا وفرنسا في دخول بورسعيد، منذ أنشأها الإنجليز في عام 1948م أصبحت دولة إسرائيل هي أداة الاستعمار في العالم العربي، كلمة الاستعمار غير صحيحة مشتقة من الفعل «يعمر»، ما يفعله الاستعمار هو «الخراب» وليس العمران، الكلمة الصحيحة هي «استخراب».

منذ تأميم قناة السويس يتأهب الجيش البريطاني لاستردادها، منذ مساندة مصر للثورة الجزائرية يتأهب الجيش الفرنسي للانتقام، كانت الخطة هي أنه تضرب إسرائيل الضربة الأولى وتحتل سيناء، هكذا تفسح المجال لبريطانيا وفرنسا للدخول تحت الحجة المعروفة: الحماية أو فك الاشتباك!

كان يوم جمعة ، وكنت أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، نسمة الهواء خريفية ناعمة، لم تفقد بعد حرارة الصيف، لم تكتسب بعد برودة الشتاء، أحيط كتفي بشال من الصوف الخفيف، لونه أزرق، اشتغلته بيدي، أدفع أمامي العربة ذات الكبوت داخلها ابنتي، بلغت مشارف الحدود بين طحلة وكفر طحلة، رأيت المظاهرة مقبلة نحوي، عددهم يقارب المائة أو أكثر، تلاميذ وطلاب الأزهر والجامعة جاءوا في الإجازة، يحملون لافتة طويلة من الدمور كتبوا عليها بالخط النسخ «يسقط الاعتداء الثلاثي الغاشم»، بعضهم يحمل صورة جمال عبد الناصر، يتقدم المظاهرة تلميذان يحملان صورة كبيرة لبريطانيا على شكل دب أبيض تربعت فوق رأسه امرأة في قدميها حذاء له كعب عال مدبب كالمسمار يعلو رأس بريطانيا العظمى، يدوي الهتاف. - يسقط الإنجليز اللي بتحكمهم مره! - يسقط الجيش البريطاني جيش النتاية!

كلمة «النتاية» اخترقت رأسي مثل طلقة الرصاص، باللغة الدارجة تعني الأنثى، ترن في أذني أكثر إهانة من كلمة مره، تنطوي على معنى الجنس المدنس، تشملني من رأسي إلى قدمي كأنما أنا هذه النتاية التي يهتفون بسقوطها، كنت أعرف أنهم يشتمون ملكة بريطانيا، فلماذا يشملون معها كل امرأة وكل أنثى؟ كان يرأس فرنسا رجل، فلماذا لا يهتفون «يسقط جيش الذكر!» لماذا لا يشتمون معه كل رجل وكل ذكر؟ إذا أخطأت امرأة واحدة أصبحت كل النساء آثمات كأمهن حواء، وإذا أخطأ رجل واحد فإن رجلا واحدا أخطأ وآدم بريء وكلهم أبرياء.

كنت واقفة جامدة كالتمثال، سارت المظاهرة في طريقها فوق الجسر، تصاعد الغبار تحت أقدامهم يضربون الأرض بقوة، ملأ أنفي التراب مع المهانة، لم أعد الطبيبة التي تعالجهم من الأمراض، الفدائية المتأهبة للسفر إلى جبهة القتال، تحولت إلى كلمة نابية، نتاية، يلفظونها من أفواههم كأنها «نتانة».

كان الشال الأزرق فوق كتفي، هبت عاصفة باردة من ناحية البحر، طيرته في الهواء، جريت وراءه لم ألحقه، رأيته يحلق في الفضاء ثم يهبط إلى بطن الجسر، يرتجف كالحمامة المذبوحة تنزف بدم أزرق.

Shafi da ba'a sani ba