Takarduna … Rayuwata
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Nau'ikan
كنت الليلة أقلب في ذكرياتي وأوراقي القديمة، تحول بعضها إلى ورق أصفر رقيق تآكلت سطوره وبهتت الكلمات، البعض الآخر أتلفه المطر والرطوبة المرتفعة في ديرهام بولاية نورث كارولينا، هذه الرطوبة لا نعرفها في مصر، الهواء هنا يتشبع بالماء، والأفق ينفتح عن سيول كالأنهر تنهمر من جبال سماوية، تذرو الناس ومعهم أوراقهم وذكرياتها، إلا أنني أقاوم، منذ ولدت أقاوم اللامبالاة بأوراقي وكتاباتي.
اللامبالاة تنتقل إلي كأنما بالعدوى، فما جدوى أن أكتب عن قصة حب ماتت منذ أربعين عاما؟ مدفونة كالمومياء في بطن الصحراء على بعد آلاف الأميال في شمال أفريقيا؟!
ومع ذلك، فأنا أبالي، هذه الأوراق هي حياتي، هي حلم طفولتي وشبابي، هذه الذكريات أحبها رغم الألم، أستحضرها، أثبتها في خيالي، فهي قصتي مع الحب حين كنت في العشرين من العمر، أي حب يمكن أن يكون أكثر عمقا من هذا الحب؟ تعاسته كانت نوعا من النشوة، استعذاب الألم يكشف عن آلام جديدة لا يعرفها إلا القديسون والعشاق، لكن لمسة واحدة باليد في المصافحة العابرة، أو نظرة خاصة على البعد كانت قادرة على تحول الألم الهائل العميق إلى سعادة أعمق.
كم أدرك الآن أنه من السهل أن يقع الإنسان في الحب، وأن الصمت في الحب أبلغ من الكلام؛ فاللغة بشرية صنعها البشر، محدودة بحدود عقولهم وأجسامهم وتاريخهم ، لكن الحب يتجاوز التاريخ، يتجاوز العقل والجسد والروح، ويحلق وحده في ملكوت آخر.
من السهل أيضا أن يموت الحب، كما تنطفئ الحياة في غمضة عين، مثل جناح الفراشة يتمزق لأقل لمسة؛ كالدقيق المسحوق الناعم يطير في الهواء بنفخة واحدة، شفاف يكشف ما تحته دون عناء كالهواء. «اللي متغطي بالأيام عريان، واللي متغطي بالحب عريان.» هكذا كنت أسمع من الناس.
أنا وحيدة اليوم تماما، جالسة في غرفة مكتبي، أطل على الحديقة من ورائها غابة ديوك، فتاة أميركية رشيقة جاءت تسقي الزهور، ترتدي بنطلونا من الجينز الضيق، شعرها ذهبي مرفوع إلى أعلى، طالبة عندي في فصل الإبداع، في جامعة ديوك، تقبض من الإدارة مرتبا شهريا نظير رعايتها الحدائق والزهور، تسدد من راتبها نفقات تعليمها وسكنها وطعامها وبنزين سيارتها الحمراء الصغيرة.
يأتي إليها صديقها على باب الحديقة، يدق الكلاكس، تطير إليه كالفراشة كما كنت أطير وأنا في العشري من العمر حين يدق أحمد جرس الباب.
اليوم لم أعد شابة، أصبحت كهلة تجاوزت الستين من العمر، لست سعيدة ولست تعيسة أيضا، أجلس معلقة كالشعرة أو الريشة في منطقة انعدام الوزن، خليط من الذكريات البعيدة الغارقة في الضباب، لا شيء يعيد إلي بهجة الشباب، العزاء الوحيد عندي في هذا القلم أحركه فوق الصفحة الخالية فتمتلئ هذه الكتابة الصامتة من احتكاك سن القلم بالورق، إلا أنها تجلب الماضي أمامي حاضرا، تبعث الحياة في الموتى، تعيد تشكيل الحقيقة لتكشف عن حقيقتها الخفية.
إن ما نسميه حقيقة ليس إلا الغطاء المعتم، مثل: قشرة الأرض، تخفي في بطنها الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة، وإنها الكتابة، هذه الكتابة هي التي تبحث وتبحث حتى تعثر على سبيكة الذهب أو الفضة، على الجوهرة المكنونة.
كانت الكتابة منذ طفولتي هي ملاذي الوحيد، أهرب إليها من الأم والأب والعريس، وبقيت الكتابة في كهولتي أيضا الملاذ الوحيد أو الأخير، التصالح الممتع من خلال الكتابة مع الماضي والحاضر، مع كل ما أصابني في الوطن من جراح.
Shafi da ba'a sani ba