وقد نصوا على أن للشعر مواضع لا ينجح فيها غيره من الخطب والرسائل بل هو يفضلهما.
قال أبو هلال العسكري في كتاب «الصناعتين» وهو يعد هذه المواضع: «ومن ذلك أن صاحب الرياسة والأبهة لو خطب بذكر عشيق له وصف وجده به، وحنينه إليه، وشهرته في حبه، وبكاه من أجله؛ لاستهجن منه ذلك وتنقص به فيه، ولو قال في ذلك شعرا لكان حسنا».
وقد توفي العسكري سنة 395 للهجرة، وعلى كثرة ما حشد في كتابه من فنون النثر وطرائفه لم يأت برسالة واحدة بين حبيبين، إلا ما أورده في باب: (ما يحتاج الكاتب إلى ارتسامه وامتثاله)، قال: وينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتب إليه ... وقد كتب بعضهم إلى حبيبة له: عصمنا الله وإياك مما يكره. قال: فكتبت إليه: يا غليظ القلب! لو استجيبت لك دعوتك لم نلتق أبدا ...!
ولا ريب عندنا أن هذه الكتابة مصنوعة للتمثيل بها في هذا الموضع، كالذي كانوا يصنعونه من الشعر إذا احتاجوا إلى الشاهد والمثل، على ما بيناه في باب الرواية من تاريخ آداب العرب.
ثم هم يخصصون الشعر بالغزل والتشبيب والنسيب؛ لأن الشعر أيسر عملا وأخف مؤنة في هذا الباب؛ إذ يعين بقوافيه على الإبداع في المعاني فإن القافية كثيرا ما تخترع المعنى وتلهمه الشاعر، ثم الشعر يصحبه الوزن واللحن فيعين بنسقه أيضا كما يعين بقوافيه، ثم تجيء ألفاظه مقدودة مفصلة فتكون حلية ثالثة، ثم هو يكتفى منه بالبيتين والأبيات اليسيرة فيجيء كل ذلك على أتمه وأحسنه ويقوم به، بخلاف الكتابة: فلا يجدي فيها السطران والأسطر القليلة في رسالة تصف الحب، وما ستر هناك يفضح هنا، وما أعان في الشعر يخذل في النثر، والشعر إجمال والكتابة تفصيل:
وأنت فاعمد إلى بيتين من رائع الغزل كقول ابن الطثرية:
بنفسي من لو مر برد بنانه
على كبدي، كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله!
Shafi da ba'a sani ba