Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Nau'ikan
75
بين أوهام العقل البشري (
idols ) وأفكار العقل الإلهي (
ideas ). فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي طابع الخالق نفسه على مخلوقاته، وقد انطبع على المادة وتحدد فيها بخطوط حقيقية رائعة.» ومن ثم فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد،
76
وقيمة النتائج نفسها - بوصفها ضمانات للحقيقة - أعظم من قيمة المنافع التي تقدمها لحياة الإنسان. (125) قد يعترض آخرون بأني لا أفعل غير ما كان يفعل من قبل، وأن القدماء أنفسهم اتخذوا نفس المسار الذي أتخذه الآن؛ ومن ثم فمن المرجح أنني - أنا أيضا - بعد كل هذا العناء والصخب سوف أرسو في واحد من هذه المذاهب التي سادت في الأزمنة القديمة؛ فالقدماء أيضا كانوا حين يبدءون تنظيراتهم يذخرون مخزونا هائلا من الأمثلة والجزئيات، ويرتبونها في رسائل بأبواب وعناوين، ويشيدون منها فلسفاتهم وفنونهم، وبعد ذلك عندما يفهمون المسألة يذيعونها على العالم، مضيفين بضعة أمثلة هنا وهناك للبرهان والتوضيح، ولكنهم كانوا يرون أن من الزائد والمضجر أن يطبعوا ملاحظاتهم عن الجزئيات ومدوناتهم ورسائلهم، وهكذا كان شأنهم شأن البنائين الذين بعد أن ينتهوا من بناء البيت يزيلون السقالات والسلالم من المشهد. هذه بغير شك هي العملية التي كانت تتم ولا يمكن أن يتصورها المرء غير ذلك. غير أن هذا الاعتراض (أو بالأحرى الوسواس) سيكون من السهل أن يرد عليه أي شخص لم ينس تماما ما قلته آنفا؛ فأنا أيضا أسلم بأن هناك شكلا من البحث والكشف كان بين القدماء، وهم أنفسهم قد بينوه بوضوح في كتاباتهم. وهو ببساطة أنهم «من خلال بضعة أمثلة وجزئيات (مع إضافة تصورات شائعة، وربما جرعة ما من أكثر الآراء رواجا) كانوا يقفزون قفزا إلى المبادئ الأكثر عمومية أو المبادئ الأولى للعلم. وإذ يأخذون صدق هذه المبادئ الأولى كأمر ثابت لا يتزعزع، فإنهم ينطلقون منها إلى استنباط الاستنتاجات الدنيا بواسطة قضايا وسطى، ويختبرونها بعرضها على محك المبادئ الأولى الصادقة صدقا ثابتا لا يتزعزع، ومنها يشيدون الفن. وأخيرا فإنهم إذا ظهرت في الأفق جزئيات جديدة تناقض وجهات نظرهم فإنهم إما يسلكونها بمهارة في المذهب بواسطة تحديدات وتفسيرات لقواعدهم نفسها»،
77
وإما يتخلصون منها برعونة على أنها استثناءات. أما الجزئيات التي لا تتعارض مع قواعدهم فكانوا يقيضون لها - بتكلف وعنت - عللا تتماشى مع مبادئهم. ولكن ليس هذا هو التاريخ الطبيعي والخبرة كما كان ينبغي أن يكونا، كما أن قفزهم إلى التعميمات قد دمر كل شيء. (129) يبقى أن أقول بضعة أشياء عن نبل الغرض (من عملي هذا)، وإذا كنت قد عرضت قبلا لهذه الأشياء، فربما بدا ذلك من جانبي مجرد أماني، فأما وقد أحييت الأمل وأزلت التحيزات، فلعلها تكون الآن أثقل وزنا، وإذا كنت قد أكملت العمل بنفسي دون أن أهيب بأحد أن يشارك بقسط فيه وأن يمد إلي يد العون، فإن علي الآن أن أقلع عن ذلك؛ لئلا يظن بي ادعاء التميز والاستحقاق، إنما يليق بي أن أستدعي إلى ذاكرة الناس نقاطا معينة ما دمت أريد أن أثير همتهم وأشعل حماستهم.
أولها إذا أن إدخال اختراعات كبيرة هو العمل الذي يحتل المكانة الأولى، غير مدافع، بين الأعمال البشرية جميعا، وهكذا كان رأي القدماء فيه ؛ فقد كانوا يخلعون على أصحاب الاختراعات ألقاب الشرف الإلهية، بينما يعزون أمجادا بطولية فحسب لأصحاب الإنجازات السياسية الكبرى (مثل مؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري أوطانهم من المحن المقيمة وقاهري الطغاة ومن إليهم). ومن يقارن بين الفصيلين مقارنة عادلة سيجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك أن منافع الاختراعات تعم الجنس البشري كله، أما المنافع السياسية فهي مقصورة على مناطق بعينها، وهي لا تدوم إلا زمنا، بينما تدوم منافع الاختراعات إلى أبد الدهر، كما أن الإصلاح السياسي قلما يتم دون عنف واضطراب، أما الاختراعات فإنها تسبغ نعمة وتقدم منفعة دون أن تلحق بأحد أي أذى أو ضرر.
كما أن الاختراعات هي ضروب من الخلق الجديد، ومن المحاكاة للأعمال الإلهية، وكما قال الشاعر:
Shafi da ba'a sani ba