المجلد الأول
مقدمات
...
تمهيد:
أولا- تعريف موجز بابن هشام الأنصاري:
المولد والنشأة: ولد العلامة الشيخ، أبو محمد عبد الله جمال الدين بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري بالقاهرة في ذي القعدة، سنة ثمان وسبعمائة من الهجرة١، الموافق سنة / ١٣٠٩/ من الميلاد. ومن ثم ترعرع فيها، وشب محبا للعلم والعلماء، فأخذ عن الكثيرين منهم، ولازم بعضا من الأدباء والفضلاء.
شيوخه: ذكر صاحب الدرر الكامنة٢ أن ابن هشام لزم عددا من فحول عصره، وتلقى العلم على أيدي علماء زمانه، وتتلمذ لهم، ومنهم ابن السراج٣، وأبو حيان٤، والتاج التبريزي٥، والتاج الفاكهاني٦، والشهاب بن المرحل٧، وابن جماعة٨، وغيرهم.
_________
١ بغية الوعاة، للسيوطي. تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم "ط: ٢. بيروت: دار الفكر، "١٣٩٩-١٩٧٩ م"، ٢: ٦٨.
٢ الدرر الكامنة، لابن حجر "حيدر آباد، ١٣٤٨ هـ"، ٢: ٣٠٨-٣١٠.
٣ ابن السراج: محمد بن أحمد، أبو عبد الله السراج الدمشقي، مقرئ نحوي، ولد سنة ٦٦٨هـ، ومات سنة ٧٤٣هـ. بغية الوعاة: ١/ ٢٠.
٤ أبو حيان: محمد بن يوسف، أثير الدين الغرناطي، نحوي عصره، ولغويه، ومحدثه، وأديبه، له البحر المحيط في التفسير، والمدبح في التصريف وغيرهما. مات سنة ٧٤٥هـ. بغية الوعاة: ٢٨٠-٢٨٣".
٥ التبريزي: علي بن عبد الله الأردبيلي التبريزي، عالم ورع وأحد الأئمة الجامعين لأصناف العلوم. مات سنة ٧٤٦هـ. المصدر نفسه: ٢/ ١٧١.
٦ التاج الفاكهاني: عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندراني، له شرح العمدة، والإشارة في النحو وغيرهما. مات سنة ٧٣١هـ. المصدر نفسه ٢: ٢٢١، والدرر الكامنة: ٣/ ١٧٨.
٧ الشهاب بن المرحل: عبد اللطيف بن عبد العزيز، ولم يذكر له صاحب البغية ترجمة وافية. البغية ٢/ ٥٤١.
٨ ذكر صاحب البغية، في ترجمتة لابن هشام، أنه "حدث عن ابن جماعة بالشاطبية"، والذين سموا بهذا الاسم كُثر، ولعل المقصود بالذكر هنا بدر الدين محمد المتوفى سنة ٧٣٣هـ، والذي كان يشغل منصب قاضي قضاة دمشق، ثم مصر في أيامه.
1 / 3
تلاميذه:
لم تذكر كتب التراجم تلاميذ ابن هشام، ولعل أكثرهم كان من غير المشهورين، واكتفى صاحب البغية بالقول: "وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم"١.
منزلته العلمية:
أتقن ابن هشام العربية، حتى فاق أقرانه وشيوخه ومعاصريه، وكان لكتابيه: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، و"أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك". صدى في النفوس، ونال بهما منزلة لدى العلماء والأدباء "فاشتهر في حياته، وأقبل الناس عليه"٣ غير أن شهرته لم تكن محصورة في مصر وحدها، بل تعدتها إلى المشرق والمغرب، حيث ذكر صاحب الدرر الكامنة نقلا عن ابن خلدون قوله: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه"٣.
ذكاؤه وفطنته:
كان ابن هشام، يتمتع بذكاء خارق، وذاكرة قوية، حيث استطاع أن يجمع عدة علوم، وأن يبرز فيها، وهو "المتفرد بالفوائد الغريبة، والمباحث الدقيقة، والاستدراكات العجيبة، والتحقيق البارع، والاطلاع المفرط، والاقتدار على التصرف في الكلام، والملكة التي كان يتمكن من التعبير بها عن مقصوده بما يريد مسهبا وموجوزا"٤، وما يدلنا على مدى فطنته، وقوة حافظته حتى أواخر حياته، أنه حفظ مختصر الخرقي في دون أربعة أشهر قبل موته بخمس سنين"٥.
تدينه ومذهبه:
ابن هشام عالم ورِع، لم يتهم باعتقاده، ولا بتدينه، ولا بسلوكه، وهو شافعي المذهب، وتحنبل في أواخر حياته٦، وهذا يدل على أنه كان متعمقا في كلا المذهبين.
_________
١ بغية الوعاة: ٢/ ٦٨.
٢ المصدر نفسه.
٣ المصدر نفسه، ص: ٦٩. والدرر الكامنة: ٢/ ٣٠٨-٣١٠.
٤ البغية: ٢/ ٦٩.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه، ص: ٦٨.
1 / 4
صفته وأخلاقه: كان ابن هشام يمتاز "بالتواضع والبر والشفقة ودماثة الخلق رقة القلب"١ فضلًا عن دينه، وعفته، وحسن سيرته، واستقامته، وكان إلى ذلك صبورا في طلب العلم مداوِما عليه حتى آخر حياته-كما أشرنا- ومن شعره في الصبر:
ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلِهِ ... ومن يخطبِ الحسناءَ يصبرْ على البذلِ
ومن لا يذل النفس في طلب العُلا ... يسيرًا يَعِشْ دهرًا طويلًا أَخَا ذُل٢
آثاره:
لابن هشام مصنفات كثيرة، منها:
١- الإعراب عن قواعد الإعراب.
٢- الألغاز.
٣- أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك.
٤- التذكرة.
٥- التحصيل والتفصيل لكتاب "التذييل والتكميل"
٦- الجامع الصغير.
٧- الجامع الكبير.
٨- رسالة في انتصاب "لُغَةً" وفَضْلًا"، وإعراب "خِلافًا" و"أيضًا" و"هَلُم جرا".
٩- رسالة في استعمال المنادى في تسع آيات من القرآن.
١٠- رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة.
١١- الروضة الأدبية في شواهد علم العربية.
١٢- شذور الذهب.
١٣- شرح البردة.
١٤- شرح شذور الذهب.
١٥- شرح الشواهد الصغرى.
١٦- شرح الشواهد الكبرى.
١٧- شرح القصيدة اللغوية في المسائل النحوية.
١٨- شرح قطر الندى وبل الصدى.
١٩- شرح اللحمة لأبي حيان.
٢٠- عمدة الطالب في تحقيق صرف ابن الحاجب. ٢١- فوح الشذا في مسألة كذا.
٢٢- قطر الندى وبل الصدى.
٢٣- القواعد الصغرى.
٢٤- القواعد الكبرى.
٢٥- مختصر الانتصاف من الكشاف.
٢٦- المسائل السفرية في النحو.
٢٧- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.
٢٨- موقد الأذهان وموقظ الوسنان.
وفاته:
توفي ابن هشام -رحمه الله تعالى- ليلة الجمعة في الخامس من ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة، الموافق سنة ١٣٦٠ من الميلاد٣، ورثاه ابن نباتة بقوله:
سقى ابن هشام في الثرى نوء رحمة ... يجر على مثواه ذيل غمام
سأروي له من سيرة المدح مسندًا ... فما زِلْتُ أروي سيرة ابن هشام٤
_________
١ بغية الوعاة: ٢/ ٦٩
٢ بغية الوعاة: ٢/ ٦٩.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه، ص٧٠.
1 / 5
ثانيا- منهج ابن هشام النحوي:
يعد ابن هشام الأنصاري شيخا من شيوخ النحاة المجتهدين، الذين لم يكتفِ بالحفظ والفهم، والتقليد، وإنما فهموا، وقارنوا، واستنبطوا، ووفقوا واصطفوا، ورجحوا، وقبلوا، ورفضوا، وهذا شأن العلماء المجتهدين والمجددين في القديم والحديث.
وابن هشام نحوي بارع في عرض مادته، كما هو بارع في تحليله ونقده، فضلًا عن براعته في تصيد أمثلته، والاستدلال بها عما يجول في خلده. وكان ابن هشام حرا في تفكيره، موضوعيا في أخذه ورده؛ فهو لم يتعصبْ لمذهب من المذاهب النحوية، أو لمدرسة بعينها، وإن كان ميالا إلى مدرسة البصرة، مبجلا علماءها وأحيانا كان يقول: "والذي عليه أصحابنا" ويعني بهم البصريين. غير أن هذا الميل لم يكن لهوىً في نفسه؛ وإنما لكونه رجح آراءهم في مواطن كثيرة، ورد عليهم في مواطن أقل، وأخذ بالرأي الأقوى كائنًا من كان صاحبه، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا نستطيع الإحاطة بها في هذه العجالة، وإنما سنقتصر على نماذج قليلة من أخذه ورده.
أولا: رجح مذهب جمهور البصريين في أن المحذوف في مثل: "تأمروني" نون الرفع، لا نون الوقاية١، كما حذا حذوهم في عد "زيد" في مثل "إن زيد قائم" فاعلا لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده، لا مبتدأ -خلافا للأخفش الأوسط- ولا فاعلا مقدما للفعل، خلافا للكوفيين٢. والأمثلة على موافقته لمذهبهم كثيرة لا تحصى.
وقد اختار مذهب سيبويه في أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع
_________
١ انظر مغني اللبيب، لابن هشام الأنصاري: ٣٨٠.
٢ التصريح على التوضيح: ١/ ٢٧٠-٢٧١.
1 / 6
المبتدأ١. وأن المضاف إليه مجرور بالمضاف، لا بالإضافة، ولا باللام المحذوفة.
ثانيًا: رجح ما ذهب إليه الكوفيون في قولهم: الفعل ماضٍ، ومضارع فقط، وأن الأمر فرع من المضارع المصحوب بلام الطلب، في مثل: "لِتَقُمْ"، فحذفت لام الطلب؛ لِلتخفيف، في مثل: "قمْ واقعُدْ" وتبعها حرف المضارعة٣.
- ورجح ما ذهب إليه الكوفيون في مسألة جملة "البسملة"، حيث عدها البصريون اسمية، على تقدير "ابتدائي باسم الله"، وعدها الكوفيون. "فعلية"، على تقدير: "أبدأ باسم الله"، فوافق الكوفيين، وقدر: "باسم الله أقرأ".
- كما وافق الكوفيين، في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، وفي مجيء الباء" بمعنى: "من"، التي تفيد التبعيض٤، مثل: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ ٥، وفي مجيء "من" مفيدة ابتداء الغاية الزمانية٦، وفي نيابة "أل" عن الضمير٧، وفي مجيء "لا" عاطفة٨، كما وافقهم في مسائلَ كثيرةٍ، لا داعيَ لذكرها.
ثالثًا: ختار كثيرا من آراء البغداديين، واستشهد بها في مواطن كثيرة؛ منها:
- جواز نداء ما فيه "أل" في سعة الكلام، لا في ضرورة الشعر فقط٩.
- جواز إعمال اسم المصدر، إن لم يكن علمًا، ولم يكن ميميا، خلافا للبصريين١.
_________
١ التصريح على التوضيح: ١/ ١٥٨.
٢ التصريح على التوضيح: ٢/ ٢٤.
٣ انظر المغني: ٢٥٠.
٤ انظر المغني: ١٤٢-١٤٣.
٥ سورة المائدة، الآية: ٦.
٦ انظر المغني: ٤١٩-٤٢٠.
٧ انظر المغني: ٧٧-٧٨.
٨ انظر المغني: ١٠١.
٩ أوضح المسالك: ٣/ ٨٥-٨٦، وشرح التصريح: ٢/ ١٧٣.
١٠ أوضح المسالك: ٢/ ٢٤٢-٢٤٣، وشذور الذهب: ٤١٢.
1 / 7
- جواز مجيء "ليس" حرفا عاطفا، كما في قول الشاعر:
إنما يجزي الفتى ليس الجمل١
ووافق ابن جني في أن الجملة قد تبدل من المفرد، كقول الشاعر:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشام أُخرى كيف يلتقيانِ؟
على تقدير: "إلى الله أشكو حاجتين تعذر التقائهما".
رابعًا: اختار بعض ما ذهب إليه الأندلسيون، وخاصة ابن مالك وابن عصفور؛ فأما ابن مالك، فقد كان كثير الموافقة له في آرائه، وقلما خالفه فيها، ومعلوم أنه شرح له "الألفية" التي نحن في صدد الحديث عن شرحه لها، كما شرح له "التسهيل"، ومن الأمور التي وافقه فيها على سبيل المثال: أن "إلى"١ قد تأتي بمعنى "في"٢، كما في قوله تعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة﴾ ٣. وأن "حتى" إذا عطفت على مجرور، أعيد الخافض فرقا بينها وبين "حتى" الجارة، مثل: "مررت بالقوم حتى بزيد"٤.
وأما موافقته لابن عصفور فيمكن التمثيل عليها، بموافقته له بأن "لن" قد تأتي للدعاء، كما أنت "لا" لذلك، والحجة في قول الأعشى:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ ... ت لكم خالدًا خلود الجبالِ٥
خامسًا: وافق الزمخشري، ورد عليه في مواطن كثيرة:
فأما موافقته فتتجلى في استحسانه رأيه في أن أما" في مثل: "أما زيد فمنطلق" تفيد التوكيد. قال: "قل ذكره، ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشري، فإنه قال: فائدة "أما" في الكلام: أن تعطيه فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد.
_________
١ أوضح المسالك: ٣/ ٣٨.
٢ المغني: ١٠٤-١٠٥.
٣ سورة النساء الآية ٨٧.
٤ المغني: ١٧٢.
٥ المغني: ٥١٧. ورواية البيت في ديوان الأعشى: "لا زلت لهم".
1 / 8
ذلكن وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة، قلت: أما زيد فذاهب١.
وأما ردوده عليه فكثيرة، ونختار واحدًا منها على سبيل التمثيل، وهو رده عليه في أن "لن" تقتضي تأبيد النفي وتوكيده. فقال رادا: "وكلاهما دعوى بلا دليل، ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في قوله تعالى: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ ٢، ولكان ذكر الأبد في قوله جل ثناؤه: ﴿وَلن تَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ ٣ تكرارا، والأصل: "عدمه"٤.
سادسًا: تعقب ابن هشام ابن الحاجب وكثيرًا ما أثبت عليه السهو، والوهم، والتعسف، ونقض آراءه، ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه ابن الحاجب، في قول ذي الرمة:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرا٥.
من أن "ما تنفك": ناقصة، وأن الخبر "على الخسف"، وأن "مناخة": حال، وأن "إلا" زائدة، فقال ابن هشام: فاسد لبقاء الإشكال؛ إذ لا يقال: جاء زيد إلا راكبا.
سابعًا: ولم يكن ابن هشام في تتبعه لآراء النحاة السابقين جامعا لها، ومستوعبا لها وحسب، وإنما كان يناقشها، ويبين الصحيح منها من الفاسد -كما أسلفنا- وكان يكثر من الاستنباطات، ويعرض إلى جانبها الآراء المبتكرة غير المسبوقة، وهي أكثر من أن تُحصى، ومنها على سبيل المثال ذهابه إلى أن "عشر"
_________
١ المغني: ٥٩.
٢ سورة مريم، الآية: ٢٦.
٣ سورة البقرة، الآية: ٩٥.
٤ المغني: ٣٧٤.
٥ المغني: ١٠٢، والحرجوج: الناقة السمينة الطويلة، والخسف: الذل، والمراد بالخسف هنا: مبيتها من غير علف. انظر القاموس المحيط: ١/ ١٨٩، ٣/ ١٣٧"،وانظر الوسيط في تاريخ النحو، د. عبد الكريم محمد الأسعد "ط: ١. الرياض: دار الشواف، ١٤١٣هـ-١٩٩٢م"، ص ٢١٣.
1 / 9
في قولنا: "اثني عشر"، حلت محل النون، في "اثنين"، وهي بذلك ليست مضافة إلى ما قبلها، ولا محل لها من الإعراب١.
ومما سبق يتأكد لنا أن ابن هشام، كان يوازن بين آراء البصريين، والكوفيين، والبغداديين، وسواهم من النجاة "ويختار لنسفه ما يتمشى مع مقاييسه مظهرا قدرة فائقة في التوجيه والتعليل والتخريج، وكثيرا ما يشتق لنفسه رأيا جديدا، لم يُسبَق إليه، وخاصة في توجيهاته الإعرابية، وهو في أغلب اختياراته، يقف مع البصريين، وكان يجل سيبويه إجلالا بعيدا، كما كان يجل جمهور البصريين، ويدافع عن آرائهم"٢.
وأما طريقة ابن هشام في عرض موضوعاته، فكان يعرض الفكرة ثم يسوق الأدلة والشواهد من القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر القديم، وأحيانا من الحكم والأقوال المأثورة، ومن منثور الكلام القديم أحيانا أخرى، وربما ذكر أبياتا لشعراء لا يُحتَج بشعرهم؛ على سبيل التمثيل لا الاستشهاد بها؛ أو ليبين لحن أصحابها.
وأما تعاطيه مع الشواهد، فينم عن ثقافة واسعة، وقدرة عجيبة على الاستنباط والتحليل، وكان يقدم الشواهد القرآنية على غيرها؛ لأنها كلام فصل لا مجال للشك فيها، وله ثلاثة اتجاهات في اعتماده الآيات القرآنية في كتبه، هي٢:
أولًا: آيات استشهد بها على تثبيت قاعدة متفقٍ عليها.
ثانيًا: آيات اتخذ منها المؤلف أدلة على قاعدة ارتآها وأراد أن يدعمها بدليل قرآني.
ثالثًا: آيات أوضح ابن هشام ما دار حولها من نقاش وجدل.
وأما بالنسبة إلى القراءات القرآنية، فقد "حاول دائما، إزاء القراءات التي في
_________
١ انظر همع الهوامع: ١/ ١٤، والوسيط في تاريخ النحو: ٢١٤.
٢ الوسيط في تاريخ النحو، الدكتور عبد الكريم الأسعد: ٢١١.
٣ أثر القرآن والقراءات في النحو العربي، الدكتور محمد سمير نجيب اللبدي: ١٤٨.
1 / 10
ظاهرها خروج عن القواعد العربية توجيهها وتخريجها على وجه ترتضيه اللغة، ويقبله النحو، ولا يتجرأ عليها، فيصفها بالشذوذ، كما كان يفعل بعض النحاة"١.
وربما "بنى ابن هشام بعض القواعد النحوية مستندا إلى القراءات، وقد صرح بذلك قائلا: إن القراءة سنة متبعة، وليس كل ما تجوزه العربية، تجوز القراءة به"٢.
وأما بالنسبة إلى الحديث الشريف، فقد استشهد به ابن هشام، واستدل به خلافا للكثيرين من النحاة الذين لا يجيزون الاستدلال بالحديث الشريف٣ حيث استشهد في كتابه "المغني" باثنين وستين حديثا سبعا وسبعين مرة، واستشهد في أوضح المسالك بستة وثلاثين حديثا، واستشهد في شرحه لكتاب "اللمحة البدرية في علم اللغة العربية" لأبي حيان، بستة وعشرين حديثا، سبعا وعشرين مرة، واستشهد في كتابه "شرح شذور الذهب" بستة وعشرين حديثا سبعا وعشرين مرة أيضا٤.
ومن الأحاديث التي استشهد بها على سبيل المثال.
"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل".
_________
١ المدرسة النحوية في مصر والشام في القرنين السابع والثامن من الهجرة، الدكتور عبد العال سالم: ٤١٩-٤٢١".
٢ ابن هشام الأنصاري - حياته ومنهجه النحوي، الدكتور عصام نور الدين "ط: ١. بيروت الشركة العالمية للكتاب، ١٩٨٩"، ص: ٦٧-٦٨. وانظر شذور الذهب: ٣٠٤.
٣ ممن رفضوا الاحتجاج بالحديث الشريف: أبو حيان في شرح التسهيل، ونسب عدم الاحتجاج به إلى أبي عمرو بن العلاء، ويحيى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين.
أما المجوزون فمنهم: ابن مالك، ورضي الدين الأستراباذي، وابن خروف، وابن هشام، والبدر الدماميني، وناظر الجيش محب الدين بن يوسف الحلبي، والخطيب البغدادي. انظر في أصول النحو، سعيد الأفغاني "ط: ٣. بيروت: دار الفكر، ١٣٨٣هـ-١٩٦٤"، ص: ٥٠ وأصول التفكير النحوي، الدكتور علي أبو المكارم "بيروت دار الثقافة، ١٩٧٣م"، ص: ٦٦١- ٦٦٢ وابن هشام الأنصاري- حياته ومنهجه النحوي: ٧١-٧٣.
٤ المرجع نفسه: ٧٥.
1 / 11
فقد استشهد بهذا الحديث على أن "نعم، وبئس، وعسى، وليس" أفعال فقال: فأما "نعم وبئس"، فذهب الفراء وجماعة من الكوفيين إلى أنهما اسمان واستدلوا على ذلك، بدخول حرف الجر عليهما، في قول بعضهم وقد بشر ببنت: "والله ما هي بنعم الولد"؛ وأما "ليس" فذهب الفارسي في الحلبيات: "إلى أنها حرف نفي بمنزلة "ما" النافية، وتبعه على ذلك أبو بكر بن شقير، وأما "عسى"، فذهب الكوفيون: إلى أنها حرف تَرَجٍ بمنزلة "لعل" وتبعهم على ذلك ابن السراج. ثم قال: والصحيح: أن الأربعة أفعال، بدليل اتصال تاء التأنيث الساكنة بهن، كقوله ﵊: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، والمعنى: من توضأ يوم الجمعة، فبالرخصة أخذ، ونعمت الرخصة الوضوء"١.
وأما الشواهد الشعرية، فقد غصت بها مؤلفات ابن هشام، وقلما نجد مؤلفه فيه من الشواهد ما يدانيه، ففي "شرح قطر الندى وبل الصدى" بلغ مجموع الشواهد الشعرية خمسين شاهدا ومائة شاهد، وفي "شرح اللمحة البدرية" واحدا وتسعين شاهدا ومائة شاهد، وفي "شرح شذور الذهب" تسعة وثلاثين شاهدا ومائتي شاهد، وفي "أوضح المسالك" ثلاثة وثمانية شاهدا وخمسمائة شاهد، وهو في شواهده الشعرية، لا يبني على النادر منها قاعدة؛ لأن النادر عند ابن هشام: أقل من القليل، كما صرح بقوله: "اعلم أنهم يستعملون "غالبا" و"كثيرا" و"نادرا" و"قليلا" و"مطردا"، فالمطرد: لا يتخلف، والغالب: أكثر الأشياء، ولكنه يتخلف، والكثير دونه، والقليل دون الكثير، والنادر أقل من القليل"٢.
وقد خالف ابنُ هشام الكوفيين في قضية الاستشهاد بما لم يعرف قائله، "لأن الجهل بالناقل، يوجب الجهل بالعدالة"، وقد أورد في شرحه للألفية الشعر الذي استدل به الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة، وهو:
قد علمت أخت بني السعلاء ... وعلمت ذاك مع الجزاء
_________
١ شرح قطر الندى وبل الصدى: ٣٥-٣٧، وشرح شذور الذهب: ٢١-٢٢.
٢ المزهر، للسيوطي: ١/ ٢٣٤، وابن هشام الأنصاري - حياته ومنهجه النحوي، ص٨١.
1 / 12
أنْ نعم مأكول على الخواء ... يا لك من تمر ومن شيشاء
ينشب في المسعل واللهاء
ثم قال: "الجواب عندنا أنه لا يعلم قائله، فلا حجة فيه"١.
غير أنه لم ينكر الأبيات المجهولة كلها، ولا يمنع من الاستشهاد بها "إذا وفرت فيها صفات حددها لنفسه، وهي: فصاحة القول وصفاؤه، وسلامته من الفساد، فلا يحتج بمن لابس الضعف لغته، وخالطت العجمة كلامه، وتسربت الركاكة إلى لفظه"٢.
وكذلك خالف ابن هشام البصريين في تأويل الشواهد؛ والتأويل كان الوسيلة التي لجأ إليها النحاة؛ لِلتوفيق بين القواعد وبين النصوص المخالفة لها، المنسوبة -في الوقت نفسه- إلى عصر الاستشهاد. أما ما لا ينتسب إلى عصر الاستشهاد، من هذه النصوص، فقد كان الرفض هو السمة البارزة التي توضح موقف النحاة منه. وكان التعبير عن هذا الموقف-في أكثر الأحيان- يتخذ اصطلاح الشذوذ"٣.
وأما استشهاده بالنثر، فواضح في كتابه، حيث ساق بعضا من الأمثال والأقوال المشهورة، وإن كانت نسبتها أقل بالقياس مع الشواهد القرآنية، وشواهد الحديث، والشواهد الشعرية، حيث ذكر في "شرح شذور الذهب" ستة أمثال، وفي شرح "اللمحة البدرية"، ذكر ستة عشر قولا ومثلا، وفي أوضح المسالك، ذكر ثمانية وخمسين قولا ومثلا، وذكر في "مغني اللبيب" تسعة وأربعين قولا ومثلا، ومن الأمثلة التي استشهد بها على سبيل المثال: "تسمعَ بالمعيدي خير من أن تراه". وقولهم: "مره يحفرَها"، وقولهم: "خذِ اللص قبل يأخذَك"، فقد حذفت "أن" الناصبة في هذه الشواهد، فنصبوا "تسمع" ويأخذك"، و"يحفرها"، وهو شاذ، يُحفظ ولا يقاس عليه٤.
_________
١ المزهر: ١/ ١٤٢.
٢ علوم الحديث ومصطلحاته- عرض ودراسة- صبحي الصالح، ص ٣٣٣.
٣ أصول التفكير النحوي، الدكتور علي أبو المكارم، ص ٢٦١-٢٦٢.
٤ مغني اللبيب لابن هشام، ص٨٣٩. وانظر ابن هشام الأنصاري- حياته ومنهجه النحوي، ص: ٨٧-٨٨.
1 / 13
وأسلوب ابن هشام واضح، لا تعقيد فيه، وهو يميل إلى البساطة والبعد عن التقعير والتعقيد، همه أن يوصل الفكرة إلى المتعلم من أقصر الطرق؛ ولهذا اتسم أسلوبه بشيء من الركاكة اللغوية، حتى خاله بعضهم يلحن في اللغة، وما ذلك إلا لكونه كان يترخص -أحيانا- في الاستعمالات اللغوية، فيدع الراجح، ويأخذ بالمرجوح، غير أنه كان سهل العبارة، دقيقا في تخير ألفاظه، واضحا في دلالاته.
وأما ظاهرة الاستطراد فهي السمة الغالبة في مؤلفاته؛ حيث لم يستطع -على الرغم من منهجيته، وطريقته المبتكرة في ترتيب موضوعاته- من التحرر منها، فتراه وهو يعالج مسألة من المسائل، يستطرد في شرح كلمة عارضة في سياق شاهد من الشواهد، وكأنه يعقد مبحثا جديدا لمناقشتها، ثم يعود إلى موضوعه الأول، ولعل ابن هشام قصد الاستطراد؛ ليوضح أفكاره، ويزيدها جلاء؛ لتكون أرسخ في الأذهان، وربما أراد -من خلالها- إقحام أكبر قدر ممكن من المعلومات في مخيلة قارئي كتبه، فضلا عن المعلومات الرئيسية التي يريد إفهامها.
ومهما يكن من أمر، فإن ابن هشام الأنصاري علم من أعلام النحاة المجتهدين والمجددين الذي يعود الفضل إليهم في تهذيب النحو العربي، وإخرجه بشكله المتكامل الواضح بعيدا عن الغموض والتعقيد.
وفي الختام، نتضرع إلى الله ﷾ أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بأصله، والحمد لله أولا وآخرا.
1 / 14
ثالثًا: عملنا في الكتاب:
أ- في المتن:
باب معلوما للدارسين والمحققين على السواء أن المحافظة على نص المتن مسألة لا يجوز الحديث فيها، حيث لا يسمح بتغيير حرف واحد في متن الكتاب المحقق، إذا جاءت لغته سليمة، وعباراته صحيحة، وإذا ما اقتضت الضرورة أي تغيير يذكر في الأصل؛ لِأمر ما، فلا بد من الإشارة إلى هذا التغيير في الحاشية؛ وانطلاقا من هذه الحقيقة المسلم بها، وتمشيا مع المنهجية العلمية، فقد حرصنا على متن الكتاب -كما هو- من دون أي زيادة أو نقصان.
غير أننا أثبتنا في المتن أمورا، لا تتنافى مع المنهجية العلمية، وأصول قواعد التحقيق، وهي:
أولًا: ضبطنا علامات الترقيم، ووضعناها في الأماكن المناسبة بين الكلمات، والجمل، والعبارات المختلفة؛ لأنها تساعد الطالب في قراءة النص قراءة صحيحة، تمكنه من فهم المراد.
ثانيًا: وضعنا عناوين فرعية لمباحث الكتاب، فضلا عن عناوين الأبواب، والفصول، والمباحث التي جاءت في الأصل؛ لِيتمكن الطالب من العودة إلى المطلوب بيسر وسهولة وقد وضعنا هذه العناوين بين معقوفين.
ثالثًا: أثبتنا اسم البحر الشعري -فوق الشاهد، إلى جهة اليسار- بين خطين مائلين، على النحو التالي:
" ... وقد تبدل الجملة من المفرد، كقوله: [الطويل]
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان؟
1 / 15
ب- في الحاشية:
أولا: الآيات القرآنية:
أ- عزونا الآيات القرآنية.
ب- بينا أوجه القراءات في الآية الواحدة، إذا كان لها وجهان أو أكثر، ومن ثم ذكرنا توجيه القراءات، على الشكل التالي: "..... يجوز في الاسم الذي يتلو الوصف العامل أن ينصب به، وأن يخفض بإضافته، وقد قرئ: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِه﴾، و: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّه﴾ ٢، بالوجهين..... ". ٦٥ سورة الطلاق، الآية: ٣.
أوجه القراءات:
قرأ عاصم وحفص والمفضل وأبان وجبلة وجماعة عن أبي عمرو: "بالغ أمره". برفع بالغ من دون تنوين. وقرأ العامة بتنوين "بالغ"، ونصب "أمره".
توجيه القراءات:
قراءة عاصم وحفص ومن معهما على إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله "أمره". وأما قراءة العامة، فعلى إعمال اسم الفاعل عمل فعله؛ لأنه بمعنى الاستقبال، فنصب "أمره" ولم يضف إليه. انظر البحر المحيط: "٨/ ٢٧٣، والقرطبي: ١٨/ ١٦١، ومشكل إعراب القرآن: ٢/ ٣٨٤.
ج- بينا موطن الشاهد ووجه الاستشهاد في الآية الكريمة، ومن ثم ذكرنا الحكم كما في تعليقنا على الآية السابقة: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّه﴾، ٣٩ سورة الزمر، الآية: ٣٨.
_________
١ ٦٥ سورة الطلاق، الآية: ٣.
٢ ٣٩ سورة الزمر، الآية: ٣٨.
1 / 16
موطن الشاهد: ﴿كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ .
وجه الاستشهاد: إضافة اسم الفاعل "كاشفات" إلى ضره".
ثانيًا: الأحاديث الشريفة:
خرجنا الأحاديث الواردة في المتن بعد إتمامها، ومن ثم ذكرنا اختلاف رواياتها وبيَّنَّا موطن الشاهد فيها، ووجه الاستشهاد، إذا لم يبين المؤلف في المتن المراد من الاستشهاد بها.
ثالثًا: الشواهد الشعرية:
سبقت الإشارة في أثناء حديثنا عن عملنا في المتن، أننا أثبتنا اسم البحر الشعري، للشاهد فوق البيت. وأما في الحاشية، فتجلى عملنا في الآتي:
أ- ذكرنا اسم صاحب البيت، إن صحَّت نسبته إلى شاعر بعينه، وتيقنَّا من صحة هذه النسبة. وإذا نسب إلى غير واحد، ذكرنا المنسوب إليهما، أو إليهم ورجحنا نسبته إلى واحد منهم إن توفَّرت القرائن، وإلا اكتفينا بذكر المنسوب إليهم فقط.
ب- ترجمنا لصاحب الشاهد ترجمة موجزة. وإن لم نعثر على ترجمة لذلك القائل، اكتفينا بما ذكره أصحاب المتون، وعقبنا بالقول: "لم نعثر له على ترجمة وافية".
ج- ذكرنا المصادر والمراجع التي يوجد فيها الشاهد، وركزنا على ذكر كتب النحو المعتمدة. وإذا أتى الشاهد مرقما في مصدر من المصادر، أثبتنا رقمه في ذلك المصدر أولا، ثم ذكرنا الصفحة، وإذا كان المصدر أو المرجع جزأين أو أكثر، ذكرنا رقم الشاهد أولا، ثم رقم الجزء أو المجلد ثانيا، ثم رقم الصفحة ثالثا.
وأما إذا ورد غير مرقم، فإننا نثبت اسم الكتاب أولا، ثم الصفحة ثانيا، وإن كان المصدر جزأين أو أكثر نذكر رقم الجزء أو المجلد أولا، ثم الصفحة ثانيا، وهكذا، كما في تخريج الشاهد التالي:
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
1 / 17
تخريج الشاهد:
البيت من عينيَّة أبي ذؤيب الهذلي المشهورة، وهو من شواهد: الأشموني "٦٧٤/ ٢/ ٣٣١"، والعيني: ٣/ ٤٩٣، والمحتسب: ١/ ٧٦، وأمالي ابن الشجري: ١/ ٢٨١" وشرح المفصل: ٣/ ٣٣، والمقرب: ٤٦، وهمع الهوامع: ٢/ ٥٣، والدرر اللوامع: ٢/ ٦٨، والمفضليات: ٤٢١، وديوان الهذليين: ١/ ٢، والتصريح على التوضيح: ٢/ ٦١.
د- شرحنا المفردات الغريبة في الشاهد، والتي يعثر فهمها على الطالب.
هـ- شرحنا الشاهد الشعري شرحا موجزا، يفي بالغرض.
وأعربنا الشاهد إعرابا مفصلا، وموجزا في الوقت نفسه؛ لأن الدارس في هذا الكتاب، يملك القدرة التي تمكنه من فهم المراد، ولا سيما بعد أن يكون ألَمَّ بمبادئ النحو، وقواعد الإعراب.
ز- بيَّنَّا موطن الشاهد في البيت، ومن ثم وجه الاستشهاد، أو وجه الدلالة في البيت أو العلة التي لأجلها ساق المؤلف هذا البيت، على النحو التالي:
أودي بني وأعقبوني حسرة ... عند الرقاد وعبرة لا تقلعُ
الإعراب:
أودي: فعل ماضي مبني على الفتح المقدَّر على الألف.
بني: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو المنقلبة ياء، المدغمة في ياء المتكلم، نيابة عن الضمة؛ لأن جمع مذكر سالم، وياء المتكلم: في محل جر بالإضافة.
وأعقبوني: الواو عاطفة، أعقبوني: فعل ماضي مبني على الضم؛ لاتصاله بواو الجماعة، والواو: في محل رفع فاعل، والنون: للوقاية، والياء: في محل نصب مفعول به أول.
حسرة: مفعول به ثانٍ.
1 / 18
"عند": مضاف إليه مجرور.
وعبرة: الواو حرف عطف، عبرة: اسم معطوف على حسرة منصوب مثله.
لا تقلع: لا نافية، تقلع: فعل مضارع مرفوع، والفاعل: ضمير مستتر جوازا، تقديره: هي، يعود إلى عبرة، وجملة "لا تقلع": في محل نصب صفة لـ "عبرة".
موطن الشاهد: "بني".
وجه الاستشهاد: قلب واو الجمع ياء عند إضافة الاسم إلى ياء المتكلم، وإدغامهما، وحكم هذا الإدغام الجواز.
وتجدر الإشارة -هنا- إلى أننا في إعراب المفردات، راعينا مسألة: "الخيارات الإعرابية"، فإذا كان للفظة بحسب موقعها في الجملة وجهان من الإعراب، ذكرنا الوجهين غالبا، وإن كان لأحد الوجهين مرجح، ذكرنا في نهاية الإعراب: "وهو الأرجح"، وإذا لم يكن مرجح لأحدهما، اعتمدنا الإعراب الأيسر، والأسهل، وقلنا في نهاية الإعراب: "وهو الأفضل". وأما بالنسبة إلى شبه الجملة -الظرف والجار والمجرور- فقد أعربناه من دون تفصيل لا فائدة فيه، حيث حصرنا الظرف، والجار والمجرور بين تنصيصين، وذكرنا متعلقه مباشرة، كما في الجملة التالية:
يغدو الفلاح النشيط إلى أرضه قبيل طلوع الشمس.
فأعربنا شبه الجملة على النحو التالي:
"إلى أرضه" متعلق بـ "يغدو"، وأرض: مضاف، والهاء: مضاف إليه.
"قبيل": متعلق بـ "يغدو" أيضا، وهو مضاف.
طلوع: مضاف إليه مجرور، وهكذا.
كما تجدر الإشارة إلى أننا لم نذكر الإعراب المفصل للأفعال المعلومة، والمعروفة لدى المبتدئين، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك. وفي إعرابنا للحروف، اكتفينا بالقول: "حرف عطف، حرف استئناف، حرف مشبه بالفعل، حرف نداء، حرف استثناء ... إلخ"، ولم نقل: لا محل له من الإعراب؛ لأن الحروف -بشكل
1 / 19
عام- لا محل لها من الإعراب دائما. وبالنسبة إلى: "الفاء والباء"، وهما حرفان يجوز فيهما أن يكون للعطف، أو للاستئناف، في الموطن الواحد، فذكرنا في الإعراب ما رأيناه مناسبا للسياق، ويقتضيه المعنى، وقلنا: ويعربه بعضهم: حرف عطف، أو استئناف -الوجه الآخر- والمراد: في الشاهد نفسه، حتى لا يحار الطالب في أمره.
وأما الأحرف المصدرية وما تنسبك معه، فقد حصرنا الحرف المصدري بين تنصيصين، وقلنا: و"أن وما بعدها"، أو والمصدر المؤول من "أن وما بعدها": في محل كذا، كما في المثال التالي:
يذهب الطلاب إلى المدرسة ليتعلموا، حتى يفيدوا وطنهم في المستقبل.
فقلنا في الإعراب.
والمصدر المؤؤل من "أن المضمرة بعد لام التعليل-وما بعدها": في جر جر باللام، والتقدير: للتعلم، و"للتعلم": متعلق بفعل "يذهب".
وفي قولنا: "حتى يفيدوا وطنهم".
والمصدر المؤول من "أن المضمرة -بعد حتى- وما بعدها": في محل جر بـ "حتى"، والتقدير: لإفادة وطنهم، و"الجار والمجرور": متعلق بفعل "يذهب" أيضان وهكذا.
رابعا: الأمثال والكلمات المشهورة:
خرجنا الأمثال والحكم الواردة في المتن، وذكرنا المصادر والمراجع التي اعتمدناها، ومن ثم ذكرنا موطن الشاهد ووجه الاستشهاد بالحكمة أو بالمثل، إن لم يكن المؤلف، قد بين المراد من الاستشهاد بهما، في المتن.
خامسًا: تراجم الأعلام:
زيادة في الفائدة، فقد ترجمنا للنحاة واللغويين والقراء والمفسرين والأدباء، والعلماء الواردة أسماؤهم في المتن، حيث بلغ مجموع من ترجم لهم ما يزيد على
1 / 20
أربعين ترجمة ومائتي ترجمة. وقد أثبتنا المصادر والمراجع المعتمدة بعد كل ترجمة. وأما الأسماء التي لم نستطع الحصول على ترجمة لها، فاكتفينا بالاسم الوارد في المتن، وعقبنا بالقول: "ولم نعثر له على ترجمة وافية".
سادسًا: تعليقنا على المتن:
معلوم أن هذا الكتاب شرح لألفية ابن مالك، وقد أراد المؤلف منه أن يوضح معاني الألفية، وهو لم يؤلفه للمبتدئين، كما فعل في "شرح قطر الندى وبل الصدى". و"شرح شذور الذهب"، وإنما ألفه لمن صار لديهم قدرة على فهم المراد، ويستطيعيون القياس والاستنباط، ولهذا كثرت رموز هذا الكتاب، وغمض الكثير من عباراته مما اضطر الشيخ خالد الأزهري لأن يصنف حاشية عليه، أسماها: "التصريح على التوضيح"، وقد علق الشيخ يس العلمي الحمصي على هذه الحاشية تعليقات مفيدة، طبعت مع الحاشية والشرح. ولما قام المرحوم الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد بتحقيق "أوضح المسالك" وضع له تعليقات على غاية من الأهمية، غير أنه لم ينسب تلك التعليقات إلى أصحابها، وأكثرها نقل حرفيا من الكتب المشهورة كـ "همع الهوامع"، و"حاشية الصبان"، و"المغني" وغيرها......، فضلا عن التصريح، وحاشية الشيخ يس.
وكذلك، قام الشيخ محمد عبد العزيز النجار بوضع تعليقات، لا تقل أهمية، من تعليقات المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد، وجعل هذه التعليقات على مستويين، الأول للمبتدئين، والثاني للجامعيين، وطلاب المعاهد العليا، وسماه: "ضياء السالك"، غير أنه -هو الآخر- لم يذكر المصادر والمراجع التي اقتبس منها، هي نفسها التي اعتمدها الشيخ عبد الحميد كما يظهر لمتتبع طرق الكتابين.
ولما كان هذا الكتاب مرجعا مهما للأساتذة والباحثين ولا غنىً عنه بحال بالنسبة إلى الطلاب المتخصصين، ووفاءً بالعهد الذي قطعناه على أنفسنا، بإعادة النظر في كتب ابن هشام المحققة، وإخراجها إخراجًا عصريا، وشرحها شرحا واضحا، وفق أصول المنهجية العلمية؛ لِيستفيد منها الكبار والصغار معا، فقد قمنا
1 / 21
بشرح ما غمض من مسائل الكتاب، وأوضحنا ما يعسر فهمه على الطلاب، من العبارات، والألفاظ، والتراكيب، والمصطلحات، والأفكار، واعتمدنا التصريح على التوضيح مرجعا أساسًا في عملنا، ولم نهمل تعليقات الشيخين، محمد محيي الدين عبد الحميد، والشيخ محمد عبد العزيز النجار، وكثيرا ما نقلنا عنهما، ونسبنا القول إليهما، أو إلى المصادر التي استقيا منها، إن كان النقل حرفيا من دون أي إضافة تذكر. وتوخيا للأمانة العلمية، فقد آثرنا ذكر المراجع والمصادر المعتمدة؛ ليطمئن الطالب والباحث إلى صحة ما أتينا به من المعاني والأفكار.
ولما كان طلاب الجامعات، وطلاب الدراسات العليا، يجدون صعوبة ومشقة، في العودة إلى المصادر والمراجع النحوية؛ لكثرتها من جهة، ولتعدد طبعاتها من جهة أخرى، فقد أحلنا الباحثين، ومن يودُّون التعمق في البحث والتحليل، إلى المصادر التي تشبع نهمهم، بعد تعليقنا على كل فكرة، أو مبحث بحاجة إلى مزيد الشرح والإيضاح؛ وذلك تمكينا للطالب والباحث من الوصول إلى مبتغاه من دون عناء.
التوجيهات والتعقيبات:
لما كان هذا الكتاب مختصرا -كما سماه صاحبه- فقد تجاوز كثيرا من الأمور التي ينبغي للطالب أن يطلع عليها، حيث أغفل كثيرا من التعريفات الضرورية في مستهل الفصول والأبواب، فكان يشرع في الحديث عن الأحكام، والشروط من دون تمهيد يذكر، أو تعريف يحدد المراد بالمصطلح النحوي، وأحيانا أخرى كان يتجاوز أمورا ضرورية وجوهرية لا غنى للطالب عنها، وما ذلك -بحسب اعتقاده؛ إلا لكون الدارس أو الطالب الذي يتناول هذا الكتاب، قد ألمَّ بالمبادئ والأوليات في كتبه التي صنفها للمبتدئين، كقطر الندى وبلِّ الصدى، وشذور الذهب وأمثالهما.
فإتمامًا للفائدة، ومراعاة لمستوى طلابنا في هذه الأيام، فقد أضفنا كثيرا من الفوائد، والتوجيهات، والتنبيهات، والتعقيبات، فضلا عن التعريفات، كلما وجدنا الضرورة تقتضي ذلك، فرب فائدة تساق في موقعها المناسب، تكون أكثر فائدة من
1 / 22