مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
وأما بعد فهذه هى الطبعة الثانية لكتاب الأوائل لأبى هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرى، تخرج على القراء الكرام فى ثوب جديد، وقد اهتممت فيها بتدقيق كثير من التحقيقات والتعليقات التي أتيحت لى فرصة مراجعتها، كما اهتممت بإثبات كثير من الفقرات التى سقطت من الطبعة الأولى.
ولما كان ضبط آيات القرآن الكريم ضرورة حتمية ليتمكن القارىء الكريم من قراءتها صحيحة كما رويت عن أئمة القراء، وكما وردت فى المصحف الشريف كان لابد من الاهتمام بضبطها، والعناية بوضع علامات الاعراب على حروفها حتى يتحقق الغرض من الضبط.
وكما اهتممت بضبط الآيات القرآنية الشريفة اهتممت كذلك بضبط ما ورد فى ثنايا الكتاب من الشعر حتى تسهل قراءته آملا أن يجد القارىء الكريم فى هذه الطبعة ما يرغبه فى استيعاب ماحواه هذا الكتاب النفيس من العلوم والمعارف. نفع الله به، وأجزل لمؤلفه ومحققه المثوبة والأجر إنه سميع قريب مجيب
1 / 5
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، المحقق دكتور محمد السيد الوكيل جدة فى يوم الأربعاء ١ من شهر ربيع الأول عام ١٤٠٦ هـ ١٣ من شهر نوفمبر عام ١٩٨٥ م
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه ونهج نهجه واتبع هداه.
أما بعد. فإن إحياء التراث العلمى لكل أمة حتم واجب على أبنائها، وإن تخليد آدابها فريضة لا يستطيع القيام بها إلا أهلها، كما ان العناية بابراز هذا التراث العلمى الأدبى فى ثوب قشيب شىء لا بد منه- لا سيما الكتب التى لم تزل تطوى عليها المكتبات العتيقة أجنحتها، وتواريها بين أحشائها من المخطوطات التى لم يقدر لها بعد الخروج من مخابئها لترى النور، ولم تهيأ لها العقول التى تتناولها بالتحقيق والتصحيح والتعليق..
وان كتابنا- الأوائل- هذا الذى بين أيدينا لهو أحد هذه الكتب وهو كتاب كما سيرى القارىء فريد فى تبويبه، ظريف فى عرضه تليد فى أحداثه، وهو فوق ذلك مزيج من الأدب الذى تستمتع العقول بتحصيله، والتاريخ الذى تتوق النفوس إلى الوقوف على حقائقه، وقد عهد إلى سعادة مدير الجوازات والجنسية بالمدينة المنورة السيد أسعد طرابزونى بتصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه، وقدم إلى نسخة مخطوطة يرجع تاريخ نسخها إلى سنة ١٢٦٧ هـ، وعدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة، ومسطرتها واحد وعشرون سطرا، وبالاطلاع على النسخة وجدت فى ذيلها ما يشير الى أنها أخذت من نسخة خطية موجودة فى مكتبة شيخ الاسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وذهبت الى المكتبة ووجدت النسخة وليس فيها ما يشير الى تاريخ خطها، ولكنى وجدت فى نهايتها تعليقا لأحد قرائها يدعو لكاتبها بطول العمر وأرخه بعام ١١٥٣ هـ،
1 / 7
ففهمت من ذلك أن كاتبها كان حيا حتى ذلك التاريخ، ويتضح من ذلك أنها نسخت منذ مائتين وخمسة وثلاثين عاما تقريبا، وعدد صفحاتها أربعمائة وثمانون صفحة، ومسطرتها ثمانية عشر سطرا، فاستخرت الله وعزمت أن أعتمد عليها فى التصحيح والتحقيق رغم خطها الذى لا يقرأ إلا بصعوبة ومشقة، وذلك لعدم نقط الحروف أولا ولعدم الفوارق التى تميز بين الحروف ثانيا حتى يشتبه عليك الكاف واللام كما يلتبس عليك الميم والراء فى آخر الكلمة، ومشينا خطوات فى التحقيق لا بأس بها رغم كل هذه الصعوبات، ثم فوجئنا بسقوط فقرات اختل لفقدها المعنى واضطرب لسقوط التركيب، وأصبحنا كمن يقرأ ألغازا لا يجد لها حلا، ورحنا نفتش عن نسخة أخرى، وفى اليوم التالى بشرنى الأستاذ عبد الحميد السنارى الموجه الدينى بمنطقة المدينة المنورة التعليمية بوجود نسخة مخطوطة بخط فارسى قديم يصعب قراءته، والنسخة موجودة بمكتبة مدرسة دار الحديث بالمدينة المنورة، وعدد صفحاتها ثلاثمائة وأربع وثمانون صفحة، ومسطرتها سبعة عشر سطرا.
ولا يفوتنى هنا أن أسجل ما للأستاذ عبد الحميد من فضل كبير، فقد ساعدنى كثيرا بوقته وجهده وعلمه طوال فترة المقابلة التى قضاها معى فى المكتبات المختلفة، واعانتنا النسخة الأخيرة على استكمال كثير من الفقرات والكلمات التى فقدت فى النسخة الأولى، ومع هذا فكنا نتعثر فى كلمات لا نستطيع قراءتها أحيانا، وأحيانا لا نجد لها فى معجمات اللغة معنى لتحريف فيها، وكثيرا ما كانت تواجهنا جمل غير مستقيمة المعنى لما فيها من تقديم وتأخير، فأما الكلمات التى لم استطع قراءتها فكنت اقرأ ما قبلها وما بعدها واضع مكانها كلمة مناسبة يستقيم بها المعنى دون خلل او اضطراب، واما الكلمات التى لم أقف على معناها فى المعجمات فقد أشرت اليها فى التعليق بقولى (هكذا وجدت فى الأصل ولعل المراد كذا)، واما الجمل التى اختل معناها لاختلال تركيبها فكنت أقدم ما يستحق التقديم وأؤخر ما محله التأخير حتى يستقيم المعنى، كما شرحت الكلمات الصعبة فى ذيل كل صفحة، ومع هذا فانى أشعر أنه لا بد من هفوات يدركها ذوو البصائر والمعرفة، والأمل
1 / 8
التماس العذر عند العثور عليها فقد بذلت جهد استطاعتى وما قصرت فى شىء أستطيعه، وأما الناشر فانى اسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، فقد أخرج الى النور كتابا كاد الدهر أن يطوى صفحاته عليه فينسى.
نبذة تاريخية:
قال صاحب كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون: علم الأوائل علم يتعرف منه أوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب، وهو من فروع علم التاريخ والمحاضرات، وفيه كتب كثيرة منها كتاب الأوائل لأبى هلال الحسن بن عبد الله العسكرى المتوفى سنة ٢٩٥ هـ، وهو اول من صنف فيه، ولخصه الإمام جلال الدين السيوطى، وسماه بالوسائل، وللطبرانى ولأبى القاسم الراشدى وللجلال بن خطيب داريا رحمهم الله تعالى. وجاء فى هامش لطائف المعارف لمحققيه الأستاذين ابراهيم الابيارى وحسن كامل الصيرفى، أول من ألف هذا الفن- الأوائل- ابن قتيبة الدينورى سنة ٢٧٦ هـ. فى كتاب المعارف، وابن رسته أبو على احمد بن عمر فى القرن الثالث فى كتابه الاعلاق النفيسة، والطبرانى سليمان بن احمد بن أيوب سنة ٣٦٠ هـ. وله كتاب الأوائل، وأبو هلال الحسن العسكرى بعده سنة ٣٩٥ هـ. وله كتاب الأوائل ايضا، وقد لخصه الجلال السيوطى سنة ٩١١ هـ وسماه (الوسائل الى معرفة الأوائل)، ومن قبل السيوطى وبعد العسكرى القاضى بدر الدين محمد الشبلى سنة ٧٦٩ هـ. وله كتاب (محاسن الوسائل فى علم الأوائل)، ثم ابن خطيب داريا محمد بن احمد بن سليمان بن يعقوب سنة ٨١٠ هـ. وكتابه لم يعرف اسمه، وبعده الحافظ شهاب الدين أبو الفضل احمد بن على بن حجر سنة ٨٥٢ هـ. واسم كتابه (اقامة الدلائل على معرفة الأوائل)، ثم القاضى على دده سنة ٩٩٨ هـ. واسم كتابه (محاضرة الاوائل ومسامرة الأواخر)، ثم المولى عثمان بن محمد المعروف بدوفاكين زاده الرومى سنة ١٠١٣ هـ. وله كتاب (أزهار الخمائل فى وصف الأوائل)، ثم بعد هذا أرجوزة تسمى (وسائل السائل الى معرفة الأوائل) .
1 / 9
ونرى من هذا العرض ان صاحب كشف الظنون يقول: ان العسكرى اول من ألف فى هذا الفن، ومحققى لطائف المعارف يقولان: ان ابن قتيبة هو أول من ألف فى هذا الفن، ولا خلاف بينهما عند التحقيق، فان ابن قتيبة فى كتابه المعارف تكلم عن الأوائل عرضا ولم يفرد لها كتابا، وهو متقدم على العسكرى، وأما العسكرى فقد أفرد لها كتابا خاصا، وعلى هذا يكون ابن قتيبة أول من كتب فى هذا الفن والعسكرى أول من ألف فيه كتابا خاصا كما بين ذلك فى مقدمة كتابه.
ومؤلف كتابنا:
هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران أبو هلال اللغوى العسكرى قال أبو طاهر السلفى: وكان لأبى أحمد تلميذ وافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه وهو عسكرى أيضا، فربما اشتبه ذكره بذكره فاذا قيل الحسن بن عبد الله العسكرى الأديب فهو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران أبو هلال اللغوى العسكرى. نسبة الى عسكر مكرم- وقد وجدت فى شذرات الذهب كنية للآخر تغاير كنية صاحبنا فهذا أبو هلال وذاك أبو أحمد.
قال أبو طاهر: سألت الرئيس أبا المظفر محمد بن أبى العباس الابيوردى- ﵀ بهذان عنه، فأثنى عليه ووصفه بالعلم والفقه معا وقال: كان يبرز (يتبزز) «١» احترازا من الطمع والدناءة والتبذل، وكان الغالب عليه الأدب والشعر، روى أبو الغنائم بن حماد المقرىء املاء قال: أنشدنا أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرى لنفسه:
قد تخطّاك شباب ... وتفشّاك مشيب
فأتى ما ليس يمضى ... ومضى ما لا يؤوب
فتأهّب لسقام ... ليس يشفيه طبيب
1 / 10
لا توهّمه بعيدا ... إنما الآتى قريب
ومن شعر أبى هلال فى تفضيل الشتاء على غيره من الأزمنة قوله:
وغيوما مطرّزات الحواشى ... بوميض من البروق وخفو «١»
كلّما أرخت السماء عراها ... جمع القطر بين سفل وعلو
وهى تعطيك حين هبّت شمالا ... برد ماء فيها ورقّة جوّ
وترى الأرض فى ملاءة ثلج ... مثل ريط لبسته فوق فرو
فاستعار المرار «٢» منها لباسا ... سوف يمنى من الرياح بنصو «٣»
فكأنّ الكافور موضع ترب ... وكأنّ الجمان «٤» موضع قرو «٥»
وليال أطلن مدّة درس ... مثلما قد مددن فى عمر لهو
وقد روى عن أبى هلال أبو سعد السمان الحافظ بالرى، وأبو الغنائم بن حماد المقرىء.
مؤلفاته:
ومؤلفاته كثيرة وفى فنون مختلفة فله فى اللغة كتاب.
1 / 11
١- التلخيص.
٢- وكتاب صناعتى النظم والنثر وله فى الأدب.
٣- جمهرة الأمثال.
٤- ومعانى الأدب.
٥- وكتاب التبصره.
٦- وشرح الحماسة.
٧- والدرهم والدينار.
٨- واعلام المعانى فى معانى الشعر.
٩- والفرق بين المعانى.
١٠- وديوان شعر.
١١- ونوادر الواحد والجمع.
وله فى التاريخ.
١٢- من احتكم من الخلفاء الى القضاة.
١٣- والأوائل، وله فى تفسير القرآن الكريم كتاب.
١٤- المحاسن فى خمسة مجلدات، وله فى فنون مختلفة.
١٥- العمدة.
١٦- وفضل العطاء على العسر.
١٧- وما تلحن فيه الخاصة.
وزاد صاحب البغية على هذه الكتب رسالة فى العزلة والاستئناس بالوحدة.
ويبدو أن المؤلف ﵀ كان رقيق الحال، وكان يكتسب قوته بكده، نلمح ذلك فى شعره الذى ضاق فيه بالحياة وتبرم بأهلها، وروى ياقوت
1 / 12
فى معجم الأدباء عن أبى طاهر السلفى قال: ومما أنشدنا القاضى أبو أحمد الموحد بتستر قال: أنشدنا أبو حكيم العسكرى اللغوى قال: أنشدناه أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرى لنفسه بالعسكر:
إذا كان مالى مال من يلفظ العجم «١» ... وحالى فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعى بالأصالة والحجى ... وما ربحت كفّى من العلم والحكم
ومن ذا الذى فى الناس يبصر حالتى ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم
كذلك تدل الأبيات الآتية على انه كان يمارس البيع والشراء بنفسه، وأنه كان فى مجتمع لا يقدر العلماء والأدباء استمع اليه يقول:
جلوسى فى سوق أبيع وأشترى ... دليل على أنّ الأنام قرود
ولا خير فى قوم تذلّ كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عنّى رثاثة كسوتى ... هجاء قبيحا ما عليه مزيد
قال ياقوت فى معجمه (واما وفاته فلم يبلغنى فيها شىء غير انى وجدت فى آخر كتاب الأوائل من تصنيفه. وفرغنا من املاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة) وكتاب الأوائل هو آخر ما صنف المؤلف، ولم يعثر على أثر فى التصنيف بعد هذا العام، ولهذا فان ياقوت يرى انه توفى سنه ٣٩٥ هـ. ﵀ رحمة واسعة وقد مدحه أحد
1 / 13
الشعراء بقوله:
وأحسن ما قرأت على كتاب ... بخطّ العسكرى أبى هلال
ولو أنّى جعلت أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسّؤال
فإنّ الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لأطراف العوالى
المحقق
1 / 14
مقدمة المؤلف
رب يسر وأعن الحمد لله الذى رفع رتبة الأدب وذويه، وأعلى منزلة العلم وحامليه، وجعلهم للدين قواما، وللمحاسن نظاما، ففهم بهم الغبى، وأنطق العيى، وصيرهم ورثة انبيائه، وأئمة لأوليائه، وحججا على أعدائه، وألبسهم العز ما أبقاهم، وخلد ذكرهم حين أفناهم، فأعيانهم مفقودة، وأمثالهم فى القلوب موجودة، وذلك من أعظم النعم عليهم، وأفضل المنن لديهم، ولما فى بقاء الذكر من الجمال وفى خلود الاسم من الكمال، قال ابراهيم ﵇ فيما حكى الله تعالى عنه: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
«١» وقال تعالى: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
«٢» فقرعهم باعراضهم عما فيه ذكرهم، وتباهتهم «٣» عما فيه جميل ذكره، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
«٤» فامتن عليهم بالقرآن لما لهم فيه من بقاء الذكر، وجميل النشر، وقد قال الأول: ذكر الرجل عمره الثاني، قال الشاعر:
لعمرك إنّ المرء تخلد بعده ... أحاديثه والمرء ليس بخالد
1 / 15
وقال آخر:
وما الخير فى طول الحياة إذا امرؤ ... مضى ثمّ لم يذكر بخير عواقبه
وقال آخر:
ردّت صنائعه إليه حياته ... فكأنّه من نشرها منشور
وقال آخر:
فإن يك أفنته اللّيالى ومرّها ... فإنّ له ذكرا سيفنى اللّياليا
وقال آخر
عرضت وجهى ودنا انطلاقى ... والمال يفنى والثّناء باقى
وقال آخر:
فأثنوا علينا لاأبا لأبيكم ... بإحساننا إنّ الثّناء هو الخلد
ومما يقرب منه قول زهير:
فلو كان حمد الناس يخلد لم يمت ... ولكنّ حمد النّاس ليس بمخلد
ولكنّ فيه باقيات وراثة ... فورّث بنيك بعضها وتزوّد
تزوّد الى يوم الممات فإنّه ... ولو كرهته النّفس آخر معهد
1 / 16
وقال الأسدى:
فإنى أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندى أن أموت ولم ألم
وقال آخر:
وإذا بلغتم أهلكم فتحدّثوا ... ومن الحديث مهالك وخلود
وقال بعضهم: (لان أذكر فى شر خير لى من ألا أذكر فى شر ولا خير) «١» وسمعت رجلا يقول: (لأن أكون رأسا فى الضلالة أحب الى من أن أكون ذنبا فى الهداية «٢») .
والنباهة لباقية التى لا تدركها الايام، والذكر العالى الذى لا يحطه مرور الزمان، نباهة العلماء وذكر الحكماء، لأنه يسير فى الأوقات من غير دافع يرده، ولا مانع يصده، وتؤمن عليه غارة الليالى والأيام، وجناية السنين والاعوام فى دروس آثاره وطموس أنواره، وقليل العلم كثير بل ليس من العلم قليل، وخير العلم ما ينفع وأنفعه ما يحاضر به، ولا يعتاض عند مطلبه، وأجل ما يعين على حفظه حسن تصنيفه، وبراعة تدوينه وتأليفه واولى ما يصنف منه ما تعظم الحاجة اليه، ويكثر تطلع النفوس الى معرفته والوقوف عليه، وإن أغفل إتقانه الأولون، وأخل باستقصائه المتقدمون.
قال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل- أيده الله-: وقد رأيت أكثر الخاصة وجل العامة لهجين بالسؤال عن أوائل الأعمال، ومتقدمات الأسماء والأفعال، ولم يجدوا فى ذلك كتابا يجمع فنونها ويحوى ضروبها
1 / 17
بأخبارها وشرح وجوهها وأبوابها الا نبذا متفرقة فى تضاعيف الصحف وابتداء الكتب لم تذكر أسبابها ولم تشرح أبوابها، فعملت كتابى هذا مشتملا على هذا النوع من الأخبار وحاويا لهذا الفن من الآثار، مشروحا ملخصا، ومهذبا مخلصا لا يشوبه كدر ولا يرهق وجهه قتر، ليكون عونا على المذاكرة وقوة للمؤانسة، وجعلته عشرة أبواب:
الباب الأول: فى الاخبار عما كان من قريش وفيهم من أوائل الأعمال وابتداءات الأمور فى الجاهلية وما حدث بمكة منها.
الباب الثانى: فيما جاء من ذلك عن عامة أهل الجاهلية بعد قريش من العرب الباب الثالث: فيما جاء من ذلك منسوبا الى النبى- ﷺ الباب الرابع: فيما روى عن الصحابة والتابعين- رضى الله عنهم- الباب الخامس: فيما جاء عن الملوك فى الاسلام.
الباب السادس: فيما جاء منه عن الامراء والرؤساء فى الاسلام.
الباب السابع: فيما جاء منه عن القضاة والعلماء والأدباء.
الباب الثامن: فيما جاء منه عن النساء خاصة.
الباب التاسع: فى الاخبار عما جاء منه عن العجم خاصة.
الباب العاشر: فى أشياء مختلفة رويت عن العرب والعجم ولم ينفرد كل نوع منها بنفسه فجعلتها بابا واحدا وبالله التوفيق.
1 / 18
الباب الأول فيما جاء من ذلك عن قريش
1 / 19
أول ما تحرك أمر قريش
وأخذ شأنهم يرتفع وذكرهم ينتشر حين قدم قصى مكة من عند أمه فاطمة بنت سعد بن سيل الأزدى أزد شنوءه، وكان كلاب أبو قصى تزوجها فولدت له زيدا (وهو قصى) وزهرة ثم هلك كلاب وزهرة قد شب وزيد صغير، فقدم ربيعة بن خزام العذرى مكة فتزوج فاطمة وحملها الى قومه وحمل زيدا لصغره، فولدت فاطمة لربيعة رزاحا وشب زيد فسمته قصيا لبعد داره،- والقصو البعد- فنازع رجلا من عذرة فقال له العذرى: الحق بقومك فلست منا، فأتى أمه فسألها عن قومه فأخبرته بما كان من أمرها وأمره، فشخص مع الحجاج الى مكة، فلم يلبث ان اجتمع مع أبى غبشان سليم بن عمرو الخزاعى على شراب، فلما سكر أبو غبشان اشترى منه قصى ولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل: أخسر من أبى غبشان، وأحمق من أبى غبشان وأندم من أبى غبشان، فجرت أمثالا. قال بعضهم:
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ «١» خمر فبئست صفقة البادى
باعت سدانتها بالخمر وانقرضت ... عن المقام وظلّ البيت والنادى
1 / 21
وقال آخر:
أبو غبشان أظلم من قصىّ ... وأظلم من بنى فهر خزاعه
فلا تلحوا «١» قصيّا فى شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
وقال آخر:
إذا فخرت خزاعة فى قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور
وبيعا كعبة الرّحمن جمعا ... بزقّ بئس مفتخر الفجور
وقال آخر:
باعت خزاعة بيت الله صاحبه ... بزقّ خمر فلا فازوا ولا ربحوا
فتحزبت خزاعة على قصى، فاستنصر أخاه من أمه رزاحا. فأقبل بمن معه، وجمع قصى كنانة فنفوا خزاعه عن مكة، وجمع قريشا من رؤوس الجبال وشعابها فأنزلهم الأبطح، فسمى مجمعا، قال مطرود:
قصىّ أبوكم «٢» كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر
1 / 22
ثم قال أبو تمام:
أادريس ضاع المجد بعدك كلّه ... ورأى الّذى يرجوه بعدك أضيع
مشوا فى زوايا نعشه وكأنّما ... قريش قريش يوم مات مجمّع
ويبسط كفّا فى الخطوب «١» كأنّما ... أناملها فى الجود والبأس أذرع
ففتش قصى عن أجلة قومه فسمى قريشا، والتقريش التفتيش قال الحرث بن حلزة:
أيها المبلغ المقرّش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء
وقيل: كان قريش اسما للنضر بن كنانة واشتقاق من التقرش وهو التكسب وكانت قريش تجارا، وقيل التقرش التجمع.
وكانت صوفة تجيز الناس من عرفة الى جمع ومن جمع الى منى، فاذا رمى الناس الجمار أخذت ناحيتى العقبة، فيقولون: أجيزى صوفة، فلا يجوز أحد حتى تجوز صوفة، وكانوا يرون ذلك دينا، فاعترضهم قصى بمن معه وانهزمت صوفة وخلت مكة والموسم لقصى، فكان أول من نال الملك من ولد النضر بن كنانة فقال رزاح بن ربيعة:
جلبنا الخيل مضمرة تعادى ... من الأعراف أعراف الجناب
الى غورى تهامة قادرينا ... بنى الذفراء فى قاع يباب
1 / 23
وقام بنو علىّ اذ رأونا ... على الأسياف كالإبل الظراب «١»
فأمّا صوفة «٢» الخنثى فخلّوا ... منازلهم محاذرة الضّراب
وقال رزاح أيضا:
أجبنا قصيّا على نايه ... على الخيل تردى رعبلا رعيلا «٣»
نسير بها اللّيل حتّى الصباح ... ونكمى «٤» النهار إلى أن يزولا
وردن سراعا كورد القطا ... يورّعن «٥» ميلا ويركضن ميلا
بأبناء سعد وأشياعها ... نجوب الحزون ونطوى السهولا
فصبّحن مكّة قبل الغطاط «٦» ... فدسن خزاعة دوسا وبيلا
خبطنهم بصلاب النّسور ... كخبط العزيز القوىّ الذّليلا
ومن قبل ذلك ما قد جعلن ... لصوفة منهنّ يوما طويلا
1 / 24
وكنّا له جنّة فى اللّقاء ... وسيفا بيمنى يديه صقيلا
فلما استوى أمر مكة لقصى بنى دار الندوة، فكانت قريش تقضى فيها أمورها، فلا تنكح ولا تشاور فى أمر ولا حرب الا فيها، وهى دار الامارة، وبابها فى المسجد حيال الكعبة.
ثم قال لقريش انتم جيران الله والحجاج زوار الله فهم أضيافه واحق الاضياف بالكرامة أضيافه، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، ففرض عليهم فرضا يدفعونه اليه، فيصرفه فى إقامة الحجاج فجرى ذلك الى اليوم إلا أن الخلفاء هم الذين يقيمونها.
وكان قصى فى زمن بهرام جور وهو بهرام بن يزدجر.
وقصى أول من احتفر بالابطح سقاية للحجاج وسماها العجول وقال:
سقى الله العجول برغم عاد ... وكانت من زيادته العجول
فلم يزل يشرب منها حتى سقط فيها رجل من بنى جعيل فعطلت، وكانت زمزم زمن جرهم.
وهو أول من ثرد الثريد بعد ابراهيم- ﵇ وعاب بعض الشعوبية العرب باتخاذ الثريد وقال: لابد أن يفضل من العرب اذا أكلوا فضلة مرق تجعل لمسكين قال: فأرادت العرب ألا يبطل عليهم ذلك فثردوا فيه قال:
وليس من طعام العجم. واحتج بما أخبرنا به أبو أحمد بن الحسين بن عبد الله ابن سعيد عن الجلودى عن محمد بن زكريا عن محمد بن عبيد الله بن محمد بن على قال: قال حصين لفيروز أحب أن أتغذى عندك، قال: فما تشتهى؟
قال: ثريدا: قال: انى أكره أن أضع على مائدتى طعام الكلاب ولكنى أتحمل ذلك لك.
1 / 25