ترى هل أنا على حق من الوجهة الأدبية في أن أعرض إلى الخطر حياة أولئك الرهائن الأبرياء في الروسيا إذا كان في هذه التضحية إراحة لضميري ووفاء ما علي من دين يقتضيه مني الحق كما أراه أنا؟ لقد كانت هذه أقسى مشكلة واجهتني، وماذا كان يرى في عملي هذا جدي التقي فيودور بنتليفتش ذلك الرجل الصالح الذي قضى حياته في طاعة الله وخدمة القيصر لو أنه كان وقتئذ حيا يرزق؟ وماذا كان يقول عني أبي ذلك الثائر الروسي المتعصب لآرائه لو أنه بقي على قيد الحياة بعد العامين اللذين قضاهما في ظل الاحتلال الألماني الوحشي؟
لقد كان لي في هذه الأفكار المتلاحقة شيء من التعزية على الأقل. إن جدي لم يكن يدرك قط سبب وقوف ابنه ووالدي أندراي في وجه القيصر وتقاليد الأجيال الطويلة، ولكن أندراي كان قوي الإيمان بعقيدته الجديدة الغريبة، وكان لا يتردد في الذهاب إلى السجن في سبيلها، ومن أجل ذلك كان جدي يختم ما يكيله له من عبارات اللوم بأن يدعو له بخير. أما أبي فكان يحب زوجته وأبناءه، ومع ذلك فإنه لم يتردد قط في أن يعرضنا جميعا للجوع والدموع ليخدم بذلك القضية التي كان يدافع عنها، ولم أكن أشك مطلقا في أنه هو كان يفهم موقفي ويرتضيه لو أنه طال به الأجل.
وكان من أسباب عزائي - وإن يكن عزاء شديد الوقع على نفسي - أن أفكر أن أخي قنسطنطين الذي كان طول حياته بالقرب مني قد مات، قد قتل وهو يدفع عن بلادنا الغزاة النازيين، وهو ضابط في جبهة القوقاز، وإذن فهل يصب رجالنا الرسميون جام غضبهم على عجوز مسكينة لا سند لها ولا معين قد خرجت توا من أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، يصبون عليها جام غضبهم لأنها والدتي؟ أو هل يثأرون لأنفسهم مني في شخص المرأة التي ظلت زوجة لي ثلاث سنين لم تعرف في خلالها شيئا عن شكوكي السياسية ولا عن فراري؟
كانت هذه الأفكار لا تزال تتردد في خاطري، وكان وقعها مؤلما لنفسي، ولكن صداها ضعف بعض الشيء وإن لم يخفت كله حين وقف بي القطار في نيويورك في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، ورأيت الضابط الروسي السالف الذكر مرة أخرى على طوار المحطة يحمل في يده حقيبة ملابس، ولا يعرف شيئا عن وجودي في ذلك المكان، غير أني تباطأت في سيري؛ لأطيل ما بيني وبينه من بعد.
واتخذت لنفسي اسما إيطاليا تسميت به حين نزلت في فندق حقير في أحد أطراف المدينة، من ذلك النوع الذي تؤدي فيه أجر حجرتك مقدما، وكأن هذه الحجرة قد أعدت خصيصى لمن يريد الانتحار، فقد كانت ضيقة، مقبضة الرائحة، وأغلقت بابها علي وأخذت أكتب في ضوء مصباحها الكهربائي الضئيل بيانا نشرت بعض الصحف الأمريكية بعض ما جاء فيه بعد يومين من ذلك الوقت.
ولو أن إنسانا شهد مسلكي الخفي في تلك الأيام العصيبة، وعرف ما قضيته من الليالي ساهدا مؤرقا، واطلع على فراري خفية من واشنجتن، واختفائي في نيويورك؛ لظن أني ارتكبت جريمة شنعاء، وأني أعمل على تضليل رجال الشرطة، ولكنني في واقع الأمر لم أسرق ولم أقتل، وكل ما فعلته أني اعتزمت التخلي عن عملي بوصفي مبعوثا اقتصاديا لحكومتي.
وما من شك في أن الأمريكيين على بكرة أبيهم لا يوجد بينهم من يعرف أن ليس بين الجرائم التي يرتكبها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية جريمة أعظم شناعة وأوخم عاقبة من الفرار؛ ذلك أن هذا العمل هو الكفر بالدولة إلههم الدنيوي، وهو لا يؤدي إلى اعتبار «المجرم» خارجا على وطنه مهدر الدم وكفى، بل إنه يحرم عليه تبادل الرسائل مع أحبابه من أهل بلده ويجلله العار أينما حل، وإذا جرؤ مواطن سوفيتي على مقابلته أو إظهار العطف عليه كان في ذلك انتحاره السياسي، بل قد يكون فيه انتحاره الجسمي.
ولم يكن العمل الذي أقدمت عليه من الخطى التي يخطوها روسي سوفيتي، وخاصة إذا كان شيوعيا قديم العهد بالشيوعية وذا مركز ممتاز في صفوف البيروقراطية، وهو مستهتر أو مندفع بمؤثرات وقتية. لقد كان هذا عملا نبتت أصوله في أعماق عقله من زمن بعيد، ثم ترعرعت ولم يكن في الإمكان اجتثاثها، وليست أسباب العمل الذي أقدمت عليه مما يطفو على السطح، بل هي مما يجب البحث عنه في الأعماق البعيدة، وفي طيات حياتي كلها.
وتحدثت إلى عدد من الأصدقاء في يوم الإثنين الثالث من شهر أبريل سنة 1944م، وفي مساء ذلك اليوم نفسه نشر خبر فراري في الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تيمس، وكان نشر الخبر في هذا الوقت من الأهمية بمكان، بل لعله كان السبب في نجاتي من الموت، فلو أن حراسي السوفيت علموا بفراري قبل أن يعرفه عامة الشعب لاتهمتني السفارة الروسية في واشنجتن لدى وزارة الخارجية الأمريكية بأني جاسوس ألماني، ولطلبت إليها أن تقبض علي فورا لأنقل إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، أما وقد كشفت الحقائق أمام الشعب الأمريكي وأخذ هذا الشعب يرقب فصول الرواية، فإن السفارة السوفيتية أصبحت عاجزة كل العجز عن عمل شيء، أو عاجزة عنه وقتا ما على الأقل.
ونشرت التيمس الخبر بالعنوان التالي: «موظف سوفيتي في هذه البلاد يعتزل عمله»، أما الخبر نفسه فقد بدأ على النحو الآتي:
Shafi da ba'a sani ba