وغادرت نيقوبول وأنا مكتئب محزون، وإذا ما عدت الآن بفكري إلى هذه الزيارة كان أعجب ما فيها أن قسما كبيرا من المصاهر قد تم إنشاؤه بطريقة ما هي أقرب الطرق إلى المعجزات وخوارق العادات، لقد استغرق إنشاؤها أكثر مما قدر له القائمون على أمرها، وأنفق عليها من المال أكثر مما رصد لها، وقاسى منشئوها ألوانا من العذاب لا يمكن تصورها، وضحي في سبيلها بأرواح لا حصر لها، ولكنها أنشئت آخر الأمر.
ورفعنا إلى الحزب تقريرا مفصلا، ورفعه الحزب إلى موسكو مشفوعا بتوصياته، ولم أغفل أنا شيئا مما لم أرض عنه حتى البق وحتى شكوى العمال من اعتقال القسم السياسي لزملائهم، ولست أعرف هل وصل ما ذكرته عن هذه الاعتقالات إلى موسكو أو لم يصل إليها.
وزادتني هذه التجربة تصميما على تنفيذ خطة كنت أفكر فيها من عدة شهور، لقد اعتزمت أن أسافر إلى موسكو وأحاول مقابلة الرفيق أورزنكدز والتحدث إليه وجها لوجه عما شاهدت حولي من أخطاء ومساوئ، وإذ كانت هذه الخطة تتفق مع حاجة مصنع بتروفسكي-لينين فقد وافق عليها الرفيق جليوبنكو مدير المصنع، ورضي أن يتحمل المصنع نفقات الرحلة.
وذهبت من المحطة إلى وزارة الصناعات الثقيلة مباشرة.
وكانت هذه زيارتي الثالثة لموسكو، ولكني شعرت فيها بما لم أشعر به في زيارتي السابقتين من فرق عظيم بين عاصمة البلاد وسائر مدنها، وكان من أسباب هذا الفرق ما أدخل على العاصمة من تحسين عظيم في مظهرها، ولكن أكبر أسبابه ما طرأ على مدن الأقاليم من تقهقر سريع.
وبدت لي موسكو كأنها مهد الرفاهة والرخاء إذا وازنتها بدنيبروبتروفسك أو بخاركوف نفسها، فلم تكن صفوف الناس أمام الحوانيت في العاصمة الكبرى طويلة كصفوفهم في المدينتين الأوليين، ولم تكن الرفوف فيها خالية مثلها فيهما، وكان النشاط فيها ظاهرا محسوسا والناس متفائلين، والشوارع نظيفة معتنى بها، والطرقات الكبرى قد رصفت حديثا بالأسفلت، والمباني الحديثة تبهر القادم إلى المدينة من خارجها، ومر بي السائق في ميدان الأوبرا الذي تحيط به دور التمثيل والفنادق، ودار الأوبرا الكبيرة والحوانيت الجميلة الكثيرة العدد، ورأيت الناس الذين تزدحم بهم طرقات المدينة أحسن ملبسا من أمثالهم في سائر المدن، وكان أكثر ما سرني فيهم أنهم لا يتسكعون في الطرقات ولا يجولون فيها على غير هدى، بل كانت مشيتهم نفسها تبدو عليها مظاهر النشاط والرشاقة التي تكاد أن تكون غريبة في بلاد الروسيا بأجمعها.
ووصلت إلى حيث كان الرفيق أورزنكدز، وعرفت من كان هناك بنفسي، وحصلت على جواز مرور، ثم قدمت نفسي للرفيق سمشكين أمين سره، وكان من حسن حظي أنني قابلته من قبل فيسر لي سبيل المقابلة، وأطلعته على ما معي من رسائل التوصية من جليوبنكو وغيره، ووعدني بأن يبلغ الوزير نبأ قدومي.
وأحصيت ستة عشر شخصا ينتظرون في حجرة الاستقبال، وكانوا كلهم حسني البزة تلوح عليهم مظاهر النعمة، وكان بعضهم يلبسون ملابس أجنبية في أيديهم كلهم تقريبا مكاتيب مختصرة، ويدل مظهرهم كلهم على أنهم من ذوي المراكز الهامة ومن ذوي اليسار، ويبدو عليهم أنهم من رؤساء الصناعات المتحدة أو مديري المشروعات الصناعية الكبرى، وكلهم من أعلى طبقات الزعماء الاقتصاديين، وكنت أصغر من في الحجرة سنا وأقدمهم ملبسا، وأحسست كأني دخيل أو فقير بينه وبين الزعيم قرابة، ونظر الحاضرون إلي بشيء من الريبة وكأن لسان حالهم يقول: «ماذا يصنع هذا الإنسان في هذا الحفل من العظماء؟»
وسمعنا فجأة أصواتا وصراخا منبعثة من خلف الأبواب الكبيرة المؤدية إلى مكتب الوزير، وتبينت فيها نبرات صوت أورزنكدز الوزير الكرجي، وتطلعت أعيننا كلنا إلى الباب باهتمام وبغير قليل من الرهبة؛ ذلك أننا لم نكن نشك في أن غضبه إن كان غاضبا سيكون نذير شر لنا وخيبة للأغراض التي جئنا كلنا من أجلها، ثم فتح الباب بعنف واندفع منه رجل بدين يتصبب العرق من جسمه، وتبدو عليه مظاهر الخوف، يجر حقيبة ملابس مفتوحة، وسقطت من الحقيبة حزمة من أدوات المائدة: ملاعق وسكاكين وأشواك، ووقف المسكين وهو مثقل بحمله ليجمع الأدوات، ثم ألقاها بحركات عصبية في حقيبته، وأغلقها بأصابعه المرتجفة، وهرول من الحجرة دون أن ينظر إلى واحد منا.
وبعد دقيقة أو دقيقتين من ذلك الوقت خرج أورزنكدز مبتسما باش الوجه ليس في مظهره أثر من آثار ذلك المنظر العنيف، ووقفنا جميعا إجلالا له.
Shafi da ba'a sani ba