فرد عليه فانيا بسخرية لاذعة: «لا، إنك مخطئ، صحيح أنه كان له ثلاثة أولاد ولكن أسماءهم هي سام وحام ويهوذا، ولعلك تفهم قولي.»
واحمر وجه فجورا وتزعزعت للمرة الأولى تقواه واعتداده بفضيلته، وتمتم وهو يخرج من الحجرة: «إني لا أفتأ أؤدي واجبي.» ولم نستطع تنقية الجو الذي أعقب هذا الحادث إلا بعد أسابيع كثيرة، ولما انتحر اسكربنك بعد أن بدل الحزب نفسه خطته وأصبح رأيه في هذا الموضوع أقرب إلى رأيي ورأي ألكسي، لم ير فجورا نفسه شيئا من التناقض في مسلكه، وكان يقول: «لكل زمان حقائقه.»
ولقد أصبح الآن حق الجمهوريات أو الأقاليم غير الروسية الداخلة في نطاق الاتحاد السوفيتي في أن تستخدم لغتها الخاصة المظهر الوحيد من مظاهر الحكم الذاتي الذي تتمتع به تلك الجمهوريات والأقاليم، أما أن تكتب بهذه اللغة شيئا لا يتفق في كل صغيرة وكبيرة مع خطة الحزب، أو أن تفكر بها في شيء من هذا القبيل، فذلك هو الخيانة العظمى. وبهذا أصبحت حرية اللغة في واقع الأمر آخر مظاهر الاستقلال القومي، وكان الواجب يقضي أن تكون بدايتها، وأضحى شعار القوم الذي يسترون به سيطرتهم البوليسية التامة هو: «القومية شكلا والاشتراكية قلبا وقالبا.»
وهمس في أذني صديق ساخر في يوم من الأيام: «ها هو ذا كل ما لنا من استقلال ذاتي قومي.» وأشار وهو ينطق بهذا إلى مرحاض عمومي كتبت عليه كلمتا: «الرجال» و«النساء» باللغتين الأوكرانية والروسية.
ولقد نبتت في بعض البلاد الأجنبية لسبب ما تلك الخرافة القائلة بأن الجمهوريات السوفيتية المختلفة تتمتع بقسط من الاستقلال، يتضمن حتى حق الانفصال، وليس ثمة - بطبيعة الحال - إنسان واحد في بلاد الاتحاد السوفيتي كلها يصدق هذه الخرافة؛ ذلك أن أية نزعة ثقافية قوية تظهر بين أقلية من الأقليات وتتعارض مع العقائد الشيوعية في أتفه الأمور، يقضى عليها بلا رحمة، ومن أجل هذا أعدم مئات من الأوكرانيين وسجن أو نفي عشرات الآلاف منهم؛ ل «مروقهم القومي» ولوجود ميول انفصالية مزعومة بينهم.
وانتهت إقامتي في خاركوف دون سابق إنذار بمقتضى قرار لم يستشرني أحد فيه؛ ذلك أني نقلت فجأة من أعمال الطيران إلى أعمال التعدين، وأمرت أن ألتحق بمعهد للتعدين في لنينغراد أولا ثم في بلدتي الأصلية بعدئذ، ولكن العهد الذي قضيته في خاركوف على صغره يشغل حيزا كبيرا من ذاكرتي؛ ذلك أن هذا العهد ازدحم بالأعمال الحزبية ونواحي النشاط الصحفية، وبما ألقي علي من تبعات في إدارة بيت الطلاب.
ومن أبرز الصور التي بقيت في ذاكرتي صورتا امرأتين كلتاهما حسناء وكلتاهما رزئت مما رزئت به الأخرى فلم توفق في زواجها.
أما الأولى فهي زوجة الدكتور سمرين أستاذنا في الكيمياء، وهو رجل أحدب له ذراعان طويلتان لا تتناسبان قط مع قامته القصيرة المقرقمة، ورأس تخاله بطيخة، ولكنه كانت له عينان تشعان حكمة، وعقل قوي وثاب، وعطف على الناس صادق غير متكلف، وسرعان ما غطت هذه الفضائل الخلقية والذهنية في عقول الطلبة على عيوبه الجسمية، وكنت أنا أنتظر محاضراته بشغف عظيم.
ودعوته يوما إلى العشاء معي في بيت الطلبة، وطفت به في الحجرات وقاعات الاجتماع؛ فسر من نظامها ونظافتها، ولما فرغنا من العشاء قال لي: «عليك يا فيتيا أن ترد لي هذه الزيارة في وقت قريب، إن زوجتي تجيد العزف على البيان، وأنا أعلم أنك مولع بالموسيقى.»
وكانت أسرة الدكتور سمرين تقيم في شقة ذات أثاث يدل على ذوق راق حسن، في إحدى حجراتها بيان يشغل معظم فراغها، وعلى جدرانها صور لكبار الكتاب الروس، ووضع في أحد الأركان تمثال نصفي لبيتهوفن مصنوع من الشبه قائم على قاعدة.
Shafi da ba'a sani ba