إنه ليستحيل على أي عمل صناعي أن يسير في دقة مطلقة، فالآلات قد تفسد، والأغلاط قد تقع، والعمال المتعبون قد يزدادون إهمالا، وخطط الإنتاج قد يصيبها التعديل، ولئن صح هذا عادة، فهو صحيح بصفة خاصة إذا ما كان المصنع حديث الإنشاء، وآلاته واردة إليه من خارج البلاد، وعماله إلى حد كبير يتألفون ممن جاءوا من الريف توا ولا خبرة لهم، ومع ذلك فقد كانت كل حادثة طارئة مما يحدث تجيء برجال القسم السياسي مسرعين، يتشممون في قلق لعلهم واجدون رائحة شيء من التخريب والتدمير، فيجرون تحقيقا علنيا في مكاتب «القسم السري» أو يجرون تحقيق مسائيا سريا تهتز له رئاسة القسم السياسي في المدينة.
ولقد أصدرت أمري بأن أستدعى في الحال إذا ما حدثت حادثة مهما تكن تافهة، حتى لو أدى ذلك إلى إيقاظي من النوم في منتصف الليل، ولكني مهما أسرعت في الذهاب إلى مكان الحادثة، كنت أجد رجال القسم السياسي قد سبقوني إلى هناك، يتجهمون ريبة، ويتهمون في سخرية.
ذلك هو الجو الذي عملنا في ظله منذ البداية، وقد كان المهندسون والموظفون الإداريون القدامى يرونه جوا طبيعيا للصناعة السوفيتية، وكانت تدور بينهم نكات خاصة عن «كتاب العرائض» الذين ينبثون في كل ركن من أركان المصنع، أما أنا فلم أستطع قط أن أوائم بين نفسي وبين هذا الجو، وكان لا بد لهذه الحالة أن تزداد سوءا كلما تقدم الزمان شهرا، فاشتدت في قوتها حركة التطهير الأعظم التي أعقبت موت «كيروف»، فلم يكد يمضي عام واحد على نيقوبول حتى تحولت بحيث أصبحت أقرب إلى أن تكون مجالا للصيد يجول فيه رجال الشرطة وأعوانهم من المخبرين السريين، منها إلى أن تكون مؤسسة صناعية.
جاءت أمي تزورني فأعجبها منزلي الأنيق بما فيه من أثاث جميل ومن أسباب الراحة الكثيرة الحديثة، ثم أعجبها بوجه خاص أن تكون في الدار خمس غرف لي كلها وحدي، فلم يعد أمامها سبيل إلى الشك في أن ثاني أبنائها قد «شق طريقه في الحياة!» وكان المطبخ بثلاجته الكبيرة وخيراته الوفيرة يجذبها كأنه المغناطيس، وحدث أن دعوت بعض زملائي للعشاء ولإقامة حفل صغير تكريما لأمي، فألحت أمي أن تطهى هي الطعام بنفسها، ووقفت خادمتي «باشا» تنظر في إعجاب إلى أم مخدومها وهي تعد له أصنافا خاصة تعرف أنه يحبها منذ طفولته.
ولما فرغنا من العشاء مر بداري بعض أضياف آخرين، بينهم رئيس العمال وكثير من عمال المصنع، وكان كل منهم يبدي من ضروب الشهامة أعلاها في ترحيبه بهذه السيدة القليلة في حجمها ذات الشعر الأبيض والقد المتناسب، وقد حدث ما جعل أمي تهمس في أذني قائلة: «أرى يا «فيتيا» أنك محبوب لدى الناس، أرى ذلك من طرائق سلوكهم إزاءك، وهذا جميل، جد جميل!»
وفي الصباح التالي قبلت أمي مودعا، وطلبت إليها ألا تدع الملل يتسلل إلى نفسها؛ إذ إني لن أعود إلى الدار قبل ساعة متأخرة من الليل، ولم يدر في خلدي حينئذ أنها كانت قد دبرت لنفسها خطة تقضي بها النهار، فلما كانت ساعة الأصيل من ذلك اليوم جاءتني الأنباء عن بوادر نشاطها، إذ أنبأني مهندس أنه رأى أمي في المقصف تتحدث إلى الطاهيات والمناولات، فالظاهر أنها وجدت من يعطيها تذكرة مرور بحيث استجابت لدافع التطلع من أنوثتها والتمست سبيلها فورا إلى المطبخ.
وعدت إلى الدار ذلك المساء في ساعة متأخرة فوجدت أمي قد أوت إلى مخدعها، وفي اليوم التالي أنبئت مرة أخرى أن أمي كانت في بعض أنحاء المصنع تتسلل خلسة هنا وهناك وأوراق مذكراتها في يدها، على حد تعبير رئيس عمالي، وسمعت أنها طافت بالثكنات ومخازن التعاون ومراضع الأطفال، لكني كنت في ذلك اليوم من الإجهاد في عملي بحيث لم يبق لي من فراغ التفكير ما يجعلني أهتم لهذا «التسلل» الذي سمعته عن أمي، فما أن بلغت الدار في المساء حتى وجدتها جالسة إلى مكتبي بمنظارها ذي الإطار المعدني مرتكزة على أرنبة أنفها الدقيق، تكتب في كراسة على نحو ما يكتب أصحاب الأعمال إذ ينهمكون في أعمالهم، فلم أتوجه إليها بسؤال، وانتظرت قليلا في شيء من القلق، لعلها تبدأ هي الحديث، فلما انتهينا من طعام العشاء، وأزالت «باشا» عن المائدة أطباقها، قالت لي أمي: «أريد الآن يا «فيتيا» أن أتحدث إليك حديثا جادا.» - «افعلي يا أماه، فماذا يؤرقك؟»
فأخذت تحدثني على نحو ما يتحدث مجلس الإدارة للجمعية العمومية إذ يرفع إليها تقرير العام، فأنبأتني أنها قامت بتفتيش المصنع تفتيشا دقيقا، ففحصت مساكنه ومراضعه ونواديه ووسائل الاستحمام وغيرها من الوسائل الصحية، وكان صوتها إذ هي تحدثني ينم عن كثير من اللوم.
ولخصت تقريرها قائلة: «لقد صعقت لما رأيت، هل تدري كيف يعاملون عمالك ها هنا؟ ففيما يختص بما لديك من مديرين وموظفين ترى كل أسباب العيش الرغيد موفورة، أما إذا هبطت إلى صفوف العمال فلن تجد إلا قذارة وإهمالا، فالمطبخ يقزز النفس وقائمة الطعام تتكرر صنوفها تكرارا يغم الصدور، وأما الثكنات قل لي: أتظن حقا أن هذه الثكنات تصلح لسكنى العمال السوفيت؟» - «ولماذا تلقين التبعة على عاتقي؟ إني أبذل كل جهدي، وليس من الإنصاف أن تلقي التبعة علي.» - «إنك من القادة هنا يا «فيتيا» ولا مندوحة لك عن الشعور بالتبعة، انظر كيف تعيش أنت، ألا يحرك ضميرك قط أن ترى هذا الفارق البعيد بين عيشك وعيشهم؟» - «أخشى يا أماه أن تكون حقيقة الأمر قد غابت عنك، فلسنا نحن الموظفين رؤساء بالمعنى القديم لهذه الكلمة، إنما تأتينا الأوامر من الرياسة العليا ونحن إزاءها مقيدون لا نستطيع حراكا، لقد أمرت بتبييض المقصف وألححت في أن تغسل أرضه ثلاث مرات كل يوم، مرة بعد كل نوبة من نوبات العمل، أما إذا جاوزت أمثال هذه الصغائر فلا حول لي ولا قوة، إذ الأمر بعدئذ يصبح مرتبطا بسلم الأجور ومشروعات المساكن والميزانيات والأسعار المحددة للملابس والأحذية، وهذه كلها أمور تتقرر في موسكو، وكل عملي ها هنا هو صناعة الأنابيب.» - «لا أقل من أن تعرف الحقائق! لقد دونت مذكرات فهاك ما دونت، أتدري أن النساء لا بد لهن أن يركبن أو يمشين أربعة أميال أو أكثر إلى المدينة ليستبضعن؟ فلماذا لا تقام سوق هنا حيث يجيء مزارعو المزارع الجماعية بمنتجاتهم للبيع؟ إن لك وحدك - فيما أرى - حماما جميلا أبيض، أما العمال وهم يعدون بالألوف فليس لهم سوى جحر قذر لا يستحق أن يسمى حماما، وحتى هذا الحمام على ما فيه من سوء، تالف لا يعمل! في مشروع كهذا يكلف عشرات الملايين، لماذا لا تعد حمامات نظيفة للرجال ومثلها للنساء؟ وخذ مثلا آخر يا فيتيا: مراضع الأطفال، لا تجد فيها الكفاية من «بياضات» أو دواء أو أي شيء آخر.»
فقلت في صوت المتخاذل الموقن بصدق ما تقول أمي: «لقد رسمت الصورة أسود مما هي في الواقع.» - «لست يا بني بلائمتك على ذلك، لكنك إذا ما عرفت حقيقة الأمر وعرفها سائر المديرين، فربما أنقذتم في الموقف شيئا.»
Shafi da ba'a sani ba