149

Na Zaɓi 'Yanci

آثرت الحرية

Nau'ikan

وقبض على مئات ممن حامت حولهم الشبهة في لننجراد، وقتلوا رميا بالرصاص في حينهم بغير محاكمة، وسيق مئات آخرون من أعماق السجون التي زجوا فيها لأعوام خلون، ثم أعدموا رمزا من الحكومة على انتقامها من أعداء الحزب، وغصت سجون الأقاليم بداخليها، وحملت قطارات البضاعة ألوفا وألوفا من «العناصر الدخيلة من الوجهة السياسية» حيث خرجت بهم من المدينة إلى مطارح النفي النائية، ثم امتد هذا الإرهاب حتى شمل موسكو وكيف وخاركوف، وأخيرا طفت موجته على البلاد بأسرها.

وكان أول ما أذيع من أخبار موت «كيروف» هو أن القاتل كان أداة في أيدي طائفة من الأجانب الأنذال من أستونيا وبولندا وألمانيا ثم من بريطانيا، وبعدئذ تتابعت التقارير الرسمية معلنة أن «نيقولاييف» كان يرتبط على نحو غامض بأتباع - حاضرين وسابقين - «لتروتسكي» و«زينوفييف» و«كامينيف» وغيرهم من البلاشفة القدامى الذين خرجوا على الحزب، وأخذت في كل ساعة تقريبا، تتسع دائرة الذين فرضت فيهم صلة بالأمر على نحو مباشر أو من الوجهة «المعنوية» حتى شملت تلك الدائرة كل إنسان حدث له يوما أن أثار أدنى الشكوك في سياسة ستالين.

وأطلق للدعاوة حبلها على الغارب، كأنما نسي الزعماء ونسيت صحافتهم ما كانوا يفاخرون به أمس القريب من أن الحزب قد أصبح موحد العقيدة على نحو لم يسبق له مثيل، فراحوا الآن يصرخون صرخات الهوس بأن الحزب قد اندس فيه الخونة والمنشقون والمخادعون والمخربون، وكنت تسمع تلميحا منذرا بالسوء آنا بعد آن بوجود مؤامرات وتدبيرات في الخفاء، قد عقدت صلاتها بالعالم الرأسمالي الذي يأخذ أهبته لشن الحرب على الوطن السوفيتي، ومن كان منا ذا دراية يسيرة باتجاه الريح السياسية في البلاد أدرك أن إراقة الدماء إراقة على نطاق واسع كالذي عهده التاريخ على يدي جنكيز خان، كانت على وشك الوقوع، ولم نخطئ الحساب، إذ جاءت الأعوام القليلة التالية تحمل لنا في طيها أفظع حركة إرهابية حكومية شهدتها الروسيا في تاريخها كله.

وانتشرت الشائعة في دوائر الحزب بأن فعلة «نيقولاييف» لم تكن سياسية إطلاقا، وأنه إنما أطلق الرصاص على «كيروف» في ثورة من الغيرة؛ لأن «كيروف» قد أفسد عليه زوجته الجميلة، وتعاونت أمثال هذه الهمسات المحرفة مع وسائل الدعاوة المنظمة بحيث أحاطت الجريمة بالغموض والتخمين فلم تعرف حقيقتها حتى اليوم، وفي الوقت الملائم أصدرت اللجنة المركزية «خطابا سريا» قرئ في اجتماعات خاصة من أكثر أعضاء الحزب نشاطا في أرجاء البلاد كلها، وذلك بعد أن تعهد هؤلاء الأعضاء بكتمان الأمر سرا في صدورهم، وقد صور هذا الخطاب مقتل «كيروف» على أنه تعبير عن حركة بعيدة الغور يقاوم بها أنصارها من أعداء الثورة سياسة الحزب وزعماءه.

ومهما يكن من أمر العلة المباشرة أو الباعث البعيد الذي حفز «نيقولاييف» على إطلاق الرصاص، فقد كانت هذه الحادثة في رأي المفكرين من الشيوعيين علامة تدل على ما في النفوس من ضيق شديد دفين تحت سطح الحياة في بلادهم، ذلك السطح الذي يقوم على حراسته رجال الشرطة، فكل واحد منا كان يحس في طوية نفسه المرارة واليأس، وكانت تبلغ بنا الجرأة، أحيانا أن يكاشف بعضنا بعضا بتلك الوساوس على ألا تزيد جماعتنا عن اثنين أو ثلاثة، ولقد كان لا بد من مقتل رجل هو من أقرب المقربين لستالين، حتى نستيقظ لنعي أن كروبنا الخاصة إن هي إلا موجات من نهر عظيم من السخط تجري أمواهه تحت سطح الأرض دفاقة فتنفذ إلى صميم القلب في أمة كثيرة النفر.

كان كل شيء هادئا في الظاهر، فقد بطش بألسنة النقد من «المياسرة» ومن «الميامنة» على السواء، وسطع ستالين «شمسنا» في سمائه مطمئنا فوق حزب موحد النزعات، وأما الفلاحون فقد ألهبتهم السياط ليخضعوا على غيظ كظيم تحت ضغط البنادق والمجاعة، فلم تعد تسمع صوتا باحتجاج على حركة التحول الصناعي التي فتكت بحياتهم، وعلى ما يعانونه من قلة الطعام ومصاعب الحياة، وقبض الشرطة عليهم بنسبة عالية، هذا في الظاهر، أما في الباطن فقد كان كثيرون من أعضاء الحزب وأبناء الأمة يتميزون من غيظ، فتحت هذه الغفوة البادية من عدم المبالاة، وتحت طبقة رقيقة من اليأس الصامت، كانت تتأجج نيران الغضب الهائج كأنها حمم البراكين.

ينبغي أن يتبين العالم هذه الحقيقة في وضوح إنصافا للشعب الروسي، فقد كان هؤلاء الروس من شقاء العيش بحيث عجزوا عن النهوض، شلت فيهم الحركة عشرون عاما قضوها في حروب وثورات وقلة في الغذاء ومطاردات الاضطهاد، دوختهم أقوال الدعاوة وحيرتهم الأكاذيب، وقطعت الأسباب بينهم وبين العالم الخارجي، ومع ذلك كله لم يذعنوا قط عن رضى لفظائع حكامهم، وكان الشعور بالحرارة على أشده في الحزب نفسه؛ لأنها كانت ممزوجة في نفوس أعضائه بشعور الخطيئة، وكان يزيد من المرارة عند هؤلاء الأعضاء شعورهم بالعجز إزاء الحكام وما لهم من نفوذ وسلطان.

ولم يكن من قبيل المصادفات أن يكون «نيقولاييف» ومن اتهم معه بالاشتراك المباشر في جريمته جميعهم من الشباب الذين أخرجهم عهد السوفيت، وكانت كثرتهم الغالبة من الطلاب، لقد جرى التقليد بأن تكون المدارس العليا في الروسيا هي أوكار المذهب الثوري في صورته المثلى، فباتت هذه الصورة المثلى من المذهب تعد مناهضة للثورة، لكنها لم تزل على سابق عهدها لم تتحول.

لم يكن يغيب على أحد من الشيوعيين أن آلاف الطلاب قد قبض عليهم وأن مئات منهم قد قضي عليهم بالموت بعد مقتل «كيروف»، ومع ذلك لم تذكر الصحف من ذلك شيئا، فقد كان يكفي لتحريك الريبة في صدور الشرطة السرية أن يجتمع عدد من الطلبة في دار واحد منهم ليقضوا معا سهرة راقصة يسرون فيها عن نفوسهم.

فإذا ما فوجئنا في المعهد بغياب عدد من الطلاب لم يقع ذلك منا موقع الشذوذ في مجرى الحياة المألوف، ولا دعا أحدا منا إلى التساؤل، بل كنا نغضي عن عمد كأننا لم نلحظ شيئا، لكن قلوبنا كانت دائما تميل بعطفها نحو الزملاء الذين قبضتهم أيدي الشرطة، ولم يحدث قط أن كان هوانا مع الشرطة في ذلك، ولقد أخذ كل منا نفسه بأن يشدد الرقابة على لسانه؛ لأنه إذا ما انطلق بحديث صريح، كان معنى الصراحة هنا «عداوة للشيوعية».

Shafi da ba'a sani ba