سر إلينا
توارت من المعهد، طلابه ومدرسيه، وجوه كثيرة بعد التطهير كنا قبل ذلك قد ألفنا أن نراها، لكن من بقي في المعهد أطلقوا لأنفسهم في عملهم حرية أوسع ونشاطا أكبر، ما دامت أصابع الرعب قد زالت عن حلوقهم، وكنت عندئذ في آخر أعوام دراستي، وكان قد مضى علي أمد منذ أخذت في معالجة مشكلات هندسية عملية في مصنع المعهد، أنفق فيها بعض وقتي باعتبارها جزءا من منهج دراستي، حتى إذا ما تخرجت كان لي أن أتطلع إلى منصب رئيسي في صناعة المعادن التي كان يتسع نطاقها.
ولم ألبث بعد حركة التطهير أن التقيت ب «إلينا»، وقد عرفت ما تعانيه من آلام، فسرعان ما صيرت كيمياء الحب آلامها جزءا لا يتجزأ من حياتي، فأصبحت تكون فصلا من قصة سيرتي، بل إن ما ألم بي من أحداث إلماما مباشرا قلما ترك في نفسي أثرا أعمق مما تركته هذه الأحداث التي وقعت ل «إلينا» وغيرت من نظرتي إلى حكومة السوفيت.
لطالما أخذني العجب مما تفعله المصادفة البحتة في تقرير حياة الإنسان، لقد حدث لما انتقلت إلى «دنيبروبتروفسك» أن سكنت «إلينا» في شقة من منزل يقع على مقربة من مسكني، وكانت تذهب إلى عملها في الصباح في نفس الوقت - تقريبا - الذي كنت أذهب فيه إلى المعهد، فنشأ عن ذلك أننا كثيرا ما كنا نركب عربة واحدة، وقد كنت لحظتها أول مرة ذات يوم ثارت فيه عاصفة ثلجية شديدة، إذ كان كلانا واقفا ينتظر على طوار السيارة الكهربائية الحجري، ومعنا نحو اثني عشر رجلا وامرأة تلاصق بعضهم في بعض.
تلك كانت حادثة عابرة، كذلك كان لقائي الثاني بها ولقائي الثالث فيما تلا ذلك من أسابيع، كلها كانت من قبيل المصادفات، لكني بعدئذ أخذت أبحث عن هذه الفتاة الممشوقة ذات الشعر الأسود، وأخيرا جعلت أنتظر قدومها، فكنت أترك سيارات كثيرة تمضي فلا أركبها ارتقابا لها، وعلى غير أساس من منطق سليم كنت أغضب إذا ما تأخرت، حتى إذا ما لمحتها بطرف عيني قادمة بقدها الأهيف؛ نبض قلبي نبضة أو نبضتين، وحسبت - وكان حسابي صوابا كما علمت فيما بعد - حسبت أنها كانت شاعرة أتم الشعور باهتمامي بها، وأنها لم تكن إزاء اهتمامي تقف موقف التي لا تأبه بالأمر كثيرا أو قليلا، وكثيرا ما ضحكنا معا فيما استقبل من الأيام، ضحكنا معا من هذا الغزل الذي يتم بغير كلمات وعلى طرف من سيارة عامة.
ولما قدمت لها في نهاية الأمر - وكان ذلك أيضا مصادفة - أحسسنا معا كأنما طال عهد تعارفنا، كان ذلك في ساعة متأخرة ذات مساء، وكنت عائدا من جلسة طويلة عقدتها اللجنة الإقليمية، وكانت القاعة معبأة بالدخان ، والنقاش يبعث الملل، فما كان أحلى الخروج عندئذ إلى الهواء الطلق حيث أستنشق الهواء البارد وأحس لسع الصقيع، وبينما كنت أخطو مسرعا في طريقي، ناداني مناد، فقد مررت لتوي بسيدتين أوشكت ألا أراهما.
درت ببصري إلى خلفي فعرفت منهما طبيبة كانت عالجتني في المستشفى بعد خدمتي على الحدود الفارسية، وأما التي معها فهذه الجميلة التي لم أكن عرفتها بعد.
حيتني الطبيبة تحية حارة، وقالت: «كيف كانت حالك هذه الأيام يا فكتور أندريفتش؟ إنني لمغتبطة حقا أن أراك، لقد كنت أتابع قراءة مقالاتك في الصحف، وكنت أتتبع أخبار تقدمك في الحياة من أصدقاء لي هم كذلك أصدقاؤك، معذرة، فإني أقدم إليك صديقتي الشابة «إلينا بتروفنا».»
فكادت الطبيبة أن تفزع لهذا الشوق الذي بدا في «إلينا» وفي حين تصافحنا، ولهذه الحيرة التي نطق بها لسان حالنا، فما كان يدور بخلدها أن قد مضى علينا شهر أو نحو شهر ونحن لا نحلم إلا بمثل هذا اللقاء ليصل مسافة الخلف بيننا، ولا شك أنها ازدادت دهشة حين التمسنا سبيلا لتوصيلها إلى سيارة عامة حتى نمشي وحدنا، ولم يكن عسيرا علينا أن نخلق علة لذلك، ما دمنا نسكن معا في منطقة واحدة.
الأناقة والرشاقة كانتا أول ما يخطف البصر من جمال «إلينا» الفريد، نعم كان لها وجه رائع، لكن لو أراد فنان أن يصورها لما عن له قط أن يرسم وجهها وحده على لوحته، بل إن طبيعة الموقف تملي بنفسها عليه الرغبة في أن يصورها كاملة، كانت «إلينا» في ذلك المساء الذي تم فيه لقاؤنا الأول على صورة رسمية، تلبس معطفا من فرو أسود، يضيق عند الخاصرة، وتحته رداء يسطع بلونه على نحو ما اعتاد أهل القفقاس، وعلى رأسها قبعة لم تطرز حوافيها، وعليها قليل من فرو أبيض، وكانت القبعة مرتكزة على شعرها الفاحم، ماثلة على نحو يستوقف النظر، فأظهرت طولها النحيل، وعلى حاجبيها بضع رقائق من الثلج المتساقط، لمعت كأنها من كريم الأحجار.
Shafi da ba'a sani ba