وانفرط الموكب وعزفت الزامرات ورقص الشباب، وجاء «شاداي» و«دمشنكو» فوقفا إلى جواري، لقد مات ما يقرب من نصف سكان الإقليم في العام المنقضي منذ الحصاد الماضي، ماتوا من الجوع ومن الأمراض التي تتفشى بسبب الجوع، وها هم أولاء أحياؤهم قد جددوا للحياة مجراها، ولئن كانت الدولة تستولي على معظم الغلة الجديدة، فجودة الحصاد ستجعل مما يبقى مئونة تقرب مما يكفي لحفظ أود الحياة عاما جديدة.
وأدب الناس مأدبة في فضاء الحقول التي كان يشرف عليها «دمشنكو»، فلما وجه إلي الدعوة لزيارتهم لم يسعني إلا القبول، على الرغم مما كان ينتظرني من واجب تحرير خطابات لا بد من تحريرها في غير إبطاء، وهناك التف مئات من الفلاحين حول الموائد، وأضاء المكان قناديل ومشاعل، وبعد ساعات قضيناها في الترحيب وتبادل التهنئة وإلقاء الخطب، انتهت حفلة العشاء إلى عزف ورقص، فها هنا أيضا تبدى الرجاء في عودة الحياة إلى مجراها من جديد.
وفي مساء ذلك اليوم كتبت في غرفتي تقريرا ختاميا رفعته إلى القسم السياسي، منبئا بتمام مهمتي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، كما أنبأت كذلك بأني ألقيت القبض على اللصوص وأوصيت بطرد «كوبزار» و«شز» وكثير غيرهما من الموظفين.
وحدث بعد ذلك بأيام قلائل أني كنت أفتش حقلا، فسمعت فجأة صوت سيارة، ونظرت فإذا أمامي سرب من سيارات كبيرة أنيقة جاءت منسابة على طول الطريق، فلم أشك في أنها جاءت تحمل طائفة من أهم الزائرين، واستحثثت جوادي وعدوت صوب السيارات فوقفت ونزل منها ستة رجال، ودنا مني أحدهم، فعرفت فيه الرفيق «هاتايفتش» فنزلت عن جوادي وسرت إليه.
تصافحنا، ثم قال لي في لهجة الجاد: «أيها الرفيق كرافتشنكو، متى فرغت من الحصاد؟» - «فرغت منه منذ ثلاثة أيام، أي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام.» - «هكذا سمعت، كما سمعت أشياء أخرى، فمثلا، من ذا أذن لك أن تقطع الشوفان والشعير وأن تتصرف في ملك الحكومة من إنتاج اللبن؟ لماذا حرمت أن يعمل الناس ما ينافي العقيدة الدينية؟ أأنت عضو نظامي في الحزب أم أنت ضرب من ضروب الدعوة إلى الفوضى؟»
فأجبت في هدوء: «أيها الرفيق «هاتايفتش»، لم يسعني سوى أن أصنع ما صنعت، كان الأطفال يلفظون الروح وكانت الجياد في طريقها إلى الهلاك، ولم يكن لدى مزارعي الحقول الجماعية من القوة ما يستطيعون به حصادا، وها هي ذي الدولة قد تسلمت غلتها وافية وقبل الموعد المضروب، نعم، قد كلفني ذلك مقدارا من غلال، لكني بمثابة من استثمر هذا المقدار من الغلال ليحصل أضعاف أضعافه، فإن كان ذلك جرما فأنا على استعداد أن أحمل تبعته.»
فأمسك «هاتايفتش» بذراعي، وضغطها ضغطة فيها دليل الرضى على عكس ما دلت عليه ألفاظه الغلاظ، فلا بد أنه كان يبدي شيئا ويخفي آخر، تظاهرا أمام الذين صحبوه حتى لا تسود صحيفته، ثم سار في خطو بطيء حتى بعد عن مسامع أصحابه وحارسيه: «لقد أنبئت أنك صائر إلى أعمال الهندسة، وأنك من خيرة رجال الحزب، ولكني أشك في أنك قد أسأت فهم ما كان يجري من أمور، فبين الفلاحين ونظام الدولة حرب شعواء، إنها حرب حتى الفناء، وقد كان هذا العام امتحانا لقوتنا وقدرتهم على الاحتمال، ولم نتخاذل أمام المجاعة حتى ندلهم من يكون في البلاد سيدا، نعم دفعنا لذلك ثمنا ملايين النفوس التي أزهقها الجوع، لكن نظام المزرعة الجماعية باق، وبهذا خرجنا من القتال ظافرين.
أغلب ظني، أي رفيقي كرافتشنكو، أن قلبك أقوى من عقلك، فلو لان الجميع كما لنت لجاز ألا نظفر بالنصر في هذا القتال، ولا تحسبن أني بذلك أنحو عليك بلائمة، كلا بل إني لأعتقد أنك أديت مهمة تستدعي كل إعجاب، فلا بأس من أن أسر في أذنك أن قلبي - كقلبك - يقطر دما من أجل الفلاحين المساكين، لكني مع ذلك أحب أن تذكر أني وجهت إليك النقد، فإن سألك سائل فلا تنس أني حاولت أن أؤدبك بحيث تنطوي تحت طاعة القانون.»
فيظهر أنه حتى «هاتايفتش» الجبار يخشى على صحيفته في الدولة أن تسوء، كما يخشى من حركة «التطهير» القادمة.
وإن هي إلا دقائق معدودات بعد ذلك حتى أحاط به معاونوه وحارسوه المدججون بسلاحهم، وتحركت السيارات صوب القرية المجاورة فأثارت في الفضاء غماما من تراب، وركبت جوادي وعدت إلى دارى أتساءل: من ذا يا ترى قد وشى بي إلى «هاتايفتش»؟ لقد كنت على يقين أن «سومانوف» لم يكن هو الذي اقترف هذا الجرم مجاوزا به ما بيننا من عرى الود، فلا بد أنه «سكوبين» الذي كان في الظاهر خاضعا لأوامر «سومانوف»، أما حقيقة الواقع فهي أنه مسئول أمام الشرطة السياسية رأسا، وهي صاحبة السلطان الحقيقي في بلادنا، ولا شك كذلك أن «سكوبين» حين وشى، لم يكتف بالوشاية إلى واحد، بل أرسل عدة صور إلى أشخاص آخرين، وسيعلن المستقبل عن صدق هذا الرأي فيه، حين يحين يومي في حركة «التطهير».
Shafi da ba'a sani ba