حصاد في جحيم
لم تكن أحداث العالم أو حوادث الوطن عند الشيوعيين العاملين أمورا موضوعية مما لا يتصل بمجرى حياتهم اتصالا مباشرا، بل أوشك الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام من شئون الحياة أن يمحى في بلادنا، وتدخلت الحياة اليومية في التطورات السياسية تدخلا جعل منهما وحدة، فالنصر يحرزه هتلر، والأرقام الدالة على المزارع الجماعية وافتتاحية «برافدا» في عددها الأخير، كل هذه كانت عناصر من قصة حياتي.
وإن الرجل من خارج روسيا ليتعذر عليه أن يصدق روايتي إذا ما رويت له الحقيقة الواقعة، وهي أن أمثال هذه الوقائع السياسية أعمق أثرا وأشد وضوحا في ذكرياتي عن ذلك العهد، من زواجي من «زينا» الذي لم يدم إلا أمدا قصيرا.
التقيت ب «زينا » قبل رحلتي إلى الريف بشهرين، وقد كان جمالها هادئا رقيقا كالزهر، فلم يكن بها ما ب «جوليا» من عاطفة وشهوة، وهما الصفتان اللتان جذبتاني إلى هذه الأخيرة، كانت «زينا» رقيقة نحيلة ناعمة الصوت مرهفة المشاعر، لكن جسمها هذا الرقيق كان يغلف لبا صليبا من أثرة؛ فبينا كانت الكثرة الغالبة من فتياتنا السوفيت منبسطات النفوس، إذ كن بسيطات قويات، كما كان لهن وعي اجتماعي - على حد التعبير الذي جرى به العرف الاصطلاحي بيننا في الحزب - كانت «زينا» تنطوي على نفسها.
لم يكن لشيء وجود في رأي «زينا» إلا ما ارتبط بعواطفها الخاصة أو اتصل بهواها، ولقد أنذرني أصدقائي بأنها مترفعة بطبعها، والحق أن فتنتي بها كانت منذ البداية يشوبها شيء من وخز الخطيئة، فما عتمت - حتى قبل تسجيل زواجنا - أن أظهرت عدم ارتياحها لما كان يقتضيه مني الحزب من أعمال كثيرة، وكأنما لسان حالها يقول محتجا: «وأنا؟ أين منك نصيبي؟ لا أظنك مستطيعا أن تفرغ لي من وقتك شيئا.» ولئن أنطقتها بالشكاة شواغلي، فلم تكن أقل شكاة من قلة مالي ومن اضطرارنا أن نعيش مع أسرتي، وأحس أهلها بخيبة الرجاء في زواجها، ولم يجعلوا من شعورهم هذا سرا مكنونا.
فلما أمرت بالسفر إلى منطقة من مناطق المزارع الجماعية، شعر كلانا كأنما انزاح عن صدره كابوس جاثم، إذ جاءت غيبتي تلك قطيعة صادفت من نفسينا ارتياحا، وقد كانت مدة انفصالنا - ولو أنها لم تزد على قليل من أسابيع - كفيلة أن تفصم عرى الزوجية بيننا، حتى إذا ما عدت من الريف مهدود القلب مشتت الفكر، لم تأبه «زينا» لروايتي لها عن رحلتي، فوقع مني ذلك موقع الإيذاء، ولم ألاحظ بادئ ذي بدء أنها تأنقت في لباسها؛ فثوب من حرير، بل وأحجار كريمة.
وكان الطلاق عندئذ أمرا بسيطا يأتي من جانب واحد، فما عليك إلا أن تسجل ختام زواجك، فتعلن زوجتك بطلاقها ببطاقة ترسل إليها بالبريد، ولقد علمت - بعد أن حللت عرى زواجي ب «زينا» - أنها كونت لنفسها «أصدقاء جددا تحلو لها معهم الصلات »، وكأنما هدتها فطرتها الأثرة سواء السبيل، إذ كان بين هؤلاء الأصدقاء رجل ذو مركز ممتاز، تربطه الروابط بالطبقة العليا من أصحاب القوة والنفوذ، فكان في مقدوره أن يشبع لها ميولها المترفعة، فلم يكد زواجنا تنفصم عراه حتى تزوجت منه.
هكذا تبين أن ما كان ل «زينا» من جمال الزهر الرقيق، إنما هو ترف فضفاض بالنسبة إلى طالب مفلس، بل هو أوغل في الترف بالنسبة إلى شيوعي جاد في عقيدته، ولبثت أعواما بعد ذلك أصادفها في المسرح وحفلات الموسيقى، فما رأيتها قط إلا أنيقة الثياب، مترفعة عن غمار الناس، محشورة في زمرة اللامعين من أبناء مجتمعنا الجديد، وكنت لا أكاد أحتمل مجرد الذكرى بأني قد كنت يوما لها بعلا.
كان الموت أول ما حصدناه من مزارعنا الجماعية، وشاع بين الناس ما أصيبت به روسيا الجنوبية وآسيا الوسطى من مجاعة فاتكة، على الرغم من أن الصحف السيارة لم تذكر كلمة واحدة عن هذه المأساة، بل كان الناس يستنكرون هذا النبأ على أنه «دعاية ضد السوفيت»، مع أنهم كانوا على يقين أنه الحقيقة الصارخة.
وعلى الرغم مما اتخذته الشرطة من تدبير عنيف لكي تحصر صرعى المجاعة في ديارهم، فقد اجتاحت جموع من عمال المزارع مدينة «دنيبربتروفسك» وهم يتضورون جوعا، واستلقى على الأرض منهم كثيرون حول محطات السكة الحديدية لا يملكون حراكا، خارت قواهم حتى عن سؤال الإحسان، وأوشك أطفالهم أن يكونوا هياكل انبعجت منها معدات منتفخة، لقد كانت العادة فيما مضى أن يرسل الأهل والأصدقاء من الريف رسائل الطعام إلى ذويهم في الحواضر، أما الآن فقد انعكس الوضع، وعلى كل حال فقد كان نصيبنا من الطعام من القلة والاضطراب بحيث لم يستطع أن يستغني عن شيء من زاده إلا قلة يسيرة.
Shafi da ba'a sani ba