العلامة المحقق المرحوم أحمد تيمور باشا‏

كلمة اللجنة‏

مقدمة‏

القضيب والبردة‏

المنبر والسرير والخاتم والعمامة والسيف‏

الآثار النبوية في مصر‏

آثار القدم الشريفة على الأحجار‏

الآثار التي بالقسطنطينية‏

الشعرات الشريفة‏

العلم النبوي‏

الركاب النبوي‏

النعال النبوية‏

الخاتمة‏

العلامة المحقق المرحوم أحمد تيمور باشا‏

كلمة اللجنة‏

مقدمة‏

القضيب والبردة‏

المنبر والسرير والخاتم والعمامة والسيف‏

الآثار النبوية في مصر‏

آثار القدم الشريفة على الأحجار‏

الآثار التي بالقسطنطينية‏

الشعرات الشريفة‏

العلم النبوي‏

الركاب النبوي‏

النعال النبوية‏

الخاتمة‏

الآثار النبوية

الآثار النبوية

تأليف

أحمد تيمور باشا‏

العلامة المحقق المرحوم أحمد تيمور باشا

كلمة اللجنة

بسم الله الرحمن الرحيم

دأبت «لجنة نشر المؤلفات التيمورية» على البحث عن شتى المؤلفات الخطية وغير الخطية من آثار المغفور له العلامة المحقق «أحمد تيمور باشا» توطئة لتقرير ما تراه بشأن طبعها.

وقد اجتمعت كلمة اللجنة برياسة سعادة الشيخ المحترم العالم «خليل ثابت بك» - والبلاد مقبلة على موسم الحج والزيارة - على أن تقدم للطبع كتاب «الآثار النبوية الشريفة» على سائر ما لدى اللجنة من المؤلفات التيمورية الكثيرة المشار إليها.

وقد بادرت إدارة اللجنة إلى تنفيذ هذه الرغبة الكريمة في طبع هذا الكتاب ونشره، وهو ولا شك كتاب فريد في أسلوبه، حافل ببحوث شتى في آثار الرسول العظيم صلوات الله عليه وسلامه.

وبهذه المناسبة نذكر أن الفقيد العلامة «أحمد تيمور باشا» نشر في حياته جانبا من هذه البحوث النفيسة في «مجلة الهداية الإسلامية» وتولى بنفسه بعد ذلك إدخال بعض الإصلاحات على النسخة المطبوعة، وزاد في تعليقاته في بعض المواضع، وأضاف إلى ما كتب من قبل جديدا من بحثه واطلاعه.

وقد راجعت اللجنة تصحيحات الفقيد لأصول البحوث، وأضافت إليها ما عثرت عليه من تعليقاته وملاحظاته التي كانت مبعثرة هنا وهناك من تراثه النفيس الذي تسلمته اللجنة، حتى استكمل هذا المؤلف شتى جزئياته وكلياته، وبدا اليوم كاملا شاملا رائعا سهل العبارة غزير المادة، شأن جميع المؤلفات التيمورية التي عنيت اللجنة بنشرها تباعا، فلقيت من جمهور القراء في مصر وسائر الأقطار العربية والإسلامية تقديرا وإقبالا، مما شجعها على مواصلة جهادها في سبيل خدمة العلم ونشر الثقافة العامة في مصر وشتى أنحاء العالم العربي.

ومما هو جدير بالذكر، أن هذا المؤلف هو آخر البحوث النفيسة التي اختتم بها الفقيد العظيم حياته الطيبة المباركة، تقربا إلى الله، وإعلاء لشأن الدين، وخدمة للعلم والتاريخ، وقد بلغ الفقيد غايته، وأدى رسالته؛ رحمه الله وأجزل مثوبته.

مقدمة

لم أقصد ببحثي هذا سرد ما دون من الآثار الشريفة التي اختص بها محمد

صلى الله عليه وسلم

في حياته، وخلفها بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى من سلاح ومراكب وثياب وآلات وغيرها، فإن في كتب السيرة من بيان ذلك ما يغني عن التحدث به إلى القراء، وإنما قصدت أن أحدثهم عن آثار اشتهرت نسبتها إليه

صلى الله عليه وسلم

وتداولها الناس بلا تمييز من غالبهم بين صحيحها وزائفها، لأبين ما حققه العلماء عنها، وسأبدأ بالقضيب والبردة لاشتهارهما في الخلافة العباسية، ولله در العلامة الأديب صلاح الدين الصفدي حيث قال فيما صح من هذه الآثار:

أكرم بآثار النبي محمد

من زاره استوفى السرور مزاره

يا عين دونك فانظري وتمتعي

إن لم تريه فهذه آثاره

واقتدى به جلال الدين ابن خطيب داريا الدمشقي فقال:

يا عين إن بعد الحبيب وداره

ونأت مرابعه وشط مزاره

فلقد ظفرت من الزمان بطائل

إن لم تريه فهذه آثاره

القضيب والبردة

أثران نبويان كانا من شارات الخلافة في الدولة العباسية، كما كان الخاتم من الشارات السلطانية في دول المغرب، والمظلة في الدولة الفاطمية على ما يقول «ابن خلدون»

1 ، غير أن الخاتم والمظلة وغيرهما من الشارات لم تكن لها قيمة أثرية كالشارة العباسية، ولا سيما في شرف النسبة إلى المقام النبوي الكريم، وإنما كانت آلات محدثة في تلك الدول، قيمتها فيما كان بها من التحلية والترصيع.

أما القضيب: فالمروي في كتب السيرة أن النبي

صلى الله عليه وسلم

كان له قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل: وهو الذي كان الخلفاء يتداولونه. قال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: «وأما القضيب فهو من تركة رسول الله

صلى الله عليه وسلم

التي هي صدقة، وقد صار مع البردة من شعار الخلافة». وكان الرسم أن يكون بيد الخليفة في المواكب

2 ، وكانوا يطرحون البردة على أكتافهم في المواكب جلوسا وركوبا. قال ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية: «كان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه ويأخذ القضيب المنسوب إليه

صلى الله عليه وسلم

في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع القلوب ويبهر الأبصار» ا.ه. وبلغ من عنايتهم بهذين الأثرين الشريفين أنهم كانوا كلما قام منهم خليفة اهتم بهما اهتمامه بالبيعة، فإذا كان غائبا بعثوا بهما إليه مع بشير الخلافة الذي يبردونه، وما زالت الشعراء تذكرهما في مدائح الخلفاء العباسيين إلى انقراض دولتهم من العراق تنويها بانفرادهم عن سائر الدول بهذه المنقبة، كقول البحتري من قصيدة يصف فيها خروج المتوكل للصلاة والخطبة يوم عيد الفطر:

أيدت من فصل الخطاب بحكمة

تنبي عن الحق المبين وتخبر

ووقفت في برد النبي مذكرا

بالله تنذر تارة وتبشر

حتى لقد علم الجهول وأخلصت

نفس المروى واهتدى المتحير

3

وقوله من أخرى فيه:

وعليك من سيما النب

ي مخايل شهدت برشدك

تبدو عليك إذا اشتملت

ببردة من فوق بردك

وقوله من أخرى فيه أيضا:

وغدوت في برد النبي وهديه

تخشى لحكم قاصد وتؤمل

وقوله فيه أيضا - وقد ذكر آثارا أخرى كانت عند الخلفاء سنفرد الكلام عليها:

يتولى النبي ما تتولا

ه ويرضى من سيرة ما تسير

حزت ميراثه بحق مبين

كل حق سواه إفك وزور

فلك السيف والعمامة والخاتم

والبرد والعصا والسرير

يريد بالعصا: القضيب وقوله فيه أيضا:

عليك ثياب المصطفى ووقاره

وأنت به أولى إذا حصحص الأمر

عمامته وسيفه ورداؤه

وسيماه والهدى المشاكل والنجر

وقال من قصيدة يمدح بها المعتز بن المتوكل، ويهجو المستعين بعد خلعه:

ولم يكن المعتر بالله إذ سرى

ليعجز والمعتز بالله طالبه

رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر

وعرى من برد النبي مناكبه

وذكر ابن خلكان في وفياته عن ميمون بن هرون أنه قال: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال مثل قول البحتري في المتوكل:

فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

فرجعت إلى داري وأتيته، وقلت له: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري في المتوكل فقال: هاته! فأنشدته:

ولو أن برد المصطفى إذ لبسته

يظن لظن لبرد أنك صاحبه

وقال وقد أعطيته ولبسته

نعم هذه أعطافه ومناكبه

فقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت فبعث إلي بسبعة آلاف دينار وقال: ادخر هذه للحوادث من بعدي، ولك على الجراية الكفاية ما دمت حيا ا.ه

4 .

ومن ذلك قول الأبيوردي من قصيدة في المقتدى بالله:

إلى المقتدى بالله والمقتدى به

طوين بنا طي الرداء الفيافيا

ولذنا بأطراف القوافي وحسبنا

من الفخر أن نهدي إليه القوافيا

ولم نتكلف نظمهن لأننا

وجدنا المعالي فاخترعنا المعانيا

أيا وارث البرد المعظم ربه

بلغنا المنى حتى اقتسمنا التهانيا

وقوله من قصيدة في المستظهر بن المقتدى:

وعله من سيماء آل محمد

نور يجير على الدجى مرموق

والبرد يعلم أن في أثنائه

كرما يفوق المزن وهو دفوق

أفضت إليه خلافة نبوية

من دونها للمشرفي بريق

وقول الأرجاني من قصيدة في المسترشد بن المستظهر:

ورثت الذي قد ضمه البرد من تقى

ومن كرم من قبل أن ترث البردا

ووليت من أمر

5

القضيب شبيه ما

تولاه من كان المشير به مجدا

وما هو إلا أمر أمته الذي

إليك انتهى إذ كنت من بينها فردا

وقوله من أخرى فيه:

يا وارث البرد المجرر ذيله

في ليلة المعراج فوق الفرقد

ومعودا يده التخصر بالذي

أمسى به ظهر البراق وقد حدى

سلبا هدى عبق النبوة فيهما

من كف خير الأنبياء محمد

6

وقول سبط بن التعاويذي من قصيدة في المستضيء بن المستنجد:

إن يد المستضيء أسمح بالإع

طاء يوم الندى من الديم

خليفة الله وارث البرد والخا

تم والسيف مالك الأمم

معيد شمل الإسلام ملتئما

وكان لولاه غير ملتئم

7

وقوله من أخرى فيه:

آل النبوة بردها وقضيبها

لكم ومنبرها معا وحسامها

أبناء عم المصطفى الهادي وخير

عصابة وطيء الثرى أقدامها

وقوله من أخرى في الناصر بن المستضيء لما بويع بالخلافة:

ورأينا برد النبي على منكب

طود من الأئمة راسي

مالئا هديه المواقف من نور

جلال يضيء كالنبراس

وقوله من أخرى:

ورث النبوة منبرا وخلافة

وتقية

8

فعليه منها ميسم

فلمنكب ولعاتق ولخنصر

منه ثلاث قدرهن معظم

برد وسيف لا يفل وخاتم

فمجلبب ومقلد ومختم

وقوله من أخرى فيه:

له خاتم المبعوث أحمد خاتم الن

بوة موروثا مع السيف والبرد

9

وما برحت طير الخلافة حوما

عليه كما حام الظماء على الورد

صفة البردة

في الكلام على شعار الخلافة من صبح الأعشى نقلا عن ابن الأثير أن بردة النبي

صلى الله عليه وسلم

التي كان الخلفاء يلبسونها في المواكب كانت شملة مخططة، وقيل: كانت كساء أسود مربعا فيها صغر ا.ه. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي: «أخرج الإمام أحمد في الزهد عن عروة بن الزبير (رضي الله عنه) أن ثوب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

الذي كان يخرج فيه للوفد رداء حضرمي طوله أربع أذرع وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق وطووه بثياب تلبس يوم الأضحى والفطر» ا.ه.

اختلافهم فيها

لا خلاف بين المؤرخين في كون البردة العباسية أثرا نبويا صحيحا، ولكن لما كان المخلف عن النبي

صلى الله عليه وسلم

بردتين اختلفوا في التي صارت منهما لبني العباس. قال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: «وأما البردة فقد اختلف الناس فيها، فحكى أبان بن ثعلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهير واشتراها منه معاوية (رضي الله عنه)، وهي التي يلبسها الخلفاء، وحكى ضمرة بن ربيعة أن هذه البردة كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم

أعطاها أهل أيلة أمانا لهم، فأخذها منهم سعيد بن خالد بن أبي أوفى، وكان عاملا عليهم من قبل مروان بن محمد، فبعث بها إليه وكانت في خزائنه حتى أخذت بعد قتله، وقيل اشتراها أبو العباس السفاح بثلثمائة دينار» ا.ه. وقد حكي هذا الخلاف في صبح الأعشى وتاريخ الخلفاء للسيوطي وأخبار الدول للقرماني وحاشية البغدادي على شرح ابن هشام على بانت سعاد. وتفصيل هذه الإجمال في الرأي الأول: أن كعب بن زهير بن أبي سلمى (رضي الله عنه) لما بلغه إسلام أخيه بجير غضب وبعث إليه بأبيات يلومه فيها على إسلامه، فأهدر النبي

صلى الله عليه وسلم

دمه، ثم هداه الله إلى الإسلام فقدم المدينة وقصد المسجد فجلس بين يدي النبي

صلى الله عليه وسلم

تائبا مسلما وأنشده قصيدته بانت سعاد المشهورة، فلما وصل إلى قوله:

إن الرسول لسيف يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

رمى

صلى الله عليه وسلم

إليه بردة كانت عليه

10 ، فلما كان زمن معاوية (رضي الله عنه) أراد شراءها من كعب بعشرة آلاف درهم، فأرسل إليه يقول: ما كنت أوثر بثوب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

أحدا، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، قالوا: وهي التي عند الخلفاء العباسيين. وهو قول عز الدين بن الأثير في كتابيه: الكامل وأسد الغابة، والخوارزمي في مفاتيح العلوم، وابن هشام في شرح بانت سعاد، وأبي الفداء سلطان حماة في تاريخه، وابن حجر في الإصابة، ومؤرخين غيرهم كثيرين.

ولم يذكر ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية غير الرأي الثاني فقال: «قال الحافظ البيهقي: وأما البردة التي عند الخلفاء فقد روينا عن محمد بن إسحق بن يسار في قصة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل أيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم، فاشتراها أبو العباس عبد الله بن محمد بثلثمائة دينار، يعني بذلك أول خلفاء بني العباس، وهو السفاح رحمه الله تعالى، وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفا عن سلف». وهو قول الذهبي أيضا على ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ونص عبارته: «وأما الذهبي فقال في تاريخه : أما البردة التي عند الخلفاء آل عباس فقد قال يونس بن بكير عن ابن إسحق في قصة غزوة تبوك: إن النبي

صلى الله عليه وسلم

أعطى أهل أيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم، فاشتراها أبو العباس السفاح بثلثمائة دينار». قال السيوطي: «فكأن التي اشتراها معاوية فقدت عند زوال دولة بني أمية». وقال القرماني: وقيل كفن فيها معاوية. وذكر ياقوت هذه البردة في معجم البلدان ولم يتعرض لخبر انتقالها إلى الخلفاء فقال في كلامه على أيلة: «ويقال إن بها برد النبي

صلى الله عليه وسلم ، وكان وهبه ليحنة بن رؤبة

11

لما سار إليه إلى تبوك». وكذلك فعل المقريزي في خططه والجزيري في درر الفرائد المنظمة في ذكراه أن من بها من اليهود يزعمون أن عندهم برد النبي

صلى الله عليه وسلم

الذي وجه به إليهم أمانا لهم، وأنهم يظهرونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب، وقد أبرز منه مقدار شبر لئلا تدنسه الأيدي.

والخلاصة: أن البردة العباسية إما أن تكون بردة أيلة بقيت عند أهلها إلى أن اشتراها السفاح بثلثمائة دينار، أو إلى أن انتزعها منهم عامل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وحملها إليه، ثم صارت من بعده للعباسيين، وإما أن تكون البردة الكعبية التي اشتراها معاوية (رضي الله عنه)، ثم حفظت عند بني أمية حتى ورثها منهم العباسيون، وأكثر المؤرخين على هذا الرأي، وقد فصل المسعودي في مروج الذهب خبر مصير البردة والقضيب إلى بني العباس بما لم نره لغيره من المؤرخين، فذكر ما كان من فرار مروان بن محمد بن العباسيين إلى مصر، وأنهم لحقوه بها، وقد نزل بوصير فهجموا عليه وقتلوه، ثم رأوا خادما له شاهرا سيفه يحاول الدخول إلى بناته، فأخذوه وسألوه عن أمره، فقال: أمرني مروان إذا هو قتل أن أضرب رقاب بناته ونسائه، فلا تقتلوني فإنكم والله إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول الله

صلى الله عليه وسلم . فقالوا له: انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني، ففعلوا فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل فقال: اكشفوا هنا فكشفوا فإذا البرد والقضيب ومخصرة

12

قد دفنها مروان لئلا تصل إلى بني هاشم، فوجه بها عامر بن إسماعيل إلى عبد الله بن علي، فوجه بها عبد الله إلى أبي العباس السفاح، فتداولت ذلك خلفاء بني العباس.

مصير البردة والقضيب

ذكر ابن الزيات في الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة بالقرافتين الكبرى والصغرى قبرا اشتهر بأنه قبر صاحب البردة، واستطرد في الكلام عليه لذكر البردة النبوية فقال: «قال ابن عثمان: هو صاحب البردة يعني بردة النبي

صلى الله عليه وسلم ، وذلك غير صحيح، قال المؤلف: وبردة النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا في آثار النبي

صلى الله عليه وسلم

التي دخلوا بها إلى مصر أن فيها بردة غير البردة التي في أيدي بني العباس، وهي موجودة عندهم إلى الآن، ولم يذكر علماء التاريخ أنه دخل إلى مصر من الصحابة ممن له بردة من اسمه صاحب البردة. وآثار النبي

صلى الله عليه وسلم

مثبتة عند العلماء، ويحتمل أن تكون هذه البردة بردة رجل من الصالحين» ا.ه. وإنما نقلنا هذه العبارة لبيان ما فيها من الوهم، فإن وفاة ابن الزيات كانت سنة 814، وقوله عن البردة: «وهي موجودة عندهم إلى الآن» يفيد بقاءها بأيديهم إلى عصره، والصحيح أنها فقدت قبل ذلك بقرن ونيف، ولعله نقل هذا القول عن مؤرخ قديم كانت البردة في زمنه عند الخلفاء، وسها عن التنبيه عليه.

وقال المسعودي بعد عبارته المتقدمة في مصير البردة والقضيب إلى العباسيين ما نصه: «فتداولت ذلك خلفاء بني العباس إلى أيام المقتدر». فيقال: «إن البرد كان عليه يوم مقتله، ولست أدري أكل ذلك باق مع المتقي لله إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في نزوله الرقة أم قد ضيع ذلك». وفي صبح الأعشي: «وكان القضيب والبردة المتقدما الذكر عند خلفاء بني العباس ببغداد إلى أن انتزعهما السلطان سنجر السلجوقي

13

من المسترشد بالله ثم أعادهما إلى المقتفي عند ولايته سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، والذي يظهر أنهما بقيا

14

عندهم إلى انقضاء الخلافة من بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، فإن مقدار ما بينهما مائة وإحدى وعشرون سنة، وهي مدة قريبة بالنسبة إلى ما تقدم من مدتهما». وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي عن البردة: «وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم، وأظن أنها فقدت في فتنة التتار، فإنا لله وإنا إليه راجعون» وفي خزانة الأدب للبغدادي عن كعب بن زهير: «فأمنه النبي

صلى الله عليه وسلم

وأجازه بردته الشريفة التي بيعت بالثمن الجزيل، حتى بيعت في أيام المنصور الخليفة بمبلغ أربعين ألف درهم

15 ، وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول

16

وجرى ما جرى والله أعلم بحقيقة الحال». قلت: والذي يؤيد بقاء البردة والقضيب عند الخلفاء إلى آخر مدتهم ببغداد ورود ذكرهما فيما تقدم من مدائح الشعراء إلى زمن الناصر بن المستضيء، وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء عن ابن الساعي أنه حضر مبايعة الخليفة الظاهر وهو ابن الناصر المذكور فرآه بثياب بيض والبردة النبوية على كتفه، وكانت خلافته سنة 622 في أواخر أيام دولتهم ببغداد، ولم يكن بعده غير خليفتين المستنصر والمستعصم، ثم كانت كائنة التتار وانتقلت الخلافة العباسية الصورية إلى مصر، وقد صرح القرماني في موضعين من تاريخه أخبار الدول بمصير البردة والقضيب، فذكر أن هلاكو

17

لما طرق بجيوشه بغداد سنة 656 أشار وزير الخلافة مؤيد الدين العلقمي على الخليفة المستعصم بالخروج إليه ومصالحته، فخرج إليه في جمع من العلماء والأعيان، والبردة النبوية على كتفيه والقضيب بيده، فأخذهما منه هلاكو وجعلهما في طبق من نحاس وأحرقهما وذر رمادهما في دجلة، وقال: ما أحرقتهما استهانة بهما وإنما أحرقتهما تطهيرا لهما. ا.ه. ثم أمر بقتل جميع من خرج إليه فقتلوا، ووضع الخليفة وولده في جوالقين وضربا بالأرازب ومداق الجص حتى ماتا، وفي هذه الكائنة التي لم ينكب الإسلام بمثلها يقول ابن خلدون: ونزل هلاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فاستأمن لنفسه ورجع بالأمان إلى المستعصم وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم، فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان ، فقبض عليه لوقته وقتل جميع من كان معه، ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد ووطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت وذلك سنة ست وخمسين، وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العبث بها أياما، وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين ويقال: إن الذي أحصى ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف

18 . واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف ولا يحصره الضبط والعد، وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعا في دجلة، وكانت شيئا لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم» ا.ه. كلام ابن خلدون. (تنبيه) روى القرماني في أخبار الدول خبر البردة الكعبية وبقائها عند بني العباس إلى أن أحرقها هلاكو مع القضيب كما مر، ثم حكى قول من خالف وزعم أن التي كانت عندهم بردة أيلة لا بردة كعب، وأعقب هذا القول بقوله: «وأظن أنها البردة التي وصلت لسلاطين آل عثمان، فهي اليوم عندهم يتباركون بها ويسقون ماءها لمن به ألم فيبرأ بإذن الله، واتخذها المرحوم السلطان مراد خان تغمده الله بالرحمة والغفران صندوقا من ذهب زنته (...)

19

مثقال فوضعها فيه تعظيما لها». ا.ه. ولا يخفى أن بني العباس لم يكن عندهم غير بردة واحدة أحرقها هلاكو سواء كانت بردة كعب أو بردة أيلة، والذي ظنه المؤلف لا يتجه إلا بتقدير جمعهم بين البردتين وانتقال الأيلية إلى بني عثمان بعد إحراق هلاكو للكعبية، وهو شيء لم يقل به ولم ينقله فيما نقله من الأقوال حتى يصح له بناء ظنه عليه، وسيأتي الكلام على ما كان عند بني عثمان من الآثار في فصل خاص.

هوامش

المنبر والسرير والخاتم والعمامة والسيف

تقدم في مدائح الشعراء للخلفاء العباسيين ذكر آثار نبوية كانت في حيازتهم غير القضيب والبردة، وهي المنبر والسرير والخاتم والعمامة والسيف. وإلى القراء الكرام ما وقفنا عليه وما ظهر لنا فيها:

أما المنبر:

فالثابت المحقق أن منبره

صلى الله عليه وسلم

الذي كان يخطب عليه لم ينقل من مسجده، وإنما كان معاوية (رضي الله عنه) أراد نقله إلى الشام، وكتب بذلك إلى مروان بن الحكم عامله بالمدينة، فلما اقتلعه كثر لغط الناس فخشي الفتنة وزاد فيه درجا ورده، وقال: إنما اقتلعته لأزيد فيه، فبقى في مكانه حتى احترق باحتراق المسجد سنة 654، فالمراد أن بني العباس ورثوه وهو في مكانه لا لأنه نقل إليهم بالعراق كغيره من الآثار التي نقلت إليهم، وقد كان لاحتراق هذا الأثر النبوي وقع أليم في نفوس المسلمين ولاسيما عند ساكني المدينة وزائريها لما فاتهم من لمس رمانته التي كان

صلى الله عليه وسلم

يضع يده المباركة عليها ولمس موضع قدميه الشريفتين.

وأما السرير:

فلم يكن له

صلى الله عليه وسلم

سرير كالذي للملوك يجلس عليه للحكم فيكون من بعده للخلفاء، وإنما كان له سرير ينام عليه قوائمه من ساج بعث به إليه أسعد بن زرارة وفي سيرة ابن سيد الناس أن الناس من بعده كانوا يحملون عليه موتاهم تبركا به. وقال البرهان الحلبي في حاشيته على هذه السيرة

1 : «قوله وكان له سرير ينام عليه، قال السهيلي في أول النصف الثاني من روضه

2 : وكان سريره

صلى الله عليه وسلم

خشبات مشدودة بالليف بيعت في زمن بني أمية فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم. قال ابن قتيبة. ا.ه. فيحتمل أن السرير المذكور هنا غير ما ذكره المؤلف، وذلك لأن المؤلف قال فيه هنا: فكان الناس يحملون عليه موتاهم تبركا. ويحتمل أنه هو، وهو الظاهر، والله أعلم». ا.ه. قلت: وهو منقطع الخبر بعد ذلك في التاريخ، ولم أقف فيه على غير ما ذكرت، فليحقق أمره.

وأما الخاتم:

فإن الذي كان يلبسه

صلى الله عليه وسلم

ويختم به كتبه إلى الملوك ونقش عليه (محمد رسول الله) كان من بعده عند الصديق ثم عند الفاروق (رضي الله عنهما)، فلما كانت خلافة ذي النورين عثمان (رضي الله عنه) سقط من يده في بئر أريس بالمدينة والتمسوه فلم يجدوه فاغتم لذلك غما شديدا وتطير منه واتخذ له خاتما على مثاله نقش عليه «محمد رسول الله» فكان يختم أو يتختم به، ثم اتخذ الخلفاء من بعده خواتيم لكل خاتم نقش يخصه إلى انقراض الخلافة من بغداد على ما أجمع عليه المؤرخون غير أن المحكي في كتب السيرة من اختلاف الروايات في صفة الخاتم حمل ابن سيد الناس على أن يقول في سيرته باحتمال أن تكون خواتم متعددة. قلت: وعلى هذا فيحتمل أن يكون أحدها وصل إلى بني العباس فحفظوه تبركا به وتشرفا، وإن كان لكل خليفة منهم خاتم يختم به، عليه نقش يخصه.

وأما العمامة:

فهي المسماة بالسحاب، وكان

صلى الله عليه وسلم

وهبها لعلي عليه السلام، ثم صارت بعد ذلك لبني العباس، وصرح باسمها البحتري في قوله في المهتدي بالله:

غدا المهتدي بالله والغيث ملحق

بأخلاقه أو داخل في عدادها

إمام إذا أمضى الأمور تتباعت

على سنن من قصدها وسدادها

متى يتعمم بالسحاب تلث على

كفي لها محتاز إرث اسودادها

قال أبو العلاء المعري في عبث الوليد عن هذا البيت: «المعنى أن بني العباس كان عندهم برد النبي وعمامته وأصحاب الأخبار يروون أن النبي

صلى الله عليه وسلم

كان يسمي عمامته السحاب، وكذلك رووا أسماء للآلة التي كان يستعملها، فزعموا أن مقصه كان يسمى «الجامع» وقضيبا كان له يأخذه في يده: الممشوق، وكان له قدح من خشب يسمى النسعة

3

فيما ذكروا، ونحو هذه الأشياء» ا.ه.

وأما السيف:

فالمراد به ذو الفقار

4

وهو سيف كان للعاص ابن منبه السهمي الذي قتل كافرا يوم بدر، فغنمه النبي

صلى الله عليه وسلم

وكان لا يفارقه في حرب من حروبه، وسمي بذلك لحزوز مثل فقرات الظهر كانت في وسطه، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وعلاقته من فضة، وملخص ما ذكره ابن خلكان وابن الأثير عن وصوله إلى بني العباس أن النبي

صلى الله عليه وسلم

كان وهبه لعلي عليه السلام ثم صار لبنيه، وكان مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه لما خرج بالمدينة على أبي جعفر المنصور، فلما رمي بسهم في قتاله مع جند المنصور وأيقن بالموت أعطاه لرجل من التجار كان له عليه أربعمائة دينار، وقال: خذه فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك، فلما ولي جعفر بن سليمان العباسي على المدينة اشتراه منه بأربعمائة دينار، ثم أخذه منه المهدي، ثم صار من بعده للهادي ثم للرشيد، ورآه الأصمعي وهو متقلد به بطوس فقال: يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار؟ قال: فقلت بلى، جعلني الله فداك. قال: فاستل سيفي هذا. فاستللته فرأيت فيه ثماني عشرة فقارة، ويروي أن الرشيد أعطاه ليزيد بن مزيد لما خرج لقتال الوليد بن طريف. ا.ه. وإذا صح هذا فلا ريب في أن الخلفاء استردوه منه أو من ورثته؛ لأنه كان بعد ذلك عند المعتز بن المتوكل وذكره البحتري في قوله من قصيدة يمدحه بها:

وقد ترك العباس عندك وابنه

على فتن مرمى النجم حيث تحيرا

هما ورثاك ذا الفقار وصيرا

إليك القضيب والرداء المحبرا

ثم صار من بعده للمهتدي بالله وفيه يقول البحتري أيضا من قصيدة:

وإن يتقلد ذا الفقار يضف إلى

شجاع قريش في الوغي وجوداها

وفي خبر آخر رواه المقريزي في خططه أن ذا الفقار وصمصامة

5

عمرو بن معدي كرب الزبيدي وسيف الإمام الحسين عليه السلام ودرقة حمزة بن عبد المطلب وسيف جعفر الصادق (رضي الله عنهما) وسيوفا أخرى لبعض الخلفاء الفاطميين كانت بخزانة السلاح الفاطمية بمصر، ثم نهبت وقسمت على الأمراء الذين ثاروا على المستنصر الفاطمي كبني حمدان وشاور وغيرهم. ا.ه. فإن صح أن ذا الفقار كان منها كما ذكر فيحتمل أن يكون وصل إلى الفاطميين بالشراء من بعض تجار العراق بعذر من المهتدي، كما يحتمل أن يكون عاد إلى العباسيين بعد نهب خزانة السلاح الفاطمية. والله سبحانه وتعالى أعلم.

هوامش

الآثار النبوية في مصر

بمصر آثار نبوية مشهورة محفوظة في حجرة خاصة بالمسجد الحسيني بالقاهرة تقصد بالزيارة في أيام معلومة، ولهذه الآثار الشريفة أخبار تتسلسل في التواريخ، وتنتقل بالباحث من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان، حتى تصل به إلى مستقرها المحفوظة به الآن، وأول ما عرف عنها أنها كانت عند بنى إبراهيم ينبع، واستفاض أنها بقيت موروثة عندهم من الواحد إلى الواحد إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، ثم اشتراها في القرن السابع أحد بني حنا

1

الوزراء الأماثل ونقلها إلى مصر وبنى لها رباطا على النيل عرف برباط الآثار، وهو المعروف الآن بجامع أثر النبي، وفي هذا الرباط يقول المقريزي في خططه ما نصه:

رباط الآثار:

هذا الرباط خارج مصر بالقرب من بركة الحبش مطل على النيل ومجاور للبستان المعروف بالمعشوق، قال ابن المتوج: هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ولد الصاحب بهاء الدين علي ابن حنا بجوار بستان المعشوق، ومات رحمه الله قبل تكملته، ووصى أن يكمل من ريع بستان المعشوق فإذا كملت عمارته يوقف عليه، ووصى الفقيه عز الدين بن مسكين فعمر فيه شيئا يسيرا وأدركه الموت إلى رحمة الله تعالى، وشرع الصاحب ناصر الدين محمد ولد الصاحب تاج الدين في تكملته فعمر فيه شيئا جيدا. انتهى. وإنما قيل له رباط الآثار لأن فيه قطعة خشب وحديد يقال إن ذلك من آثار رسول الله

صلى الله عليه وسلم

اشتراها الصاحب تاج الدين المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع، وذكروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلى آخر إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وحملها إلى هذا الرباط وهي به إلى اليوم يتبرك الناس بها ويعتقدون النفع بها، وأدركنا لهذا الرباط بهجة وللناس فيه اجتماعات ولسكانه عدة منافع ممن يتردد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائما، فلما انحسر الماء من تجاهه

2

وحدثت المحن من سنة ست وثماني مائة قل تردد الناس إليه وفيه إلى اليوم بقية، ولما كانت أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد قلاوون قرر فيه درسا للفقهاء الشافعية وجعل له مدرسا وعنده عدة من الطلبة ولهم جار في كل شهر من وقف وقفه عليهم وهو باق أيضا، وفي أيام الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط، وبهذا الرباط خزانة كتب وهو عامر بأهله». ا.ه.

وقد رأينا قبل التعرض لما ذكره غيره من الرباط والآثار أن نأتي على ما لابد منه في هذا البحث من التعريف ببانيه فنقول:

التعريف بباني الرباط

هو سليل بيت الوزارة والسؤدد والوجاهة والعلم الوزير الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الوزير الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا، ولد سنة 640 وسمع من سبط السلفي وحدث وكان له شعر جيد وانتهت إليه رئاسة عصره وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم وشاكلة حسنة وبزة فاخرة وتناه في المطعم والملبس والمسكن، ونال في الدنيا من العز والجاه ما لم ينله جده الصاحب الكبير بهاء الدين بحيث إنه لما تقلد الصاحب فخر الدين ابن الخليلي الوزارة سار من القلعة وعليه التشريف إلى داره وقبل يده وجلس بين يديه ثم انصرف إلى داره، وما زال الصاحب تاج الدين على هذا القدر من العز إلى أن تقلد الوزارة سنة 693 فلم ينجب وتوقفت الأحوال في أيامه فصرف سنة 694 وأعيد إلى الوزارة مرة ثانية فلم ينجح فعزل، وكانت وفاته سنة 707 ودفن في مقابر بني حنا بالقرافة. (وولد والده) الصاحب فخر الدين محمد بن بهاء الدين علي سنة 622 وناب عن والده في الوزارة وولي ديوان الأحباش ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس، وسمع الحديث بالقاهرة وكان له شعر جيد ودرس بمدرسة والده المسماة بالصاحبية البهائية التي كانت بمصر القديمة إلى أن توفي في حياة والده سنة 668 فدرس بها بعده ولده، وتوارث بنو حنا ولاية نظرها وتدريسها إلى أن عطلت وخربت ثم هدمها بعد ذلك الأمير تاج الدين الشوبكي والي القاهرة ومصر سنة 818، ولما دلي الصاحب فخر الدين في لحده قام الإمام محمد بن سعيد البوصيري ناظم البردة وأنشد في الجمع المحتشد بمقبرة بني حنا:

نم هنيئا محمد بن علي

بجميل قدمت بين يديكا

لم تزل عوننا على الدهر حتى

غلبتنا يد المنون عليكما

أنت أحسنت في الحياة إلينا

أحسن الله في الممات إليكا

فبكى الناس. وكان لها محل كبير ممن حضر. (وأما جده) فهو الوزير الصاحب بهاء الدين علي بن محمد ولد بمصر سنة 603 وتقلبت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة واشتهرت كفايته فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري سنة 659 وفوض إليه تدبير المملكة فقام بأعبائها وتصرف في أمورها بحزم وعزم وعفة عن الأموال، حتى إنه لم يكن يقبل من أحد هدية إلا أن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرك بما يصل من أثره، وكان يستعين على ما التزم به من المبرات بالمتاجر، ولما مات الظاهر بيبرس أقره ولده الملك السعيد بركة على ما كان عليه مدة والده، وكانت وفاته سنة 677 قال المقريزي: وزرئ بفقد ولديه الصاحب فخر الدين والصاحب زين الدين فعوضه الله عنهما بأولادهما، فما منهم إلا نجيب رئيس فاضل مذكور.

عود إلى الرباط والآثار

تقدم في عبارة المقريزي تسميته برباط الآثار وهو اسمه المشهور الذي رأيناه مذكورا به في كل ما وقفنا عليه من كتب التاريخ، وسماه ابن دقاق في كتابه الانتصار لواسطة عقد الأمصار بالرباط الصاحبي التاجي نسبة إلى بانيه الصاحب تاج الدين ونقل عبارة ابن المتوج التي نقلها المقريزي عنه ثم بين ما به من الآثار بقوله: «قلت: وهو مسجد الآثار الشريفة اشتراها الصاحب تاج الدين من الشريف (...)

3

بمبلغ مائتين وخمسين ألف درهم وجعلها في خزانة في هذا الرباط وهي قطعة من العنزة

4

وقطعة من القصعة ومرود وملقط ومخصف ووقف على هذا المكان بستان المعشوق». ثم قال بعد ما ذكر ما وقفه الأشرف شعبان على هذا الرباط: «قلت: ذكرت مرة مسجد الآثار عند الشيخ الإمام العالم برهان الدين إبراهيم بن زقاعة الغزي

5

في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة فقال لي: إني استنبطت من القرآن آية في حق الآثار وهي قوله تعالى:

فانظر إلى آثار رحمة الله

وقرئت آثار

6

فأثر رحمة الله هو المطر ومدد النيل منه والمكان مطل على النيل وآثار رحمة الله هي آثار النبي

صلى الله عليه وسلم

بدليل قوله تعالى:

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين

ولا يجتمع الأثر والآثار في سائر الدنيا إلا بمصر خاصة، فهذا أعظم فخر لها».

واستطرد ابن كثير في البداية والنهاية لذكر بعض هذه الآثار في كلامه عما ورد في المكحلة النبوية فقال: «وبلغني أن بالديار المصرية مزارا فيه أشياء كثيرة من آثار النبي

صلى الله عليه وسلم

اعتنى بجمعها بعض الوزراء المتأخرين فمن ذلك مكحلة وميل ومشط وغير ذلك، والله أعلم».

وذكر القلقشندي في صبح الأعشي الرباط والآثار في كلامه على الربط التي بالفسطاط بعبارة مختصرة قال فيها: «وأما الخوانق

7

والربط فلم تعهد بالفسطاط، غير أن الصاحب بهاء الدين بن حنا عمر رباط الآثار الشريفة النبوية بظاهر قبلي الفسطاط واشترى الآثار الشريفة، وهي ميل من نحاس وملقط من حديد وقطعة من العنزة وقطعة من القصعة بجملة مال وأثبتها بالاستفاضة وجعلها بهذا الرباط للزيارة». ا.ه. وقد وهم في قوله بهاء الدين؛ لأن باني الرباط ومشتري الآثار حفيده تاج الدين كما قدمنا وهو ما أجمع عليه المؤرخون. والظاهر أن الذي أوقعه في ذلك ما اشتهر من نسبة الرباط إلى أحد بني حنا، فذهب ظنه وقت كتابة هذه الجملة إلى أكبرهم وأولهم في الشهرة وهو بهاء الدين سهوا منه، وجل من لا يسهو، وقلده في هذا الوهم ابن إياس

8

بقوله في حوادث تولي الظاهر بيبرس على مصر سنة 658 ما نصه: «واستقر بالصاحب بهاء الدين بن حنا وزيرا بالديار المصرية. أقول: والصاحب بهاء الدين بن حنا هذا هو الذي بنى مكان الآثار النبوية المطل على بحر النيل واشترى الآثار الشريفة بجملة كبيرة من المال وأودعها في ذلك المكان الذي أنشأه على بحر النيل وصارت الناس يقصدون ذلك المكان بسبب الزيارة في كل يوم أربعاء» ا.ه. غير أنه أفادنا أن زيارة هذه الآثار كانت في تلك العصور كل يوم أربعاء.

وذكره البرهان الحلبي في حاشيته المسماة نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس، فقال: «وفي آخر مصر مكان على النيل مبنى محكم البنيان وله طاقات مطلة على النيل ومكان ينزل إليه وبركة من ماء النيل ومطهرة بماء النيل، وفيه خزانة من خشب وعليها عدة ستور الواحد فوق الآخر وداخل الخزانة علبة صغيرة من جوز فيها من الآثار الشريفة قطعة من قصعة وقطعة من العنزة وميل من نحاس أصفر ومخصف صغير وملقط صغير لإخراج الشوك من الرجل أو غيرها، وقد زرناه غير مرة، وهو مكان مليح في غاية النزاهة وما بعده إلا بساتين، وقد زرناه مرة فرآني الإمام جلال الدين ابن خطيب داريا الدمشقي بسوق كتب القاهرة، فسألني: أين كنتم؟ قلت: زرنا الآثار وكان معنا بعض الأدباء. فقال: هل نظم أحد في ذلك شيئا؟ فقلت: لا. فقال: أنا زرته من أيام وكتبت فيه بيتين، فأنشدني ذلك، وهما:

يا عين إن بعد الحبيب وداره

ونأت مرابعه وشط مزاره

فلك الهنا فلقد ظفرت بطائل

إن لم تريه فهذه آثاره

عنها انتهى كلام البرهان الحلبي ونقلناه من حاشيته المذكورة، وقد نقله أيضا العلامة المقري في فتح المتعال باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

ولما وصل ابن بطوطة الرحالة الشهير إلى مصر في أوائل القرن الثامن وأراد الخروج من القاهرة إلى الصعيد للحج مر بهذا الرباط ونزل به ليلة ووصفه في رحلته بقوله: «ثم كان سفري من مصر عن طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف، فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حنا بدير الطين

9

وهو رباط عظيم بناه على مفاخر عظيمة وآثار كريمة أودعها فيه وهي قطعة من قصعة رسول الله

صلى الله عليه وسلم

والميل الذي كان يكتحل به والدرفش

10

وهو الإشفي الذي كان يخصف به نعله، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده (رضي الله عنه)، ويقال: إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم، وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة. نفعه الله تعالى بقصده المبارك» ا.ه.

فائدة

إنما خرج ابن بطوطة إلى الصعيد لأنه أراد أن يسلك في حجه طريق صحراء عيذاب، كما سلكها قبله ابن جبير في القرن السادس، فلم يتيسر له الحج منها كما تيسر لابن جبير لفتنة كانت قائمة بعيذاب منعته من ركوب البحر منها إلى جدة، فعاد أدراجه إلى القاهرة، وقد أقام حجاج مصر والمغرب زيادة عن مائتي سنة يسافرون إلى الحجاز من هذه الطريق فكانوا يركبون السفن في النيل من ساحل الفسطاط إلى قوص، ثم يعبرون هذه الصحراء على الإبل إلى عيذاب (بكسر العين المهملة أو فتحها) وهي بلدة على بحر القلزم المسمى الآن بالبحر الأحمر، ثم يركبون منها إلى جدة سفنا تسمى الجلاب وواحدتها جلبة، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة كانوا يردون مصر بمتاجرهم من هذه الطريق، ولم تزل مسلكا للحجاج في ذهابهم وإيابهم من سنة بضع وخمسين وأربعمائة إلى سنة بضع وستين وستمائة، وذلك منذ الشدة العظيمة زمن المستنصر الفاطمي وانقطاع الحج في البر إلى أن كسا الظاهر بيبرس الكعبة وأخرج قافلة الحاج في البر من الطريق القديمة المسلوكة إلى أيلة وغيرها، فقل سلوك الحجاج لهذه الصحراء واستمرت المتاجر تحمل فيها حتى بطل ذلك بعد سنة 760، وكان أمر هذه الجلاب غريبا لأن ألواحها لم تكن تضم بالمسامير كما في سائر السفن، بل كانت تخاط بأمراس تفتل من قشر جوز الهند المسمى بالنرجيل وتعمل لها قلوع من حصر منسوجة من خوص شجر المقل وهو الدوم، وقد فصلنا الكلام عليها في رسالة لنا في السفن الإسلامية وأسمائها، أعاننا الله على إتمامها.

عود إلى رباط الآثار

وذكره السيوطي في حسن المحاضرة بما نصه: «رباط الآثار بالقرب من بركة الحبش عمره الصاحب تاج الدين ابن الصاحب فخر الدين ابن الصاحب بهاء الدين ابن حنا وفيه قطعة خشب وحديد وأشياء أخر من آثار رسول الله

صلى الله عليه وسلم

اشتراها الصاحب المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع، ذكروا أنها لم تزل موروثة عندهم من واحد إلى واحد إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وحملها إلى هذا الرباط، وهي به إلى اليوم يتبرك بها». انتهى.

ولم يزل هذا الرباط عامرا مأهولا بالمصلين والزوار، حتى تبدلت الدول واختلت الأحوال، فنقلت منه الآثار الشريفة خوفا عليها من السراق، وتغيرت معالمه بتجديد بنائه، والذي وقفنا عليه من ذلك، تجديده زمن إبراهيم باشا الدفتردار المتولي على مصر سنة 1071، كما في تراجم الصواعق في واقعة الصناجق

11

ففيه أنه لما عزل وأنزلوه من القلعة صلى الجمعة يوم 12 شوال سنة 1073 في مسجد أثر النبي الذي بمصر القديمة، وكان وسعه وجدده وبنى تحته رصيفا لدفع ماء النيل عن بنائه، ورتب له مائة عثماني، وأرصد له طينا، وعين به قراء ووظائف وحراسا قاطنين به وشرط النظر لمن يلي أغاوية اليكيجرية بمصر. وذكر الجبرتي في حوادث رجب من سنة 1224 ما نصه: «وفيه تقيد الخواجة محمود حسن بزرجان باشا بعمارة القصر والمسجد الذي يعرف بالآثار النبوية، فعمرها على وضعها القديم، وقد كان آل إلى الخراب» ا.ه. قلت: والراجح أنه البناء الباقي إلى اليوم، ولم يزل هذا المسجد مقام الشعائر والصلوات مقصودا بالزيارة على قلة، لحجر فيه يزعمون أن عليه أثر قدمه

صلى الله عليه وسلم ، وليس بصحيح، وسيأتي كلامنا عليه وعلى ما يماثله من الأحجار في تتمة ملحقة بهذا الفصل، وأما القصر الذي ذكره الجبرتي فقد زال، وبجوار المسجد الآن بعض أطلال ماثلة لعلها من بقاياه.

نقل الآثار الشريفة إلى قبة الغوري

تولى السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري على المملكة المصرية سنة 906 وقتل بمرج دابق شمالي حلب في قتاله مع السلطان سليم العثماني سنة 922، وهو الذي بنى المدرسة المعروفة الآن بجامع الغوري عن يمين السالك بشارع الغورية إلى باب زويلة، وبنى أمامها عن يسار السالك القبة المنسوبة إليه ليدفن بها فلم يقدر له ذلك، وفقدت جثته تحت سنابك الخيل فدفن في الحظيرة المكشوفة لهذه القبة قريبه السلطان الأشرف طومان باي آخر ملوك الجراكسة بمصر الذي تولى بعده وقتله السلطان سليم سنة 923، ودفن بها أيضا على ما في ابن إياس خوندخان تكن مستولدة السلطان الغوري المتوفاة سنة 922 مع أولادها، ونقل علي مبارك باشا في خططه عن النزهة السنية في أخبار الخلفاء والملوك المصرية لحسن بن حسين المعروف بابن الطولوني، أن السلطان الغوري بنى هذه القبة للآثار النبوية وللمصحف العثماني الذي أضافه إليها، ونص عبارته:

وقد جدد مولانا السلطان عز نصره للمصحف العثماني الذي بمصر المحروسة بخط مشهد الحسين (رضي الله عنه) جلدا بعد أن آل جلده الواقي له إلى التلف والعدم ولمكثه من زمن سيدنا عثمان إلى يومنا هذا، فألهم الله تعالى مولانا المقام الشريف خلد الله ملكه بطلبه إلى حضرته بالقلعة الشريفة، ورسم بعمل هذا الجلد المعظم المتناهي في عمله لاكتساب أجره وثوابه؛ وأن يعمل له وقاية من الخشب المنقوش بالذهب والفضة وأنواع التحسين، وبرز أمره الشريف بعمارة قبة معظمة تجاه المدرسة الشريفة التي أنشأها بخط الشرابيشيين بين سوق الجملون وسوق الخشيبة

12

بمباشرة الجناب العالي الأمير تاني بك الخازندار وناظر الحسبة الشريفة وما معها، وأن تكون القبة المعظمة المأمور بعملها إن شاء الله تعالى مناظرة في الحسن والإتقان لما سبق، كما رتبها بنظره الشريف ليكون فيها ما خصها الله تعالى به من تعظيمها بالمصحف الشريف العثماني والآثار الشريفة النبوية وغير ذلك من مصاحف وربعات. ا.ه.

قلت: المصحف المذكور المنسوب لذي النورين عثمان (رضي الله عنه) هو الذي كان بمدرسة القاضي الفاضل التي كانت بدرب ملوخية

13

المعروف الآن بدرب القزازين قرب المشهد الحسيني، وقد زالت هذه المدرسة وعفا أثرها، وكانت بها خزانة كتب عديمة النظير تجمع على ما قيل مائة ألف مجلد، ذكر المقريزي أنها تفرقت ولم يبق منها غير هذا المصحف الذي تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان، وقد استطرد العلامة القسطلاني في المناقب التي ألفها للإمام الشاطبي ناظم الشاطبية لذكر هذا المصحف في كلامه على تولي هذا الإمام الإقراء بهذه المدرسة، فنقل عبارة المقريزي في وصفه، ثم ذكر نقله إلى قبة الغوري مع الآثار النبوية، بعد أن ذكر تشتت كتب هذه الخزانة، فقال: «ولم يبق منها إلا المصحف الكبير المكتوب بالخط الأول الكوفي المعروف بمصحف عثمان بن عفان، ويقال: إن القاضي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار، على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وكان في خزانة مفردة بجانب المحراب من غربيه، وعليه جلالة ومهابة، ولم يزل بها حتى خرب ما حول المدرسة المذكورة، وآل أمرها إلى التلاشي، فنقله السلطان الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري أجرى الله تعالى على يده الخيرات، وختم أعماله بالصالحات، كما نقل الآثار النبوية لاستيلاء السراق على القاطنين بمحلها، وعدم الأمن وخوف الضياع، إلى القبة التي أنشأها تجاه مدرسته الشريفة بقرب الأقباعيين

14

داخل باب زويلة والخرق

15

من القاهرة المعزية». انتهى.

أما كون هذه الآثار التي ذكر ابن الطولوني والقسطلاني نقلها إلى القبة هي عين الآثار التي كانت بالرباط، فقد صرح به الشيخ شمس الدين محمد بن أبي السرور البكري في الكواكب السائرة في أخبار مصر والقاهرة، فقال في الباب الذي عقده لتعداد ما اختصت به مصر وأهلها من الفضائل ما نصه: «الحادي عشر اختصاصهم بوضع الآثار الشريفة النبوية بأرضهم وبلادهم، وهي قطعة من العنزة ومرود ومخصف وقطعة من القصعة، وضم إليها أشياء من آثار الأولياء. قيل: إن الصاحب تاج الدين بن حنا اشترى هذه الآثار الشريفة بستين ألف درهم، وجعلها في مكان بالمعشوق بالروضة

16

على شاطئ النيل معروف، وقد نقل ذلك السلطان الغوري إلى مدفنه بالقاهرة. والله أعلم».

فيعلم من هذا أن الآثار الشريفة نقلت من رباطها إلى هذه القبة في أيام الغوري أي في أوائل القرن العاشر، غير أننا لم نقف فيما بأيدينا من النصوص على تعيين السنة التي نقلت فيها، ويغلب على الظن أنها مذكورة في المدة الضائعة من تاريخ ابن إياس المطبوع بمصر، وهي من أثناء سنة 906، إلى آخر سنة 921، أما قول ابن إياس في حوادث جمادى الثانية من سنة 923، عن السلطان سليم: «وفيه أشيع أن السلطان سليم شاه نزل في مركب وتوجه نحو الآثار الشريفة، فقام عليه ريح عاصف فانقلبت به المركب في البحر فكاد أن يغرق وأغمي عليه وما بقي من موته شيء، وقيل: إنه كان سكران لا يعي، فكان في أجله فسحة حتى عاش إلى اليوم». فلا يؤخذ منه أن الآثار كانت باقية بالرباط إلى هذا العهد، بعد ما ثبت نقلها قبل ذلك زمن الغوري، وإنما مراده أنه ذهب للتنزه إلى الجهة المعروفة بذلك؛ لأن المسجد بقي معروفا بالآثار بعد نقلها منه.

نقلها إلى المسجد الحسيني

ظلت هذه الآثار الشريفة محفوظة بقبة الغوري مدة ثلاثة قرون ونيف إلى سنة 1275ه، ولا تخلو التواريخ من ذكرها في هذه المرة خلال الحوادث، فمما وقفنا عليه من ذلك قول ابن إياس في حوادث سنة 926، حينما توقف النيل عن الوفاء في ولاية ملك الأمراء خير بك على مصر. «فلما كان يوم الأحد سادس رمضان نزل ملك الأمراء وتوجه إلى المقياس وكان قد مضى من مسرى ستة وعشرون يوما، فأقام ملك الأمراء في المقياس ذلك اليوم، وفرقوا أجزاء الربعة على الحاضرين من الفقهاء، فقرءوا فيها عشرين دورا، ثم قرءوا صحيح البخاري هناك، وأشيع أن ملك الأمراء فرق هناك على الفقهاء ما لا له صورة وأحضر الأطفال الأيتام وفرق عليهم مبلغا له صورة وأحضر من الآثار الشريفة القميص من المدرسة الغورية

17

ووضعه في فسقية المقياس وغسلوه في الماء الذي بها، وكثر هناك الضجيج والبكاء والتضرع إلى الله تعالى بالزيادة».

وذكر الجبرتي في حوادث ربيع الأول من سنة 1203 ما نصه: «وفي عاشره أخبر بعض الناس قاضي العسكر أن بمدفن السلطان الغوري بداخل خزانة في القبة آثار النبي

صلى الله عليه وسلم ، وهي قطعة من قميصه وقطعة عصا وميل، فأحضر مباشر الوقف وطلب منه إحضار تلك الآثار وعمل لها صندوقا ووضعها في داخل بقجة وضمخها بالطيب ووضعها على كرسي ورفعها على رأس بعض الأتباع وركب القاضي والنائب وصحبته بعض المتعميين مشاة بين يديه يجهرون بالصلاة على النبي

صلى الله عليه وسلم

حتى وصلوا بها إلى المدفن ووضعوها في داخل الصندوق ورفعوها في مكانها بالخزانة».

ثم رئي نقلها من هذه القبة فنقلت منها سنة 1275ه، ذكر عصرينا الفاضل السيد محمود الببلاوي شيخ المسجد الحسيني والمتولي الآن شيخا على المسجد الزينبي في (التاريخ الحسيني) أنه سمع من شيوخ ثقات كبراء أنها نقلت من القبة إلى المسجد الزينبي، ثم نقلت بموكب حافل إلى خزانة الأمتعة بالقلعة، ثم نقلت منها سنة 1304ه إلى ديوان الأوقاف، وفي سنة 1305ه نقلت إلى قصر عابدين مقر الخديو، ومنه نقلت في السنة المذكورة إلى المسجد الحسيني.

ولما عزم الخديو محمد توفيق باشا على نقلها تلك السنة أمر أن تتخذ لها خزانة بالحافظ الشرقي في المسجد الحسيني، ثم استجلبها من ديوان الأوقاف إلى قصر عابدين، وأمر أن تحفظ في شقق من الديباج الأخضر مطرزة بسلوك الفضة المذهبة، قيل: إن زوجته الأميرة المعظمة أمينة بنت الأمير إلهامي باشا ابن والي مصر عباس باشا الكبير، تولت تطريزها بيدها تعظيما وإجلالا لتلك الآثار، ثم احتفل بنقلها من القصر إلى المسجد يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الثانية من السنة المذكورة في موكب فخم لم تشهد مصر مثله، مشى فيه نحو ثلاثين ألف نسمة على أقدامهم، واحتشد لرؤيته على جانبي الطريق نحو مائتي ألف وكان الخديو دعا في ذلك اليوم العلماء والأعيان إلى القصر للمسير في الموكب، وأمر أن يسير فيه جميع مستخدمي الدواوين، وكانت الآثار الشريفة ملفوفة في خمس شقق من الديباج مرفوعة على أسرة في بهو الاستقبال الكبير وحولها مجامر البخور، فلما تم توافد المدعوين استدعى الخديو إلى مجلسه قاضي مصر والشيخ الأكبر محمدا الأنبابي شيخ الأزهر والشيخ محمدا البناء المفتي ومن كبار العلماء الشيخ محمدا المهدي العباسي، وكان وقتئذ معزولا عن الأزهر والإفتاء، ومن أبناء البيوت القديمة السيد عبد الباقي البكري نقيب الأشراف وشيخ الصوفية، والسيد عبد الخالق السادات سليل بني وفا، ثم حمل الخديو على يديه إحدى هذه الودائع الكريمة، وأشار إلى أخيه الأمير حسين كامل باشا، والغازي أحمد مختار باشا المندوب السلطاني العالي، ومحمد ثابت باشا رئيس الديوان الخديوي، ومحمد رءوف باشا ناظر الأوقاف، بحمل الأربع الباقية، فحملوها وخرجوا جميعا إلى سلم القصر المشرف على ميدان عابدين، فتقدم السيد عبد الباقي البكري وتسلم الوديعة التي يحملها الخديو وانتظم مع الحاملين لبقية الآثار، وكان خروج الموكب من القصر في ضحى ذلك اليوم، ووصل إلى المسجد الحسيني بالسير الرويد في ثلاث ساعات، وكان مسيره من عابدين في شارع عبد العزيز إلى ميدان العتبة الخضراء فشارع محمد علي إلى ميدان باب الخلق فشارع تحت الربع إلى باب زويلة فشارع السكرية فالعقادين فالغورية فالسكة الجديدة إلى أن وصل إلى المسجد الحسيني، وكان في طليعته خمسة من فرسان الشرطة يتلوهم جميع أرباب الأشائر الذين بالقاهرة حاملين أعلامهم، ثم كوكبة من فرسان الجيش فكتيبة من مشاته فالأعيان والوجوه فالعلماء وطلبة العلم فعشرون وصيفا يحملون مجامر البخور وقماقم العطر، ومن بعدهم حملة الآثار في صف، يتوسطهم السيد البكري، وعن يمينه ويساره الغازي مختار باشا وكان لابسا حلته العسكرية، والأمير حسين باشا أخو الخديو، وفي الطرفين محمد ثابت باشا ورءوف باشا، ثم يتلوهم الوزراء - وكان يقال لهم في ذلك الحين: النظار - ثم مستخدمو الدواوين فشرذمة من رجال الشرطة، ولما وصلوا بالآثار إلى المسجد أودعوها في خزانتها وأودعوا معها المصحف العثماني، وتسلم مفاتيحها ناظر الأوقاف، ثم تليت آيات من الكتاب العزيز، ووقف الشيخ سليم عمر القلعاوي شيخ مسجد القلعة فخطب خطبة نوه فيها بالآثار ودعا للسلطان وللخديو.

ثم لما تولى على مصر الخديو عباس حلمي باشا سنة 1309ه، رأى أن ينشئ للآثار حجرة خاصة فتم إنشاؤها سنة 1311ه وراء الحائط الشرقي للمسجد الحسيني والحائط الجنوبي لقبة المشهد، وجعل لها بابان واحد إلى المسجد وواحد إلى القبة، وجعلت خزانة الآثار بحائطها الجنوبي، وهي باقية فيها إلى اليوم تقصد بالزيارة في أيام معلومة.

عدد هذه الآثار وصفتها

نرى فيما سردناه من الروايات اختلافا في عدد هذه الآثار بالزيادة والنقصان، وسبب ذلك أن من الراوين من لم يرها، فذكر ما نقل له عنها بالسماع، ومنهم من تساهل في استقصاء عددها واكتفى بذكر بعضها، ولقد أحسن من احتاط منهم فأعقب عبارته بقوله: (وغير ذلك) والذي يتحصل من مجموع هذه الروايات أنها كانت قطعة من العنزة، أي: الحربة، وقطعة من القصعة، ومرود، وعبر عنه بعضهم بالميل، وقال بعضهم من نحاس وبعضهم من نحاس أصفر، وملقط، وقال عنه بعضهم من حديد، وقيده بعضهم بكونه صغيرا لإخراج الشوك من الرجل أو غيرها، ومخصف، وقيده بعضهم بكونه صغيرا، وعبر عنه بعضهم بالإشفي الذي كان

صلى الله عليه وسلم

يخصف به نعله، ومكحلة، ومشط، وانفرد بذكرهما ابن كثير، وقطعة عصا وانفرد بذكرها الجبرتي، وقطعة من القميص ولم يذكرها إلا ابن إياس والجبرتي، ومن غير الآثار النبوية المصحف المنسوب لأمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم أضاف إليها السلطان الغوري المصحف العثماني الذي كان بمدرسة القاضي الفاضل وهما باقيان إلى اليوم وفي نسبتهما إليهما نظر

18 .

ولم يبق من الآثار النبوية اليوم إلا المكحلة والمرود والقطعة من القميص والقطعة من القضيب وهي التي عبر عنها الجبرتي بقطعة عصا، وضم إليها شعرتان من اللحية النبوية الشريفة

19

محفوظتان في زجاجة، وقد حفظت جميعها في أربعة صناديق صغيرة من الفضة ملفوفة في قطع من الديباج الأخضر المطرز: المكحلة والمرود في صندوق، والشعرتان في صندوق، والقميص في صندوق، والقضيب في صندوق، وفقدت بقية الآثار التي كانت معها، وهي القطعة من العنزة، والقطعة من القصعة، والمخصف، والملقط، والمشط، ولا يعلم في أي زمان فقدت.

تنبيه

قال ابن إياس في حوادث المحرم من سنة 889ه: «وفيه توفي الشيخ ولي الدين أحمد شيخ الآثار النبوية وقاضي ثغر دمياط وكان دينا خيرا حسن السيرة لا بأس به» ا.ه. وهي عبارة مبهمة قد يفهم منها أنها آثار نبوية أخرى بدمياط كانت في نظر قاضيها، وقد تبين لنا بعد بحث طويل استوعبنا فيه تراجم الأحمدين بالضوء اللامع للسخاوي أن المراد الآثار المعروفة التي بالقاهرة، وأن الشيخ ولي الدين المذكور كان شيخا عليها ثم نقل قاضيا لدمياط وتوفي بها، وملخص ما جاء عنه في هذا الكتاب أنه الشيخ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن محمد بن عمر بن محمد بن إبراهيم البارنباري الشافعي سبط داود بن عثمان السبتي، ولد بمصر سنة 828، واشتغل على البهاء بن القطان والشهاب بن مبارك شاه والبرهان المتبولي وغيرهم، وكتب الإملاء عن الحافظ بن حجر، وسمع الحديث على جماعة منهم عمه النور علي والبدر النسابة وهاجر القدسية، وناب في القضاء عن المناوي، واستقر به العز الكناني سنة 870 شيخا على الآثار، ثم استقر به الزين زكريا في قضاء دمياط بعد الصلاح بن كميل، وحمد في ذلك كله لعقله ومداراته وخبرته وسياسته مع فضيلة وتواضع، وكتب على مختصر أبي شجاع معلولا ومختصرا، وشرع في شرح على المنهاج، ومات وهو بدمياط ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم سنة 889، ودفن بتربة تجاه فتح الأسمر. ا.ه. قلنا: وقول السخاوي فتح الأسمر جرى فيه على المشهور عند العامة، والصواب أنه العارف بالله فاتح بن عثمان الأسمر التكروري القادم من مراكش إلى دمياط، والمتوفى بها سنة 695 ترجمه المقريزي في خططه في كلامه على دمياط ترجمة حافلة بين فيها وهم العامة في اسمه وذكر له مناقب جليلة في الزهد والورع وسلوك طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

هوامش

آثار القدم الشريفة على الأحجار

قلنا في كلامنا على رباط الآثار المسمى بعد ذلك بجامع أثر النبي إن به حجرا تزعم العامة أن عليه أثر القدم النبوية الشريفة وليس بصحيح، ووعدنا بمعالجة البحث فيه وفيما يماثله من الأحجار في هذه التتمة فنقول:

المعروف الآن من هذه الأحجار سبعة: أربعة منها بمصر، وواحد بقبة الصخرة ببيت المقدس، وواحد بالقسطنطينية، وواحد بالطائف، وهي حجارة سوداء إلى الزرقة في الغالب عليها آثار أقدام متباينة في الصورة والقدر لا يشبه الواحد منها الآخر، وقد ألف العلامة أحمد بن محمد الوفائي الشافعي المعروف بابن العجمي المتوفى سنة 1086 رسالة سماها: «تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الأخبار» بين فيها عدم صحة هذه الأحجار، وأن لا سند لما ورد فيها، ونقل عن الإمام ابن تيمية أنها من اختراع الجهال وأن ما يروى من حديث تأثير قدمه

صلى الله عليه وسلم

في الصخر إذا وطئ عليه من الكذب المختلق، وفي ج1 ص260 من مجلة «الهداية الإسلامية» نبذة في ذلك لأستاذنا العلامة مديرها لخصها من هذه الرسالة فلتراجع. وسنورد في آخر هذه التتمة خلاصة نذكر فيها من تكلم على هذه الأحجار من العلماء الأعلام نفيا وإثباتا بعد أن نستوفي البحث فيها من الوجهة التاريخية مبتدئين بما بمصر منها على ما يأتي:

الأول: حجر أثر النبي

وهو حجر ضارب إلى الحمرة عليه أثر قدمين، محفوظ في حجرة صغيرة مطلة على النيل وملاصقة للحائط الغربي لمسجد أثر النبي، وعلى هذه الحجرة قبة وفي حائطها الجنوبي محرابان؛ أحدهما لا شيء به، والذي في غربيه به صفة ألصق الحجر عليها وجعل على وجه هذا المحراب رخام منقوش كتب فيه بالنقر سطران بالتركية يفيدان أن إبراهيم باشا مد الله في عمره جدد هذا المقام على رسم القدم، وقد تقدم في كلامنا على رباط الآثار أن إبراهيم باشا الدفتردار المتولي على مصر سنة 1071 جدده ووسعه وبنى تحته رصيفا وأرصد له أرضا وعين به القراء والحراس، ثم نقلنا عن الجبرتي خبر تجديد آخر فيه قام به الخواجة

1

محمود حسن بزرجان باشا سنة 1224 وقلنا: إنه البناء الباقي إلى اليوم على الراجح والذي يظهر أن التجديد الأخير لم يشمل قبة الأثر بدليل هذه الكتابة الباقية على المحراب، إلا أن تكون هذه الرخامة أعيدت إلى مكانها بعد التجديد إبقاء لاسم إبراهيم باشا وتاريخ وضع هذا الحجر بهذا المكان مجهول، فلا يغترن الناظر في الخطط الجديدة التوفيقية لعلي مبارك باشا، بما جاء عنه في كلامه عن قرية (أثر النبي) وزعمه أن الظاهر بيبرس هو الباني للمسجد وللقبة على هذا الأثر، فقد بينا وهمه هذا فيما تقدم، وأن المسجد من بناء الصاحب تاج الدين ابن حنا، وكان يعرف برباط الآثار، ثم تغيرت معالمه مع الزمن بما حدث فيه من التجديد، كما تغير اسمه بجامع أثر النبي، والراجح في هذا الحجر أنه لم يوضع بهذا المسجد إلا في القرون الأخيرة ؛ إذ لو كان من زمن ابن حنا أو ما قرب منه، ما أغفل ذكره مؤرخو تلك العصور، كما لم يغفلوا ذكر ما كان هنا من الآثار، ولم نجد له ذكرا فيما اطلعنا عليه من الرحل إلا في «الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز» للعلامة عبد الغني النابلسي، وهي في وصف رحلته إلى هذه البقاع الثلاث في أوائل القرن الثاني عشر، وقد زاره باعتقاد وحسن نية، كما فعل بحجر قايتباي، وكانت زيارته له بعد زيارته لمقياس النيل بالروضة، فقال عنه ما نصه: «ثم قمنا من ذلك المكان، وركبنا وسرنا مع الجماعة بالسرور والأمان، إلى أن وصلنا إلى المسجد الذي فيه قدم النبي

صلى الله عليه وسلم ، فدخلنا إليه وصلينا صلاة الظهر بالجماعة، ورأينا ذلك المسجد فدخلنا إلى قبة لطيفة، وبها البهجة والجلال والهيبة لطيفة، وهناك أثر قدم النبي

صلى الله عليه وسلم

في حجر شريف، مرتفع في طاق عال منيف، في الحائط القبلي وعليه الماورد

2

والستر المسبول، وأنواع القبول، وقد عقدت على ذلك المكان قبة سامية البناء، جالبة الهناء، فتبركنا به وحصل لنا كمال الصفاء، وغاية الشوق والوفاء». ثم أنشد فيه لنفسه:

طه الرسول به الفؤاد مولع

أكرم بممشاه المؤثر في الحجر

إن فات عيني أن تراه فإنها

قنعت هناك بما تراه من الأثر

وأنشد فيه أيضا قوله:

قدم النبي بمصر جئنا نحوه

متبركين بنوره الفياض

تعلو عليه من الجلالة قبة

أنوارها كالبرق في الإيماض

وعليه أسرار المهابة والبها

يهدي القلوب لذكر عهد ماض

حصلت به كل السعادة والمنى

للزائرين وسائر الأغراض

أثر شريف قد بدا في صخرة

من مسها يشفي من الأمراض

انتهى. وبقي هذا المسجد معروفا بمسجد الآثار بعد نقل الآثار النبوية منه إلى قبة الغوري في أوائل القرن العاشر، ثم عرف بجامع أثر النبي، وهي تسمية لم نرها في التاريخ قبل القرن الحادي عشر، والغالب أنه سمي بذلك بعد وضع هذا الحجر فيه، وقد أطلق هذا الاسم أيضا على القرية الملاصقة له، ثم على الشارع الموصل إليه من مصر القديمة الذي أحدث في هذا العصر ممتدا على شاطئ النيل.

الثاني: حجر قايتباي

وهو حجر أسود به أثر قدمين موضوع بجوار قبر السلطان الملك الأشرف أبي النصر قايتباي المحمودي المتوفى في 17 ذي القعدة سنة 901ه، وكان أعد هذا القبر لنفسه في حجرة واسعة ذات قبة شاهقة ملاصقة لمسجده الذي بناه بالصحراء المعروفة الآن بقرافة المجاورين

3 ، ويرى الزائر في ركن من هذه الحجرة قبر ولده السلطان الملك الناصر أبي السعادات محمد، المتولي بعده على المملكة المصرية، والمتوفى مقتولا في 15 ربيع الأول سنة 904ه، وبجواره حجر آخر أسود عليه أثر واحد يزعمون أنه أثر قدم الخليل عليه السلام، والشائع فيهما عند السدنة وسكان تلك الجهة أن السلطان استجلبهما من الحجاز ليوضعا بعد موته بجوار قبره تبركا بهما، وهو شيء لم نره مسطورا في تاريخ

4 ، وإنما يذكره بعض أصحاب الرحلات على ما سمعوه من الأفواه، وذكره أيضا العلامة شهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض بما نصه: «قيل: إن السلطان قايتباي اشتراه بعشرين ألف دينار وأوصى بجعله عند قبره وهو موجود إلى الآن». قلنا: وإذا لم يصح شراء السلطان لهذين الحجرين أو أحدهما، فلا يبعد أن يكونا من الأحجار التي قيل إنها أحضرت من خيبر لشمس الدين ابن الزمن التاجر الشهير وجعلها بمدرسته التي كان شرع في إنشائها بشاطئ بولاق، وكان يقيم أحيانا بمكة للإشراف على أبنية الأشرف قايتباي بها ثم توفي بها سنة 897، فيحتمل أنه أحضرها معه من الحجاز، ثم اختار السلطان منها هذين الحجرين فنقلهما بعد موته من مدرسته، والله أعلم. وسيأتي الكلام على هذه المدرسة وما كان بها من الآثار في هذا الفصل وفي فصل الشعرات الشريفة.

وقد زار المقري وأبو سالم العياشي هذا الأثر في القرن الحادي عشر وأبو العباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي في أوائل القرن الثاني عشر، وأبو العباس أحمد الفاسي في أوائل الثالث عشر، فذكروا عدم ثبوت صحته، وأنه يزار بحسن النية فقط، وزاره في أوائل القرن الثاني عشر الشيخ عبد الغني النابلسي، ولكنه لم يعتمد فيه إلا على ما سمعه من الأفواه، وقد ذكره مرتين في رحلته «الحقيقة والحجاز» إحداهما بإسهاب في زيارته الأولى له، والثانية باختصار في زيارته الثانية عند خروجه من القاهرة للحج، فقال في الأولى: «ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى جامع السلطان قايتباي، وهو مكان معمور، وبأنواع الخير مغمور، فدخلنا إليه وزرنا قبر السلطان، وعليه قبة عظيمة، ذات جدران محكمة جسيمة، فوقفنا وقرأنا الفاتحة، ودعونا الله تعالى، وعند رأس القبر قدم النبي

صلى الله عليه وسلم

في صخرة موضوعة على كرسي، وعلى تلك الصخرة قبة لطيفة من خالص الفضة مطلية بالذهب والكتابة بالذهب حولها بالخط الحسن، وللقبة باب، ففتح لنا وزرنا القدم الشريفة، وقبلناها وتبركنا بها، وعند الجدار الشمالي قبر زوجة

5

السلطان قايتباي، وعلى قبرها قدم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضا في صخرة، وعلى تلك الصخرة قبة من خشب فزرناها وتبركنا بها وقرأنا الفاتحة ودعونا الله تعالى، وذكروا لنا أن السلطان سليما من بني عثمان عليه الرحمة والرضوان لما دخل مصر المحروسة زار القدم المذكورة قدم النبي

صلى الله عليه وسلم

وتبرك بها

6

ثم بعد رجوعه إلى بلاد الروم، أرسل جماعة من الناس إلى مصر، وأخذ القدم النبوية المحمدية فحملت الصخرة إليه لأجل التبرك وحصول الخير بها في البلاد الرومية، فلما وصل ذلك إلى بلاد الروم سلطان بني عثمان، رأى في منامه السلطان قايتباي، وأمره أن يرد القدم إلى مكانها، وقال له: أنا أخذتها بإذن النبي

صلى الله عليه وسلم

من المدينة، فلما أفاق من منامه أرسلها إلى مكانها وأرسل معها أربعة أعلام مكتوبة بالذهب، وهي إلى الآن موجودة في ذلك المكان. ا.ه. قلنا: الذي نسبه إلى السلطان سليم لم يقله أحد من المؤرخين، وإنما نقله كما ذكروه له، وهو من أوهام السدنة وخلطهم في المسائل التاريخية، والمعروف أن الذي نقل هذا الحجر إلى القسطنطينية هو السلطان أحمد بن محمد المعروف عند العثمانيين بأحمد الأول المتولي سنة 1012 والمتوفى سنة 1026، وهو الذي جعل عليه القبة الفضة على ما ذكره العلامة أحمد المقري في فتح المتعال في مدح النعال، فقد سرد في خاتمة هذا الكتاب مسائل تعرض في إحداها لهذا الحجر، وأورد أبياتا سقيمة كثيرة الضرورات رآها مكتوبة على الفضة التي جعلها هذا السلطان على الحجر، وهذا نص ما قال: «ومنها أن كثيرا من مادحيه

صلى الله عليه وسلم

صرحوا بأنه كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه، وإذا مشى على الرمل لا يؤثر فيه

7

حتى إنه اشتهر عند الناس قصد بعض الحجارة التي فيها شبه أثر القدم النبوية فيما يقال للتبرك بها، خصوصا ما وضع منها في المواضع المقصودة للزيارة، وقد رأيت بمصر المحروسة بتربة السلطان المرحوم أبي النصر قايتباي المحمودي رحمه الله بالصحراء حجرا فيه أثر قدم يقال: إنه أثر القدم النبوية، والناس يزورونه وقد رأوا له بركات، وقد كان الخنكار

8

المرحوم سلطان الروم خادم الحرمين الشريفين مولانا السلطان أحمد ابن مولانا السلطان محمد ابن مولانا السلطان مراد بن عثمان

9

رحم الله سلفه ونصر خلفه نقله من هذا المحل إلى حضرته العلية القسطنطينية، ثم أمر برده إلى محله وجعل عليه فضة بصنعة مملوكية وعليها مكتوب مما قرأته ما مثاله ولم يعلم قائله:

تشوق حضرة السلطان أحمد

زيارة موطئ القدم المكرم

فحركه بجاذبة اشتياق

على إقدام أقدام فقدم

وسيره إلى القسطنطنية

10

فقال له تقدم خير مقدم

وأدخل داره باليمن حبا

وتعظيما لصاحبه المعظم

حبيب الله سيدنا محمد

عليه ربنا صلى وسلم

وأرجعه

11

بإعزاز عظيم

إلى تلقاء موضعه المقدم

إلهي عمر السلطان أحمد

وقدمه على من تقدم

بحرمة صاحب القدم المعلى

إلى الدرجات في الأفلاك سلم

وتشرف بزيارته سنة 1024 ا.ه. ما ألفيته بحروفه». والذي ذكره من نقل السلطان أحمد للحجر غير مستبعد، فقد ذكرت التواريخ التركية أنه كان كثير التعظيم للآثار النبوية، حتى إنه نقش مثال القدم النبوية على صرغوج عمامته ونقش معه بيتين بالتركية من نظمه، والصرغوج حلية كانت توضع على القلنسوة أو العمامة ولم تزل هذه القبة إلى اليوم على هذا الحجر ، وهي قبة صغيرة قائمة على قاعدة مربعة مرفوعة على أربعة أعمدة والأبيات المذكورة منقوشة بالحفر في جوانب القاعدة، ولم تتيسر لنا قراءتها إلا بعناء بعد جلاء موضعها ومسحه، وكانت تظهر لنا في بعض المواضع عند مسحها آثار الطلاء بالذهب، وقد اكمد لون القبة وتغير حتى يخيل لرائيها أنها من نحاس.

وأما الحجر الآخر الذي قيل: إنه به أثر الخليل فعليه شبه قبة من خشب مستطيلة دقيقة الأعلى واسعة الأسفل كالقمع ساذجة لا أثر للصناعة فيها.

ولما زار أبو العباس أحمد الفاسي في رحلته إلى الحج سنة 1311 مسجد السلطان قايتباي، وصف الحجرين بقوله: «وتبركت بحجرين هنالك شاع على ألسنة العوام أنهما أثر فيهما قدما النبي

صلى الله عليه وسلم ، أحدهما بلصق قبر السلطان المذكور فيه أثر قدمين، والآخر مقابل له يمنة الداخل من الباب فيه أثر آخر، وعليهما بناء وهما مرفوعان من الأرض على بناء، وإن لم يصح ذلك فقد نسبا إلى النبي

صلى الله عليه وسلم

في الجملة والله يعاملنا بنياتنا». ثم نقل عبارة أبي سالم العياشي عنهما في رحلته، ونصها

12 : «عند رأس القبر حجر مبني عليه بناء حسن فيه أثر قدمين شاع عند الناس أنهما قدما النبي

صلى الله عليه وسلم ، وهناك حجر آخر فيه أثر قدم أخرى يقال: إنها قدم الخليل، والناس يزورونها ويذكرون أنها من الذخائر التي ظفر بها السلطان قايتباي أيام سلطنته، فجعلت عند قبره رجاء بركتها ولا يبعد ذلك، فقد كان ملكا عظيما عدلا موقرا مهيبا محببا إلى الخلق، ذا سيرة حسنة في الرعية، واجتهاد في عبادة ربه، إلا أننا لم نر من نص على أنه ظفر بشيء من هذه الآثار من المؤرخين، بل ذكر جماعة من حفاظ المحدثين أن ما استفاض واشتهر خصوصا على ألسنة الشعراء والمداح من أن رجل النبي

صلى الله عليه وسلم

غاصت في الحجر لا أضل له، ولم يذكر أحد أن أثر الخليل عليه السلام موجود في غير حجر المقام. قلت: وبالمدينة المشرفة ومكة والقدس آثار يقال: إنها آثار بعض أعضاء النبي

صلى الله عليه وسلم

من قدم ومرفق وأصابع والله أعلم بصحة ذلك، ولكن لم يزل الناس منذ أعصار يتبركون بها من العلماء والصالحين، ويتقي الآخر منهم الأول، فأجل ذلك لما دخلنا إلى مزار السلطان المذكور صب القيم على الأثرين شيئا من ماء الورد، فغمسنا فيه أيدينا ومسحنا بها أوجهنا ورءوسنا وأبداننا رجاء البركة بحسن النية وجميل الاعتقاد» إلى آخر ما ذكره. وقال أبو العباس الفاسي عقب نقله لكلامه: «وما زال يبعد كل البعد عند علماء القاهرة ثبوت الأثر المذكور، فقد تكلمت مع شيخنا الشيخ داود القلعي في ذلك فلم يسعفني بالكلام فيه». ا.ه. قلنا: وآثار القدم والمرفق التي أشار إليها أبو سالم العياشي رأيناها مذكورة في سؤال رفع إلى الإمام السيوطي، فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا سند ولا رأي من خرجه في شيء من كتب الحديث. ا.ه. والذي يرويه الناس في المرفق أنه

صلى الله عليه وسلم

لما جاء إلى دار أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بمكة ووقف ينتظره ألصق منكبه ومرفقه بالحائط فغاص المرفق بالحائط في الحجر وأثر فيه، وبه سمى الزقاق زقاق المرفق. ا.ه. ملخصا من فتح المتعال للمقري. وذكره أيضا قطب الدين الحنفي في الإعلام بأعلام بيت الله الحرام في الخاتمة التي خصها بالأماكن المجاب فيها الدعاء بمكة فقال: إنه صفحة حجر مبني في جدار في وسطه حفرة مثل محل المرفق يزوره العوام ويزعمون أن النبي

صلى الله عليه وسلم

اتكأ عليه فغاص مرفقه الشريف فيه، ثم قال: «وما رأيت في كلام أحد من المؤرخين من حقق شيئا من ذلك، والله أعلم بحقيقته»

13 ، ورأينا أيضا في موضعين من هذه الخاتمة أن بالجبل المقابل لثبير الذي بلحفه مسجد الخيف غارا يقال له غار المرسلات لنزول سورة «والمرسلات» به، تزعم العامة أن سقفه لان لرأس النبي

صلى الله عليه وسلم

فأثر به تجويفا بقدر دورة الرأس فيضع الناس رءوسهم في هذا الموضع تبركا، ثم ذكر أنه لم يقف على خبر يعتمده في ذلك. قلنا: ذكره التقى الفاسي في شفاء الغرام والجلال السيوطي في الخصائص الكبرى عن أبي نعيم ولكن بلا سند، وقد بقي هذان الحجران مقصودين بالزيارة إلى زماننا هذا، وذكرهما العلامة إسماعيل الحامدي المالكي أحد علماء الأزهر المتوفي سنة 1316 في الرحلة الحامدية إلى الأقطار الحجازية، وهي في حجة سنة 1297ه، فقال: إنه زارهما وإن حجر المرفق كان قريبا من الصاغة، وذكر حجرا آخر زاره في الطريق التي بين مكة والتنعيم، قيل: إن النبي

صلى الله عليه وسلم

أسند ظهره إليه فلان وغاص

14

فيه، وذكر حجرا آخر قيل: إن عليه أثر كفه

صلى الله عليه وسلم

بمسجد الغمامة بجهة بدر، وحجرا بالمدينة في مكان بأسفل جبل أحد عليه أثر نبوي. والراجح أنها قلعت جميعها من أماكنها ومحيت آثارها بعد استيلاء الملك عبد العزيز بن سعود ملك نجد على الحجاز سنة 1344، ومن حجارة الآثار حجر قيل: إن عليه أثرا نبويا في قرية شهار بالطائف يسمونه بأثر الغزالة النبوية، ذكره الفاكهي في تاريخه للطائف، ونقله عنه الشيخ محمد عبد الكريم من علماء القرن الثاني عشر في رسالة له في فضائل الحبر ابن عباس والطائف، ثم قال: «ولم أقف على ما يشهد لذلك في كتب الآثار ولا في أجزاء لطيفة صنفت في آثار الطائف للمتأخرين ولا على ما ينفيه». ا.ه. وقد دعانا التعرض لأثر المرفق إلى الاستطراد لذكر هذه الأحجار إتماما للفائدة ببيانها وبيان أن لا مستند فيها إلى على ما هو شائع بين الناس، والله أعلم.

الثالث: حجر المقام الأحمدي

وهو في ركن من أركان القبة المقامة على ضريح السيد أحمد البدوي (رضي الله عنه) بطندتا المعروفة الآن عند العامة بطنطا، ولم أقف فيه إلا على ما ذكره الشيخ عبد الصمد في الجواهر السنية في النسبة والكرامات الأحمدية من أنه حجر أسود مثبت في ركن القبة تجاه وجه الداخل من الجهة اليمنى، وفيه موضع غوص قدمين شاع بين الناس وذاع واستفاض وملأ البقاع والأسماع أنه أثر قدمي رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وكل من زار الأستاذ يتبرك به. ا.ه. ولم يتعرض لذكر واضعه وتاريخ وضعه بهذا المكان.

الرابع: حجر البرنبل

وهي قرية شرقي النيل من قسم إطفيح

15

بولاية الجيزة وفي شرقيها على قارة بسفح الجبل مقام لسيدي أويس القرني، والصحيح أنه غير مدفون بمصر، وفي شرقي هذا المقام حجر صلب في الجبل به أثر قدم تزعم العامة أنه قدم رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، ويزوره سياح الإفرنج كثيرا.

الخامس: حجر قبة الصخرة

ببيت المقدس وهو قديم ذكره الإمام ابن تيمية وأنكر صحته، وقال عنه العليمي في «الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل»: «القدم الشريفة في حجر منفصل عن الصخرة محاذ لها آخر جهة الغرب من جهة القبلة وهو على عمد رخام». ومثله في «باعث النفوس لزيارة القدس المحروس» لبرهان الدين إبراهيم ابن قاضي الصلت، و«إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى» لشمس الدين محمد المنهاجي السيوطي، وذكره أيضا جمال الدين عبد الله بن هشام الأنصاري في «تحصيل الأنس لزائر القدس»

16

بما لا يخرج عن ذلك وزاره العلامة المقري وقال عنه في «فتح المتعال»: «وقد رأيت حجرا فيه أثر قدم بقية الصخرة الشريفة بالبيت المقدس، والناس يعظمونه ويتبركون به». وقد زاره العلامة عبد الغني النابلسي وأشار إليه في رحلته «الحقيقة والمجاز» محيلا على ما ذكره عنه في «الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية». وقد نقل في الحضرة الأنسية ما قدمنا نقله في وصفه، ثم قال: «وجعلوا على هذا المكان من الفضة على شكل الخزانة له قبة صغيرة وباب بمصراعين كل ذلك مصنوع من الفضة على شكل الخزانة، ثم خافوا على ذلك من السارق فجعلوا على ذلك شبكة من النحاس الأصفر لها باب بمصراعين أيضا يفتح للزائرين، ففتحوه لنا والتمسنا من أثر تلك القدم البركة، وقد وضعوا فيه ماء الورد، فوقفنا ودعونا الله تعالى بما تيسر من الدعاء، وأخذنا منه ووضعنا على وجوهنا، ودفعنا للخادم ما تيسر من الدراهم كما هو عادتهم، وقلنا في ذلك من النظام على حسب ما اقتضاه المقام :

قام في الصخرة طه المصطفى

ليلة المعراج والرسل خدم

وبدا التأثير من أقدامه

عبرة لما بها الصخر اصطدم

وعجيب كيف في صلد الصفا

يظهر التأثير من لحم ودم

إنه معجزة لا عجب

وهو للشك وللريب هدم

فاتني لثم ثرى أقدامه

فتبركت بآثار القدم»

17

السادس: حجر القسطنطينية

وهو على ما في التواريخ التركية من الآثار التي أخذها السلطان سليم من الشريف بركات أمير مكة بعد فتحه مصر ونقلها معه إلى القسطنطينية، وهي محفوظة اليوم بقصر (طوبقبو)، وتسمى عندهم بالأمانات المباركة.

السابع: حجر الطائف

جاء في اللطائف من قطر الطائف لابن عراق أن من المواقف النبوية بالطائف موقفا بجبل أبي زبيدة، وآخر عند وج وصخرة عليها أثر موقفه الشريف في مسجد العداس بجبل أبي الأخيلة، وقد تكلم العلامة جار الله محمد بن فهد على هذه المواقف في تحفة الطائف في فضائل الحبر ابن عباس ووج والطائف، إلا أن النسخة التي عندنا وقع بها سقط في هذا الموضع اختلت بسببه العبارة، وفي «إهداء اللطائف من أخبار الطائف» للعجيمي ما نصه: «ومن المآثر موقف بجبل أبي زبيدة في طريق الذاهب إلى وج من جبل يقال له: قرين ثم في سفح جبل يقال له: أبو الأخيلة معبد العداس، وهو في مسجد بالمثناة وأثر الموقف ظاهر في صخرة في ركن المسجد المشهور بمسجد الموقف». ا.ه. قلنا: وقد بلغنا أن بوج في الجهة المسماة بالمثناة مسجدا به حجر باق إلى اليوم يزعمون أن عليه أثر مرفقه

صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يسمونه بمسجد الكوع؛ لأن العامة تطلق الكوع على المرفق وهو من أوهامها، والمظنون أنه المسمى قديما بمسجد الموقف، ثم سماه الناس في العصور الأخيرة بمسجد الكوع لتوهمهم أن الذي به أثر المرفق الشريف لا القدم لعدم وضوح الأثر وضوحا كافيا فيما يظهر، ولهذا عددناه من أحجار الأقدام الباقية إلى اليوم وليحقق.

أحجار أخرى كانت بمصر

عليها أثر القدم الشريفة فيما زعموا، أشار إليها السخاوي في ترجمة شمس الدين محمد بن عمر بن محمد بن الزمن الشافعي المتوفى سنة 897، وذكر أنها أحضرت له من خيبر، وأنها كانت مع آثار أخرى في مدرسته التي شرع في إنشائها بشاطئ بولاق، قلنا: ولا ندري أين ذهبت، ولعل منها بعض الأحجار المعروفة بمصر الآن، كالحجرين اللذين بتربة قايتباي كما قدمنا، والله أعلم.

حجران آخران بمكة والمدينة

ذكرهما العلامة المقري في فتح المتعال فقال: «ورأيت بمكة المشرفة أيضا في القبة التي وراء قبة زمزم أثر قدم في حجر يقولون: إنه أثر قدم النبي

صلى الله عليه وسلم ، وأخبرني بعض الناس أن بالحجرة الشريفة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام حجرا كذلك، ولم أره حين دخلت للتبرك بإيقاد مصابيحها، ثم سألت عن ذلك الثقات العارفين، فأجابوني، إن الحجرة ليس فيها شيء من ذلك، وإنما هو في بعض أماكن المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والسلام، فذهبت إليه فألفيت موضعه مما لا يمكن دخوله في الوقت الذي ذهبت فيه، وبعد هذا تكرر دخولي الحجرة الشريفة مرارا عديدة، فلم أر فيها ذلك بيقين، فعلمت أن المخبر لي وهم». ا.ه. قلنا: أما حجر المدينة فلا نعلم عنه شيئا، وأما حجر مكة فإن القبة التي كان بها هدمها الشريف عون الرفيق أمير مكة المتولي عليها سنة 1229ه والمتوفى بها يوم الأربعاء 16 جمادى الأولى سنة 1323ه. وبلغنا أن حجرا أثريا كان بها، وهبه الشريف لأحد الهنود بعد هدمها، فلعله الحجر المذكور الذي رآه المقري.

آثار أقدام لبعض الأنبياء

في بعض البلدان آثار أقدام على أحجار منسوبة إلى بعض الأنبياء كأثر قدم آدم عليه السلام في جزيرة سرنديب المعروفة أيضا بسيلان بالهند، وأثر قدم الخليل عليه السلام بالحرم المكي، وأثر قدم موسى عليه السلام بظاهر دمشق، وأثر قدم عيسى عليه السلام بطورزيتا ببيت المقدس، وأثر قدم إدريس عليه السلام ببيت المقدس، وأثر قدم أيوب عليه السلام بقرية قرب نوى بالبلاد الشامية، ولكون مقالنا هذا خاصا بالآثار المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام اكتفينا بالإشارة إليها دون التعرض لتحقيقها وتفصيل الكلام عليها.

تنبيه

كان في مصر مسجد بالقرافة الكبرى معروف بمسجد الأقدام يرد ذكره في كتب الخطط والتاريخ، وقد يتوهم من يراه مذكورا عرضا في بعض العبارات أنه سمي بذلك لأحجار كانت فيه عليها آثار أقدام منسوبة للنبي

صلى الله عليه وسلم

أو لبعض الأنبياء عليهم السلام كالتي تقدمت وليس كذلك، وإنما سمي بمسجد الأقدام لأن مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه امتنع من بيعته ثمانون رجلا من المعافر سوى غيرهم، وقالوا: لا ننكث بيعة ابن الزبير، فأمر مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر المعافر في هذا الموضع فسمي المسجد بهم؛ لأنه بني على آثارهم والآثار الأقدام، يقال: جئت على قدم فلان أي أثره، وقيل: بل أمرهم بالبراءة من علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يتبرءوا منه فقتلهم هناك، وقيل: سمي مسجد الأقدام لأن قبيلتين اختلفتا فيه، كل تدعي أنه من خطتها، فقيس ما بينه وبين كل قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه، وقيل: إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العباد، وكانت حجارته كذانا فأثر فيها مواضع أقدامهم، كذا في خطط المقريزي. قلنا: وإنما أثرت أقدمهم فيه لأن الكذان من الحجارة الرخوة، ولما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في بناء جامعه داخل باب زويلة، ونقل إليه العمد وألواح الرخام من الدور والمساجد، هدم هذا المسجد لذلك، وفي تحفة الأحباب للسخاوي أنه كان من المساجد السبعة التي بالقرافة المجاب عندها الدعاء، وكان واسع الفناء عالي البناء مرتفعا عن الأرض يصعد إليه من درج، وكانت العامة تزعم أنه به قبر آسية امرأة فرعون، وتسمى الموضع بها وليس بثابت، ولم يزل عامرا حتى أنشأ السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ مدرسته داخل باب زويلة من القاهرة فحسنوا له خرابه، وقالوا له: هذا في وسط الخراب فصار كوما من جملة الكيمان التي هناك.

آراء العلماء في آثار القدم النبوية الشريفة

من الذين أنكروا صحة ذلك وذكروا أن لا أصل ولا سند لما ورد فيه الإمام أحمد بن تيمية في فتاواه، ونقله عنه تلميذه الإمام ابن القيم، والإمام السيوطي في فتاواه ، والعلامة ابن حجر الهيثمي في فتاواه مؤيدا لفتوى السيوطي وفي شرحه للهمزية، حيث ذكر أن من روى هذا الخبر من أصحاب الخصائص رواه بلا سند، والحافظ محمد بن يوسف الشامي تلميذ السيوطي في سيرته النبوية «سبل الهدى والرشاد»، وقال في فتوى شيخه: وناهيك باطلاع الشيخ، وقد راجعت الكتب التي ذكرها في آخر الكتاب فلم أر ذلك، فشيء لا يوجد في كتب الحديث والتواريخ كيف تصح نسبته لرسول الله

صلى الله عليه وسلم . ا.ه. وقال المقري في فتح المتعال: وممن أنكره الإمام برهان الدين الناجي الدمشقي وجزم بعدم وروده. ا.ه. ومنهم الشمس العلقمي، والعلامة عبد الرءوف المناوي: والعلامة محمد الشوبري قدوة الشافعية فيما كتبه على المواهب اللدنية، والعلامة علي الأجهوري المالكي في شرح ديباجة مختصر المالكية على ما ذكره عنهم ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار، والعلامة محمد الزرقاني فيما كتبه على المواهب اللدنية، والعلامة أحمد المقري في فتح المتعال، ومن المتأخرين العلامة داود القلعي على ما حكاه عنه الفاسي في رحلته، ومن أصحاب الرحل أبو سالم العياشي وأبو العباس أحمد الدرعي وأبو العباس أحمد الفاسي، غير إنهم قالوا بأنه وإن لم يصح فيزار بحسن النية لنسبته في الجملة للمقام النبوي، والعلامة أحمد الشهير بابن العجمي في رسالته تنزيه المصطفى المختار التي قدمنا ذكرها، وقطب الدين الحنفي في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، غير أن كلامه خاص بأثر المرفق فذكر أنه لم ير في كلام أحد من المؤرخين من حقق ما يقال عنه، والعلامة محمد الحفني الكبير في حاشيته على شرح ابن حجر الهيثمي على الهمزية في قول الناظم:

أو بلثم التراب من قدم لا

نت حياء من مسها الصفواء

وقول ابن حجر عنه: «هذا الذي ذكره الناظم ذكره غيره ممن تكلم على الخصائص لكن بلا سند» فإنه علق عليه بقوله: «قوله بلا سند في فتاوى الشارح

18

هل ورد أنه

صلى الله عليه وسلم

لان له الصخر وأثرت قدماه فيه؟ وأنه إذا مشى على التراب لا تؤثر قدمه الشريفة فيه؟ وأنه لما صعد صخرة بيت المقدس ليلة المعراج اضطربت تحته ولانت فأمسكتها الملائكة؟ وأن الأثر الموجود بها الآن أثر قدمه؟ وأنه

صلى الله عليه وسلم

لما جاء إلى بيت أبي بكر بمكة ووقف ينتظره ألصق منكبه ومرفقه بالحائط فغاص المرفق في الحجر وأثر فيه وبه سمي الزقاق بمكة زقاق المرفق؟ فأجاب بقوله: أجاب الحافظ السيوطي لما سئل عن ذلك كله فقال: لم أقف له على أصل ولا سند ولا رأيت من خرجه في كتب الحديث» ثم قال عقب نقله عبارة ابن حجر المذكورة: «وقد ذكر الأئمة أن الحافظ إذا قال مثل هذه العبارة بقوله لا أعرفه دل على عدم وروده» ا.ه.

أما المثبتوق: فالإمام تقي الدين السبكي بقوله في تائيته:

وأثر في الأحجار مشيك ثم لم

يؤثر برمل أو ببطحاء مكة

والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية، غير أن شارحها العلامة الزرقاني رد عليه وناقشه فيما أورده، والعلامة شهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض في خاتمة أوردها عقب شرحه لفصل المعجزات الواقعة في الجمادات من الباب الرابع الخاص بالمعجزات النبوية من القسم الأول، والعلامة عبد الغني النابلسي في الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية، وقد أطال في محاولة إثبات هذه الآثار، وقال في رده على من نفى من العلماء وجود سند لها بأن «الراجح إثبات ذلك ميلا إلى ما اتفق عليه عموم الناس واشتهر على ألسنة الخلف عن السلف، وإن لم يكن لهم مستند في ذلك فقد يكون لهم مستند وخفي عنا» ا.ه.

وممن ذهب إلى إثباتها من المتأخرين العلامة أحمد زيني دحلان في سيرته النبوية، قال العلامة ابن العجمي بعد أن لخص أقوال المثبتين من أهل عصره ومن قبلهم ما نصه: «وحاصل جميع ما تقدم الاعتراف بأن ذلك لا سند له وأنه على مجرد الشهرة، وهو غير كاف في إثبات نسبتها إليه

صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الخصوصيات لا تثبت بالاحتمالات؛ لأنها من الأمور السمعية المحضة التي لا مجال للعقل فيها بنفسه، فما وجدنا فيه نصا نتحدث به ونعتقده، وما لا نص فيه نكل علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله

صلى الله عليه وسلم ، ولا نتكلم به لعدم استقلال العقل فيه بنفسه دون نص» ا.ه.

بقي أن الجلال السيوطي وإن أنكر ذلك في فتاواه فقد ذكره في باب ما اختص به

صلى الله عليه وسلم

عن أمته في أواخر خصائصه الصغرى نقلا عن رزين العبدري ولكن بلا سند وسكت عنه كالمقر له حتى نسبه بعضهم إلى الاضطراب والتردد، وبعضهم إلى السهو والنسيان، ولم يعرف أي الكتابين أسبق في التأليف حتى يعول على ما في الأخير منهما ويعد رجوعا منه عما في الأول، وقد حاول الشهاب الخفاجي في شرح الشفا التوفيق بين صنيعيه بقوله: «قلت: لا سهو ولا نسيان فإن السيوطي رحمه الله تعالى لم ينكر هذه المعجزة، وإنما أنكر ما يؤثر بعينه في الأماكن التي ذكروها». قلنا: يصح ذلك لو أن السيوطي اقتصر في فتاواه على إنكاره التأثير في شيء بعينه، ولكنه مع إنكاره ذلك في بعض أحجار معروفة أنكر أيضا تلين الصخر وتأثير القدم الشريفة فيه على العموم، وهذا نص ما جاء في السؤال الذي أجاب عنه: «مسألة فيما هو جار على ألسنة العامة، وفي المدائح النبوية، أن النبي

صلى الله عليه وسلم

لان له الصخر وأثرت قدمه فيه، وأنه كان إذا مشى على التراب لا تؤثر قدمه فيه، هل له أصل في كتب الحديث أو لا؟ وهل إذا ورد فيه شيء من خرجه؟ وصحيح هو أو ضعيف؟ وهل ما ذكره الحافظ شمس الدين بن ناصر الدمشقي في معراجه الذي ألفه مسجعا ولفظه: «ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعلاها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت» ألهذا أصل في كتب الحديث صحيح أو ضعيف أو لا» إلى آخر ما ذكر من السؤال عن أثر القدم الذي هناك، وعن أثر المرفق بمكة وغير ذلك، فأجاب عما ذكر بقوله: «لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث». ا.ه. وذهب العلاقة ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار إلى أن المعتمد ما ذكره في الفتاوى؛ لأن العلماء يتحرون في فتاواهم أكثر مما يتحرون في المصنفات، وأما كتابه الخصائص فقد جمع فيه ما قيل: إنه من الخصوصيات ولم يعتمد جميع ما فيه، ولكل مقام مقال. ا.ه. ملخصا. قلنا: وفي قوله هذا نظر؛ لأنه لو كان قصد في هذا الكتاب جمع ما قيل بلا اعتماد جميع ما فيه لنبه على ذلك في مقدمته أو خاتمته، والمرجح عندنا أن عدم تعقبه ما نقله عن رزين بأنه لا أصل له ولا سند على ما قرره في فتاواه لم يكن إلا سهوا منه وجل من لا يسهو. والله أعلم.

ولنختم هذا البحث بما ختم به هذا الفاضل رسالته «تنزيه المصطفى المختار» فقال: «لا يخفى على ذوي البصائر أن ما ذكر آنفا جميعه من عدم ثبوت هذه الأحجار المعينة بمصر وغيرها، إنما الغرض منه تنزيه الجناب الرفيع الأعلى والمقام الأسنى عن أن ينسب إلى حماه الأجل الأحمى، ما لم يثبت عنه أصلا، ولا ورد لا قولا ولا فعلا، فلا يتوهم عاقل ألبتة من نفي ذلك نقصا معاذ الله وحاشا وكلا، بل ذلك يقتضي زيادة رفعته العظيمة، وأناقة منزلته الكريمة، بحيث لا يحام حول ذلك الحمى الأعظم، إلا بما ورد عنه

صلى الله عليه وسلم ، ونص على ثبوته من يوثق به من الأئمة الحافظ الأعلام، جهابذة الإسلام».

هوامش

الآثار التي بالقسطنطينية

هي المعروفة عند الأتراك بالأمانات المباركة، ولم تزل محفوظة إلى اليوم بقصر طوبقبو بالقسطنطينية، وكان بنو عثمان يبالغون في تعظيمها، ويعدونها من مفاخر دولتهم، والذي يذكره عنها مؤرخو الترك، أنها كانت عند الشرفاء أمراء مكة، فلما استولى السلطان سليم على مصر سنة 923ه طلبها من الشريف بركات أمير مكة وقتئذ، فبعث بها إليه مع ولده أبي نمي، فحملها السلطان إلى القسطنطينية في عودته إليها؛ وذهب بعضهم إلى أنها كانت عند الخلفاء العباسيين الذين كانوا بمصر فتسلمها السلطان من آخرهم، وهو المتوكل على الله محمد بن يعقوب

1

بل ربما تجد هذا الخلاف في الكتاب الواحد فترى الرأي الأول في موضع منه ثم ترى الثاني في موضع آخر بلا تنبيه أو إشارة، غير إن أكثرهم على الرأي الأول، والظاهر أن الرأي الثاني مبني على الاستنتاج لا على النقل لتوهمهم أن وجود الآثار النبوية عند الخلفاء من مستلزمات الخلافة ومكملاتها، فلما عاد السلطان سليم من مصر بالخليفة والآثار، ظنوا أنه تسلمها منه.

وليس في التواريخ العربية التي بأيدينا ذكر لهذه الآثار ولا إشارة إليها سوى أن ابن إياس لما ذكر قدوم ابن الشريف بركات على السلطان سليم بمصر قال عنه: «وأحضر صحبته تقادم فاخرة» والمراد بالتقادم الهدايا، فلعل هذه الآثار كانت منها، ولكن سكوته عن الإفصاح عنها - مع ما لها من الشأن وجلالة القدر - لا يخلو من نظر.

والذي استخلصناه عن الشريف بركات هذا من تواريخ الحجاز أنه بركات بن محمد بن بركات، ولد بمكة سنة 861، وسافر إلى القاهرة سنة 878، ورجع شريكا لوالده في الإمارة، ثم استقل بها بعد وفاته سنة 903، ثم ثار عليه أخواه: الشريف هزاع والشريف أحمد الملقب بالجازاني سنة 904، ووقعت بينهم حروب آلت إلى ورود مرسوم السلطان الغوري من مصر بتولية هزاع الإمارة فتولاها إلى أن توفي سنة 907، فتولاها بعده أخوه أحمد، ثم ورد المرسوم من مصر بإعادة بركات فأعيد، ووقعت بينه وبين أحمد حروب وأهوال في أثناء سنة 908 ثم وصلت جنود من مصر في ذي القعدة من تلك السنة فمال قائدها مع أحمد وأعاده وقبض على بركات وجماعة من الأشراف وجعلهم في الحديد وعاد بهم إلى مصر بعد نهب دورهم، فتألم السلطان الغوري لذلك وأمر بإطلاقهم وإكرامهم، ثم فر بركات في أواخر هذه السنة أو في سنة 909 فألفى أخاه أحمد قد قتل، وتولى بعده أخوه حميضة، ثم عاد بركات إلى الإمارة، ووصله مرسوم الغوري سنة 910، وضخم ملكه وفوض إليه أمر الحجاز جميعه، ثم شاركه في الحكم ولده أبو نمي وهو صغير بأمر الغوري ، ولما استولى السلطان سليم على مصر سنة 923، أرسل إلى الشريف بركات يطلب دخوله في الطاعة، فأجاب، وأرسل ولده أبا نمي فقابل السلطان ولقي منه إكراما، ثم أعاده إلى والده شريكا له في الإمارة كما كان إلى أن توفي والده سنة 931، فتولاها أبو نمى منفردا، وكانت ولادته ليلة 9 ذي الحجة سنة 911، ووفاته سنة 992 عن ثمانين سنة. ا.ه. وقد ذكر ابن إياس قدومه إلى مصر وعودته منها ومقابلته للسلطان سليم في حوادث سنة 923 فقال في حوادث جمادى الآخرة منها ما نصه: «وفي يوم الأحد خامس عشرة، حضر إلى الأبواب الشريفة ابن السيد الشريف بركات أمير مكة، وكان سبب حضوره أنه أتى ليهنئ ابن عثمان بمملكة مصر وأحضر صحبته تقادم فاخرة وحضر صحبته بيبردي بن كسباي أحد أمراء العشراوات الذي كان باش المجاورين بمكة». ا.ه. وقال في حوادث رجب من تلك السنة: «وفي يوم الخميس رابعه خرج إلى السفر ابن السيد الشريف بركات أمير مكة فتوجه إلى وطاقه

2

الذي بالريدانية

3

فكان له موكب حافل، وخلع عليه السلطان قفطان

4

تماسيح مذهب وقدامه الرماة بالنفط، وخرج صحبته غالب الحجازيين الذين كانوا بالقاهرة، وقد أشار عليه السلطان بأن الحجازيين الذين بالقاهرة تخرج صحبته إلى إستنبول، وأشيع أن السلطان سليم شاه كتب مراسيم للسيد الشريف بركات أمير مكة بأن يكون عوضا عن الباشا الذي بها وجعله هو المتصرف في أمر مكة قاطبة وأضاف له نظر الحسبة بمكة أيضا وأنصفه غاية الإنصاف، وتزايدت عظمة السيد بركات الشريف إلى الغاية، وأكرم ولده غاية الإكرام».

مكانها ورسوم زيارتها

لما عاد السلطان سليم من مصر إلى القسطنطينية بهذه الآثار جعلها في مسكن الحرم بقصر طوبقبو حتى هيأ لها حجرة خاصة بهذا القصر نقلها إليها ووكل بها من يقوم بخدمتها، وكان يحتفل بزيارتها مع عظماء دولته في شهر رمضان، والغالب أن يكون ذلك في منتصفه، وسن لهذه الزيارة نظاما ورسوما مفصلة في التواريخ التركية، ثم لما تولى السلطان مراد بن أحمد سنة 1032 وهو المعروف عندهم بمراد الرابع نقل الآثار إلى حجرة أخرى خصها بها في هذا القصر وأبقى نظام زيارتها كما هو، وما زال كذلك إلى أن أبطله السلطان محمود بن عبد الحميد المعروف بمحمود الثاني سنة 1240، واستعاض عنه بنظام آخر بقي متبعا عندهم إلى انقراض دولتهم بخلع الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، وإخراج أسرة بني عثمان من المملكة سنة 1342، وكانت لهم عناية كبيرة في الاحتفال بهذه الزيارة في منتصف شهر رمضان بحضور السلطان ووزرائه وعظماء دولته، ويسمونها زيارة الأمانات المباركة، أو زيارة الخرقة الشريفة، أو خرقة السعادة؛ لأن بينها قطعة من ثوب يزعمون أنها البردة التي وهبها

صلى الله عليه وسلم

لكعب بن زهير (رضي الله عنه)

5 ، وما زالت هذه الآثار إلى اليوم في حجرتها بهذا القصر محفوظة في صناديق من الفضة المذهبة.

بيانها

في هذه الآثار ما هو منسوب إلى النبي

صلى الله عليه وسلم

وفيها ما هو منسوب إلى بعض الأنبياء عليهم السلام أو بعض الصحابة (رضي الله عنهم)، وهي كثيرة لم يذكر أصحاب التواريخ التركية إلا أهمها، وقد رأينا أن نسردها على علاتها كما سردوها، ثم نعقبها ببيان رأينا فيها، وهي:

سن من الأسنان النبوية، نعلان نبويتان، خرقة السعادة وهي على زعمهم البردة التي وهبها صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير، حجر عليه أثر القدم الشريفة، السجادة النبوية، قبضة سيف من السيوف النبوية، القوس النبوية، اللواء النبوي، ماء من الغسل النبوي، قدر منسوبة لنوح عليه السلام، مرجل كان لخليل الله إبراهيم عليه السلام، سيف داود عليه السلام، عصا شعيب عليه السلام، قميص يوسف عليه السلام، ميزاب من الذهب كان بالكعبة المعظمة

6 ، غطاء باب التوبة

7 (ولعله حلية كانت عليه)، حلية من الفضة كانت على مقام إبراهيم عليه السلام بالحرم المكي، قطعة من الخزف، سجادة الصديق (رضي الله عنه)، عمائم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وسيوفهم وراياتهم وسبحاتهم، قبضات ستة سيوف من سيوف العشرة المبشرين بالجنة (رضي الله عنهم)، رايتا الحسن والحسين عليهما السلام، سيف جعفر الطيار (رضي الله عنه)، سيف خالد بن يزيد من الصحابة (ولعلهم يريدون خالد بن الوليد رضي الله عنه) سيف شرحبيل بن حسنة أحد الأصحاب (رضي الله عنه)، سيف معاذ بن جبل من الأصحاب (رضي الله عنه)، تاج أويس القرني (رضي الله عنه)، مصحف يزعمون أنه بخط الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، مصحف يزعمون أنه بخط عثمان (رضي الله عنه)، مصحف بخط زين العابدين من الصحابة (ولعلهم يريدون الإمام عليا زين العابدين ابن الإمام الحسين عليهما السلام ولم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد في خلافة جده).

هذا ما سردوه في تواريخهم في بيان أهم الأمانات المباركة، وذكروا أيضا في كلامهم على إمارة مكة أن الشريف أرسل إلى السلطان مع هذه الأمانات بمفاتيح مكة إشارة إلى دخوله في طاعته وتسليمه البلد إليه، ويذكرون في خبر تولي السلطان مراد بن أحمد الملك سنة 1032، وهو المعروف بمراد الرابع، أنهم احتفلوا في اليوم التالي ليوم مبايعته بتقليده السيف فقلدوه سيفين أحدهما سيف نبوي والآخر سيف السلطان سليم بن بايزيد، وأنه لاث يومئذ على رأسه عمامة يوسف عليه السلام المجلوبة من مصر من خزانة السلطان الغوري، وكان المعروف أن بين هذه الآثار شعرات نبوية سنفصل الكلام عليها في فصل الشعرات الشريفة.

حكمها

لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة، غير أنا لم نر أحدا من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها من الشكوك، ولا سيما فيما نسب للأنبياء نوح والخليل وداود وشعيب ويوسف، صلوات الله وسلامه عليهم مع بعد العهد وتقادم الزمن، وكذلك السبح المنسوبة للخلفاء الأربعة، فإن السبح بهذا الشكل المعروف لم تكن حدثت في ذلك العصر، وإنما كانوا يعدون التسبيح بالأنامل وبالنوى والحصا وعقد العقد في الخيوط كالخيط الذي كان لأبي هريرة (رضي الله عنه)، وقد جمع الإمام السيوطي جزءا في ذلك سماه «المنحة في السبحة» وهو مفيد فليراجع، ومما يتوقف فيه زعمهم في المصحفين أنهما بخط الإمامين علي وعثمان (رضي الله عنهما)، وقد تقدم في فصل الآثار النبوية التي بمصر ذكر مصحف معها قيل إنه بخط أمير المؤمنين أيضا، وآخر قيل إنه بخط ذي النورين، وأشرنا هناك إلى استبعادنا صحة ذلك، والله أعلم.

أما مفاتيح مكة التي ذكروها فلا ندري أأرجعت أم عملت لمكة مفاتيح غيرها، فإن مفاتيحها حملت إلى دار الملك مرة أخرى سنة 1228 بعد انتزاع الحجاز من الوهابية مدة العزيز محمد علي، وكان أرسل بها مع مملوكه لطيف أغا مبشرا بالفتح، وذكر الجبرتي خبر وصوله إلى القسطنطينية واحتفالهم به بما نصه: «وعند دخوله إلى البلدة عملوا له موكبا عظيما مشى فيه أعيان الدولة وأكابرها وصحبته عدة مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة وجدة والمدينة، وضعوها على صفائح الذهب والفضة، وأمامها البخورات في مجامر الذهب والفضة والعطر والطيب، وخلفهم الطبول والزمور، وعملوا لذلك شنكا ومدافع، وأنعم عليه السلطان وأعطاه خلعا وهدايا وكذلك أكابر الدولة، وأنعم عليه الخنكار بطوخين

8

وصار يقال له: لطيف باشا» ا.ه.

وكانت نهاية لطيف باشا هذا أنه عاد إلى مصر مزودا من رجال الدولة بإثارة فتنة تنتزع فيها مصر من العزيز محمد علي وهو غائب بالحجاز ويولى هو عليها، فأحس بذلك محمد بك لازأوغلي كتخدا مصر أي وزيرها، وتدارك أمره قبل استفحاله فقبض عليه وقتله في ذي الحجة سنة 1228، ولهذا لما أراد خديو مصر العزيز إسماعيل بن إبراهيم إقامة تمثال لجده محمد علي بالإسكندرية وآخر لأبيه إبراهيم بالقاهرة، أقام أيضا بالقاهرة تمثالا لسليمان باشا الفرنساوي لتنظيمه الجيش وآخر لمحمد بك لازأوغلي لحفظه مصر لهم، ولهذا جعلوه مادا ذراعه يشير بإصبعه إلى الأرض كناية عن تثبيته ملكهم بأرض مصر، ولم يكونوا وجدوا له صورة يصوغون التمثال عليها فأرشدهم وقتئذ أحد من أدركه إلى تاجر تركي بخان الخليلي يشبهه فصاغوا التمثال على مثاله، وهو قائم الآن في ميدان بشارع الدواوين يسمى بميدان لازأوغلي وكانت وفاته سنة 1243 ودفن حسب وصيته في قبة الشيخ يوسف بشارع القصر العيني عن يمين المار به إلى مصر العتيقة، ودفنت بجواره زوجته المتوفاة سنة 1250، وليس في القبة غير هذه القبور: قبر الشيخ يوسف في الشمال، ويليه قبر المرحوم محمد بك في وسط القبة ثم قبر زوجته، وفي جنوبي هذه القبة قبة مثلها ليس بها قبور، جعلت الآن مسجدا، وموضع التمثال لا يبعد كثيرا عن القبتين.

هوامش

الشعرات الشريفة

قال العلامة ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار: «ثبت في الصحيحين بروايات متعددة أن النبي

صلى الله عليه وسلم

حلق رأسه الشريف في حجة الوداع وقسم شعره أو أمر أبا طلحة وزوجته أم سليم بقسمته بين الصحابة الرجال والنساء الشعرة والشعرتين. قال العلامة ابن حجر فيه: إنه يسن بل يتأكد التبرك بشعره

صلى الله عليه وسلم

وسائر آثاره» انتهى. وذكر القسطلاني الروايات في ذلك عن الشيخين في كلامه على حجة الوداع من المواهب اللدنية وجاء في شرحها لسيدي محمد الزرقاني أن روايات الشيخين في ذلك من طرق مدارها على محمد بن سيرين عن أنس وأنه

صلى الله عليه وسلم

قسم شعره بين أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن. انتهى. وفي كتاب الشمائل من المواهب اللدنية المذكورة ما نصه: «وعن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. رواه مسلم». وفي الشرح أن ذلك كان في حجة الوداع، ثم قال في المواهب: «وعن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة عندنا من شعر النبي

صلى الله عليه وسلم

أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها. رواه البخاري». وفي الشرح: أن وجه حصوله لمحمد أن سيرين والده كان مولى أنس، وأنس ربيب أبي طلحة وكان أول من أخذ من شعره كما في الصحيح. انتهى. قلنا : وسبب كونه ربيبه أن أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية كانت متزوجة بمالك بن النضر في الجاهلية فولدت منه أنسا هذا وهو خادم رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، ثم تزوجها بعده في الإسلام أبو طلحة فما أصابه ابن سيرين من الشعر الشريف إنما وصل إلى أنس مما كان عند أمه أو زوجها أبي طلحة. وفي البداية والنهاية لابن كثير عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلنا على أم سلمة فأخرجت لنا من شعر رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم. رواه البخاري. انتهى. وفي رواية أخرى أنها كانت خمس شعرات حمر. وفي حديث رواه الإمام البخاري أيضا في باب صفة النبي

صلى الله عليه وسلم

أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن رأى شعرا من شعره فإذا هو أحمر، فسأل فقيل: أحمر من الطيب. وفي الخصائص الصغرى للإمام السيوطي المسماة بأنموذج اللبيب أنه

صلى الله عليه وسلم

قسم شعره على أصحابه، وقال في خصائصه الكبرى: «أخرج سعيد بن منصور وابن سعد وأبو يعلى والحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فطلبها حتى وجدها وقال: اعتمر رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصر». وفي فصل تحقيق الإسراء والمعراج من نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض للعلامة شهاب الدين الخفاجي أن معاوية (رضي الله عنه) كان عنده إزار رسول الله

صلى الله عليه وسلم

ورداؤه وشيء من شعره وظفره فكفن بردائه وإزاره وحشى شعره وظفره بفيه ومنخره بوصية منه. انتهى.

قلنا: فما صح من الشعرات التي تداولها الناس بعد ذلك فإنما وصل إليهم مما قسم بين الأصحاب (رضي الله عنهم)، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها، وسنورد ما اتصل بنا من أخبارها كما بلغنا وعلى ما رأيناه مسطورا، تاركين للقراء الكرام الحكم فيها بما تطمئن إليه نفوسهم. (1) الشعرات الواردة في الأخبار (1-1) شعرة كانت عند المرشدي بمكة

ذكرها العلامة السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بالمرشدي المولود سنة 763 بمكة والمتوفى بالمدينة سنة 829 فقال عنه: «كان خيرا دينا ورعا زاهدا متجمعا عن الناس، زار النبي

صلى الله عليه وسلم

أكثر من خمسين سنة مشيا على قدميه، وكذا زار بيت المقدس ثلاث مرار ولقي بها رجلا صالحا كانت عنده ست شعرات مضافة للنبي

صلى الله عليه وسلم

ففرقها عند موته على ستة أنفس بالسوية كان هذا أحدهم كما سبق في ترجمة ولده عمر». انتهى. والصواب أنه فرقها على ثلاثة أنفس لا ستة على ما ذكره في ترجمة ولده المذكور عمر بن محمد المرشدي المتوفى سنة 862 فإنه قال فيها: «وكانت عنده شعرة مضافة للنبي

صلى الله عليه وسلم

تلقاها عن أبيه المتلقى لها عن شيخ ببيت المقدس كانت عنده ست شعرات ففرقها عند موته بالسوية على ثلاثة أنفس هو أحدهم فضاعت شعرة منهما وقد تبركت بها عنده سنة ست وخمسين». انتهى. ومراده أنه تبرك بها في مكة لما حج، ثم ورث هذه الشعرة أبو حامد المرشدي عن أبيه عمر المذكور، وذكرها السخاوي في ترجمته بالضوء اللامع في باب الكنى؛ لأن كنيته اسمه وهو أبو حامد بن محمد المرشدي المولود تقريبا سنة بضع وخمسين وثمان مائة قال السخاوي: «وهو خير متعبد زائد الفاقة عنده شعرة منسوبة للنبي

صلى الله عليه وسلم

ورثها من أبيه». قلنا: وقد زار العلامة القسطلاني هذه الشعرة وذكرها في كتاب الشمائل من المواهب اللدنية فقال: «وقد رأيت بمكة المشرفة في ذي القعدة سنة 897 شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي شاع وذاع أنها من شعره

صلى الله عليه وسلم

زرتها صحبة المقام الغرسي خليل العباسي والى الله إحسانه عليه». (1-2) شعرة أخرى كانت بمكة

ذكرها ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار نقلا عن العلامة ابن حجر الهيثمي ونص عبارته: «بمكة شعرة من شعره المكرم مشهورة تزار، واتفق الخلف عن السلف أنها من شعره

صلى الله عليه وسلم ». انتهى. ولا ندري أهي الشعرة التي كانت عند آل المرشدي أم غيرها؟ ثم استطرد إلى ذكر فتوى لابن حجر عن شعرة كانت عند أخوين آثرنا نقلها لتضمنها خبر إحدى الشعرات النبوية، ونص ما قال: «وأفاد في فتاويه أنه سئل عن شعرة من شعر النبي

صلى الله عليه وسلم

على ما قيل كانت عند أخوين يزورها الناس وما يحصل من الفتوح يقسم بينهما، ثم ماتا فهل إذا طلب ورثتهما قسمتها تقسم كما فعل بعض جدودهم ذلك وقسمها أم لا؟ فأجاب بقوله: هذه الشعرة الشريفة لا تورث ولا تملك ولا تقبل القسمة، فالمذكورون مستوون في الاختصاص بها والخدمة لها لا تمييز لأحد منهم على أحد». انتهى. (1-3) شعرات كانت بتونس

أفادنا عنها علم من أعلام تونس الثقات، وكانت بثلاثة أماكن:

أحدها:

قبر الصحابي الجليل سيدي أبي زمعة البلوي

1

دفين القيروان، وكان أخذ من الشعرات الشريفة يوم منى في عام حجة الوداع لما حلق رسول الله

صلى الله عليه وسلم

رأسه، ووضعها أبو زمعة في قلنسوته إلى أن استشهد في القيروان فدفنت معه. قلنا: وقد راجعنا ترجمته في معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للعلامة عبد الرحمن بن محمد الدباغ فرأينا بها ما نصه: «ومات بالقيروان ودفن بالبقعة التي تعرف الآن بالبلوية سميت به من ذلك الوقت، وأمرهم أن يستروا قبره ودفن معه قلنسوته وفيها من شعر رسول الله

صلى الله عليه وسلم

تسليما، وذكره الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن رشيق في كرامات أهل إفريقية. قلت: ونعرف من حفظي أنه كان فيها ثلاث شعرات وأنه أوصى أن تعمل شعرة على عينه اليمنى وشعرة على عينه اليسرى وشعرة على لسانه». انتهى.

الثاني:

قال الوزير السراج الأندلسي ثم التونسي: تواتر الخبر بأن بدار الأشياخ بتونس شعرات من شعر رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وهي الآن بالزاوية البرانية بخارج باب قرطاجنة المعروفة بزاوية ولي الله المرجاني، قال ابن الدباغ: أراني إياها حفيده أبو فارس عبد العزيز فتبركت بها، وبها براءة قديمة مكتوب فيها صحة كونها من شعره

صلى الله عليه وسلم ، وبها أثر صفرة، قال: وكان شيخنا أبو صالح البطريني يصحح لنا كون ذلك حقا.

الثالث:

قال الوزير: ومن الأماكن أيضا ما حدثني والدي حفظه الله تعالى أن الشيخ أبا شعرة المدفون بالزلاج وقبته معروفة، وحولها فضاء مسور به شجر زيتون، وإنما سمي أبا شعرة لقضية وهي أنه كان حرفته البناء، فقادته أزمة السعادة أنه اصطنع لبعض الأكابر بناءات ضخمة تجمع له في أجرها مال ذو بال، وكان في بعض خزائن صاحب البناءات شعرة من شعرات نبينا

صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو شعرة: أعطني الشعرة الكريمة وأبرأك الله من جميع ما ترتب لي بذمتك فأعطاه إياها فأوصى بدفنها معه، فدفنت معه. تواتر النقل بذلك عند أهل تونس. انتهى. (1-4) شعر كان عند الخلاطي بمصر

ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته بالدرر الكامنة فقال: إنه علي بن محمد بن الحسن الخلاطي الحنفي القادوسي المتوفى سنة 708، وكان يقال له: الركابي لزعمه أن عنده ركاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم . قال: وكان يزعم أيضا أن عنده من شعره. انتهى باختصار، وستأتي ترجمته بنصها في فصل الركاب النبوي. (1-5) شعرة كانت بمدرسة ابن الزمن بمصر

قال العلامة السخاوي في ترجمته بالضوء اللامع: إنه شمس الدين محمد بن عمر بن محمد بن عمر الزمن القرشي الدمشقي ثم القاهري الشافعي المعروف بابن الزمن المولود سنة 824 والمتوفى سنة 897، وكان مشتغلا كأبيه بالتجارة واجتمع بعلماء كثيرين ذكرهم، ثم قال: «وكذا لقي غير واحد من الصالحين، ووقع له مع بعضهم غرائب وكرامات انتفع بها، وأعطاه شخص منهم يسمى بيرجمال

2

الشيرازي شعرة تنسب للنبي

صلى الله عليه وسلم ، وقال: إنها عنده، وكذا أحضر له من خيبر بعض الأحجار المنسوب أن بها أثر القدم الشريفة، وكتاب قيل: إنه بخط أحد كتاب الوحي، والكل محفوظ بالمدرسة التي شرع في إنشائها بشاطئ بولاق». انتهى. (1-6) شعرات كانت بجامع برسباي بالخانقاه

وهي قرية بمصر شمالي القاهرة على بريد منها تعرف بخانقاه سرياقوس لقربها من سرياقوس، وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أنشأ في هذا المكان خانقاها للصوفية ومسجدا وحماما وغير ذلك سنة 723 ثم رغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنوا الدور والحوانيت حتى صارت بلدة كبيرة ما زالت باقية إلى اليوم وتسميها العامة: الخانكة. ثم لما تولى السلطان الملك الأشرف برسباي التركماني على مصر سنة 825 وسافر إلى آمد لقتال ملكها سنة 832 نزل بمكان خال من هذه البلدة فنذر إن أحياه الله وظفره بعدوه ورجع سالما ليعمرن في هذا المكان مدرسة وسبيلا، فلما ظفر بعدوه ورجع أنشأ هناك جامعا عظيما

3

مفروشة أرضه بالرخام الملون، وبنى بجواره سبيلا، قال الإسحاقي في تاريخه «لطائف أخبار الأول»: وقيل: إن بمحراب الجامع المذكور تسع شعرات من شعر النبي

صلى الله عليه وسلم ، وفي معنى ذلك قال الشاعر:

الأشرف السلطان عمر جامعا

بالخانقاه ليرتحم

4

بثوابه

وأتى بآثار النبي محمد

شعراته قد قيل في محرابه

وإمامه بين البرية محسن

وكذا القضاة مع الشهود ببابه

انتهى. ولما وصل العلامة عبد الغني النابلسي إلى مصر في رحلته إليها في أوائل القرن الثاني عشر مر على بلدة الخانقاه ونزل بها وذكرها في «الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز» وذكر مدرسة الأشرف برسباي بقوله: «وفي البلدة المذكورة جامع السلطان الملك الأشرف وهو جامع عظيم، له قدر بين الجوامع جسيم، وذلك أن في محرابه شعرات مدفونة من شعرات الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أنشدنا فيه بعض الناس من الجزل، لبعض أصحاب الرقة والغزل، قوله:

بلدة الخانقاه مذ قد تجلت

قد حلت وانجلت حلاها السنية

مذ بدت في الورى عروس حلاها

نقطوها الملوك بالأشرفية

5 » ا.ه. (1-7) شعرات كانت عند منجك اليوسفي

ذكرها النعيمي في تنبيه الطالب وإرشاد الدارس إلى ما بدمشق من الجوامع والمدارس في كلامه على المدرسة المنجكية التي أنشأها للحنفية الأمير سيف الدين منجك اليوسفي الناصري المتوفى بالقاهرة سنة 776، وكان مملوكا للناصر محمد بن قلاوون وتنقلت به الأحوال فولي عدة ولايات كنيابة طرابلس وحلب ودمشق وصفد، ثم طلب إلى القاهرة وولي نيابة المملكة إلى أن توفي بها. قال النعيمي في ذكر مناقبه: «ومن سعادته أنه ظفر بشعر من شعر النبي

صلى الله عليه وسلم

فكان لا يزال معه وكان حسن الملتقى سيما لأهل العلم» ومثله في مختصر هذا الكتاب للشيخ عبد الباسط العاموي. (2) الشعرات الباقية إلى اليوم (2-1) شعرات المسجد الحسيني بالقاهرة

منها الشعرتان اللتان كانتا مع الآثار النبوية بقبة الغوري، ونقلتا معها إلى هذا المسجد، وهما في زجاجة محفوظة في صندوق صغير من الفضة ملفوف بلفافة من الديباج الأخضر المطرز، وقد تقدم ذكرهما في فصل الآثار التي بمصر، ثم أضيفت إليهما شعرة كانت عند أحمد طلعة باشا، وكان من رجال مصر المشهورين ومن الكتاب المجيدين الإنشاء باللغة التركية، تولى رئاسة الديوان الخديوي مرات مدة والي مصر محمد سعيد والخديوي إسماعيل وابنه الخديوي توفيق وكان دخوله في الخدمة في 16 جمادى الأولى سنة 1254 زمن العزيز محمد علي واستقال في جمادى الأولى سنة 1301 فأقيل مكرما ورتب له المرتب الكافي فأقام في داره بشارع السيوفية بالقاهرة مقبلا على العبادة والأعمال الصالحة إلى أن توفي يوم الأحد 2 جمادى الثانية سنة 1322، وكان المشاع على الأفواه أن هذه الشعرة حباه بها السلطان في إحدى سفراته إلى القسطنطينية موفدا من الخديو لتسوية بعض الأمور، ولكن المحقق عند أسرته أنها أهديت إليه من إحدى الحجازيين على أنها من الشعر الشريف فعوضه عنها شيئا كثيرا، ولما توفي اتفق بنوه على إهدائها للمسجد الحسيني لتحفظ فيه مع الآثار النبوية، وكانت محفوظة عندهم في قارورة فتبرعت لها السيدة خديجة كبرى بناته بصندوق من الفضة وضعت فيه الزجاجة ولف بسبع لفائف من الديباج الأخضر، ثم حملت بالتعظيم والإجلال إلى المسجد فحفظت فيه مع الآثار وهي مجهولة المصدر لا يعلم من أين وقعت لهذا الحجازي. وفي سنة 1340 أو 1341 أضيفت إليها شعرات كانت بالرباط المعروف بتكية

6

الكلشني بشارع تحت الربع في قارورة مختومة بالشمع الأحمر ومحفوظة في صندوق من الخشب والزجاج موضوع في خزانة من الخشب والزجاج أيضا من الصناعة العربية البديعة، فرأى وزير الأوقاف نقلها إلى المسجد الحسيني وحفظها مع الآثار النبوية فنقلت، وأمرها أيضا مجهول لا يعلم من أين أتت للرباط، ثم في شوال سنة 1342 أحضرت الحاجة ملكة حاضنة الأمير كمال الدين ابن السلطان حسين سلطان مصر الساكنة بشارع المبتديان بالقاهرة قارورة صغيرة إلى المسجد الحسيني وأخبرت أن بها شعرات من اللحية النبوية الشريفة، وأنها تريد إهداءها لتحفظ مع الآثار فأجيبت إلى ذلك، وكانت القارورة ملفوفة بقطعتين من الديباج الأخضر وموضوعة في صندوق صغير مكسو بالمخمل الأحمر وملفوف بثلاث لفافات من الديباج الأخضر ثم بلفافة من المخمل البنفسجي مطرزة الحواشي، وهي خمس شعرات على ما يقال مجهولة الأصل أيضا. (2-2) شعرة رباط النقشبندية بالقاهرة

المعروف بتكية النقشبندية بشارع درب الجماميز عن يسار السالك به من ميدان باب الخلق وهي من إنشاء والي مصر عباس باشا الكبير، وسبب إنشائها أنه كان عظيم الاعتقاد في الشيخ محمد عاشق النقشبندي فطلب منه أن يبني له ولصوفيته مكانا للسكن والعبادة فبنى لهم هذه التكية سنة 1268، وجعل بها مصلى وحجرا للصوفية ودارا لشيخهم وأنشأ بها حديقة ووقف عليها أوقافا كثيرة، ثم لما توفي الشيخ محمد عاشق المذكور سنة 1300 دفن بها في مقصورة ولم يعقب ذكورا فتولى عليها سبطه السيد عثمان خالد وما زال بها إلى الآن، وكانت والدة عباس باشا المذكور لما حجت أحضرت معها من الحجاز شعرة أهديت إليها على أنها من الشعر الشريف، فلما حضرتها الوفاة سلمتها للشيخ محمد عاشق وطلبت منه حفظها بالتكية ليتبرك الناس بها، وهي ملصقة بقطعة من الشمع ومحفوظة في ثلاثة صناديق صغيرة الواحد داخل الآخر، وكان الشيخ يحتفل بإخراجها في ليلة المولد النبوي وليلة الإسراء ويدعو لذلك العلماء وكبار رجال الدولة والأعيان ويولم لهم، ثم يخرجها من الصناديق ويمسح بها على جفونهم ويناله منهم الشيء الكثير، ثم بطل هذا الاحتفال بعد موته وجعلها سبطه بصناديقها في صندوق أكبر منها علقه على المقصورة التي بها قبر جده، وهي باقية إلى اليوم كذلك . (2-3) شعرات القسطنطينية

أفادنا صديقنا العلامة السيد عبد الله مخلص

7

المقيم الآن بحيفا أنها كانت يوم تولي السلطان محمد رشاد بن عبد المجيد المعروف بمحمد الخامس

8

ثلاثا وأربعين شعرة محفوظة مع الأمانات المباركة، وأنه أهدى منها إلى بعض المدن بالمملكة العثمانية أربعا وعشرين وبقي تسع عشرة يرجح أنها باقية إلى اليوم؛ لأن الفترة التي تلت موت رشاد وتولى فيها وحيد الدين ثم عبد المجيد كانت فترة قلاقل وفتن، ثم تلاها عصر إلحاد ومروق من الدين ويبعد أن يفكر أحد في هاتين المدتين في الآثار النبوية وإهداء الشعرات الشريفة منها. قلنا: وقد علمنا أن السلطان رشادا أهدى ملكة بهوبال شعرة منها أيضا، فيكون الباقي الآن ثماني عشرة، والله أعلم. (2-4) شعرات أخرى بالقسطنطينية

كان المعروف أن ببعض مساجدها شعرات مفرقة بينها غير التي بالأمانات المباركة، وقد نقلت ثلاث منها إلى ثلاث مدن بفلسطين كما سيأتي، وأخبرنا أستاذنا العلامة الأكبر الشيخ عبد الرحمن قراعة الذي كان مفتيا بالمملكة المصرية عن المولى نوري أفندي آخر قضاة الدولة العثمانية بمصر أنه كان عنده شعرات نبوية، قال: وأظنه أخبرني أنها ثلاث كانت متوارثة في أسرة والدته وكانت خالته آخر من كان يحفظها منهم، ثم رأته أجدر بها منها فسلمتها إليه ليقوم بحفظها في حياته وتبقى في أسرته من بعد، ولا يعلم الآن عن هذه الشعرات ولا عن حافظها شيء وكان آخر العهد به حين فصلته الدولة المصرية عقب وقوع الحرب العظمى وسفرته مع أسرته إلى القسطنطينية، وبلغنا أنه جعل هناك شيخا للإسلام ثم لم نسمع عنه شيئا، ولاسيما بعد الانقلاب الكمالي الذي انتهكت فيه حرمة الدين وعلمائه. (2-5) شعرة المشهد الحسيني بدمشق

الملاصق للجدار الشرقي لصحن المسجد الأموي وقد سألنا عنها الصديق العلامة الأستاذ كاملا القصاب الدمشقي نزيل حيفا الآن، فأجابنا بما أفاده عنها أخوه الفاضل السيد سعيد الحمزاوي وهو ما أخبره به عن ابن عمه السيد حسين الحمزاوي عن أبيه السيد عبد الكريم الحمزاوي أن هذا المشهد كان متهما تكتنفه أطلال بالية فزاره والي دمشق الوزير فؤاد باشا سنة 1278 وسعى لدى السلطان عبد العزيز في تعميره وجعل الدار المجاورة له تكية باسم المقام يطعم فيها الطعام كل يوم بعد العصر، وطلب من علماء دمشق انتخاب مشرف للمقام ومشرف للتكية من أهل الصلاح والعلم، فاختاروا السيد سليما الحمزاوي والد السيد عبد الكريم المذكور والأخ الأكبر للسيد محمود الحمزاوي مفتي الشام، مشرفا على المقام لصلة نسبه بصاحبه الإمام الحسين عليه السلام وانتخبوا الشيخ محمدا العاني مشرفا على التكية، إلا أن التقليد السلطاني جاء باسم السيد خلوصي القادري من أهل القسطنطينية بدلا من العاني، ثم إن السلطان عبد العزيز أرسل بشعرة من الآثار النبوية لتحفظ بهذا المقام فحفظت فيه وما زالت إلى اليوم يحتفل بإخراجها في العام مرة واحدة في ليلة 27 رمضان ويزورها الناس بعد صلاة التراويح فيقرأ القراء ثم يسارعون في الصلاة على النبي

صلى الله عليه وسلم

ويخرجها المشرف فيتبرك الحاضرون بتقبيلها وهي بيده، وذكر الصلاة مستمر إلى أن تنتهي الزيارة فتعاد إلى لفائفها وصناديقهم وترفع إلى مكانها وفي هذا المقام لوح معلق بالجدار مكتوب فيه هذه الأبيات:

على قبة الأفلاك تشمخ قبة

من أركانها نور النبوة بادي

حوت رأس مولانا الحسين ونجله

بها عبد الباري لنيل مراد

بناها وهي حتى أتى الوقت أرخوا

وجددها فضل الوزير فؤاد

1278 (2-6) شعرة مقام التوحيد بدمشق

وهو المقام المنسوب للسيد سعد الدين الجباوي (رضي الله عنه) سأل عنها السيد سعيد الحمزاوي الشيخ بدر الدين السعدي شيخ هذا المقام فأخبره أن والده الشيخ إبراهيم سعد الدين تشرف بهذه الشعرة بالنقل عن والده الشيخ محمد سعد الدين، وهو تلقاها وتشرف بها عن والده الشيخ محمد الأمين الشهير ببني سعد الدين، وهكذا بالتسلسل عن جددهم، وأوقات زيارتها يوم المولد النبوي وليلة المعراج وليلة 27 رمضان وهو ما كان عليه عمل الأجداد والأسلاف، وفي هذه الشعرة يقول الأستاذ الأكبر العلامة السيد محمود الحمزاوي مفتي الشام المتوفى سنة 1305:

شرف المحل بقدر من قد حله

أمر بديهي الثبوت بلا خفا

ولذلك المحراب فخر شامخ

إذ حل فيه شريف شعر المصطفى

وقد نقشا على العتبة العليا من مقام هذه الشعرة سنة 1292، وكان رحمه الله يتولى إخراجها في المواسم فيزورها الحاضرون وهي بيده ثم يعيدها إلى لفائفها ويرفعها إلى مكانها. (2-7) شعرة بيت المقدس

لها خازن خاص غير الخطيب والإمام، والراجح أنها جلبت إليها قديما، وخازنها اليوم من أسرة الشهابي، وميعاد زيارتها في 27 رمضان. (2-8) شعرتان بعكا وحيفا

من البلاد الفلسطينية، وكانتا بالقسطنطينية من شعرات الأمانات المباركة، فأهداهما السلطان محمد رشاد لهذين البلدين، فحفظت إحداهما بمسجد أحمد باشا الجزار بعكا، والثانية بالجامع الكبير بحيفا، وميعاد زيارتهما في 27 رمضان. (2-9) ثلاث شعرات بصفد وطبرية والناصرة

من البلاد الفلسطينية، وكانت مفرقة ببعض مساجد القسطنطينية، ونقلت إلى هذه البلاد بأمر السلطان محمد رشاد، فحفظت واحدة بمسجد غار يعقوب بصفد، والثانية بالمسجد العمري بطبرية، والثالثة بالمسجد المنسوب لعلي باشا بالناصرة، وعلي باشا هذا هو والد عبد الله باشا والي صيدا الذي أسره إبراهيم باشا ابن العزيز محمد علي في إغارته على البلاد الشامية، ثم سرقت شعرة الناصرة من المسجد إبان الحرب العظمى التي بدأت في أواخر سنة 1332ه، والسبب في نقل هذه الشعرات الثلاث من المساجد أن السلطان رشادا لما أهدى الشعرتين لعكا وحيفا طلب أهالي هذه البلاد الثلاثة إهداءهم أيضا من هذه الشعرات للتشرف والتبرك بها، فأمر بأدائها لهم من التي بالمساجد؛ لأنه خشي من موالاة الإهداء من شعرات الأمانات أن تقل ثم لا يبقى منها شيء، وجميع الشعرات المهداة من هذا السلطان جعلت في أنابيب من الزجاج ترى منها بالعين في غاية الوضوح، وكل أنبوب ملفوف بأربعين قطعة من الحرير مختلفة الألوان وموضوع في صندوق صغير يحفظ طول السنة في خزانة من الحديد، وميعاد زيارتها كل عام في 27 رمضان بعد صلاة العصر. (2-10) شعرتان بطرابلس الغرب

أفادنا عنهما حضرة الفاضل الشيخ الطاهر أحمد الطرابلسي الزاوي نسبة إلى الزاوية الغربية، وهي حوزة بطرابلس الغرب تجمع عدة قرى؛ إحداهما: بمدينة طرابلس بجامع طور غود باشا في مقصورة غاية في الحسن بالجهة الشرقية من الجامع عن يسار الداخل، وهي في قارورة من زجاج مستديرة ملفوفة بقطع من الحرير ومحفوظة في صندوق من الآبنوس، ويحتفل بزيارتها في ليلة النصف من شعبان وليلة المعراج، فيتهافت الناس على تقبيلها للتبرك، والمتولي الإشراف عليها نقيب الأشراف، وهو الذي يحملها بيده ويناولها للزائرين، وله مرتب من الأوقاف على ذلك، ويقال: إنها كانت بالقسطنطينية، فنقلها أحمد راسم باشا إلى طرابلس. والثانية: ببني غازي في جامع راشد باشا المشهور بجامع عثمان، وقد نقلت إليه من الجامع الكبير، وجعلت في مقصورة بأعلى الجامع من الداخل في الجانب الشرقي، وهي أيضا في زجاجة ملفوفة بلفائف من الحرير، ومحفوظة في صندوق من الآبنوس، ويحتفل بزيارتها في المواسم المتقدم ذكرها، ويتولى الإشراف عليها المفتي. (2-11) شعرة في بهو بال بالمهند

أهداها السلطان محمد رشاد لملكة بهو بال سلطان جهان بيكم

9

بنت ملكتها شاه جهان بيكم، لما زارته في رحلتها إلى أوربة والقسطنطينية. أخبرنا الأديب الفاضل السيد أبو النصر أحمد البهوبالي نزيل القاهرة، أنها لما عادت إلى بهو بال، احتفلت بنقل هذه الشعرة إلى الجامع الأعظم لتحفظ به، فوضعت بلفائفها في صندوق ثمين حمله ولدها ملك بهوبال الآن على رأسه، فتكأكأ الناس عليه للتبرك بلمس الصندوق ولم يخلص إلى المسجد إلا بعسر، ثم إنهم احتفلوا بزيارة هذه الشعرة بالمسجد مرة واحدة، ثم أبطلت الزيارة لاعتراض بعض العلماء وبقيت في صندوقها محفوظة بالمسجد إلى اليوم.

هذا ما تيسر لنا الوقوف عليه من خبر الشعرات المنسوبة إلى سيد الوجود

صلى الله عليه وسلم ، والله سبحانه أعلم بالصحيحة منها وغير الصحيحة.

هوامش

العلم النبوي

كان لرسول الله

صلى الله عليه وسلم

عدة ألوية ورايات، منها ما كان خاصا، ومنها ما كان يعقده لأمراء جيوشه وسراياه، وقد تتبعنا ما ورد عنها في التاريخ فلم نعثر على ذكر شيء منها بقي بعد زمن النبوة إلا ما يذكرونه عن الراية المسماة بالعقاب، وهذا ما وقفنا عليه عنها:

جاء في مادة (عقب) من لسان العرب: «والعقاب علم ضخم، وفي الحديث أنه كان اسم رايته عليه السلام العقاب، وهي العلم الضخم ، والعرب تسمي الناقة السوداء عقابا على التشبيه، والعقاب الذي يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر، وهي مؤنثة أيضا». ا.ه. وقال ابن سيد الناس في سيرته المسماة بعيون الأثر في باب ما كان لرسول الله

صلى الله عليه وسلم

من السلاح والدروع والرايات ما نصه: «وراية سوداء مربعة يقال لها العقاب، وراية بيضاء يقال لها الزبنة وربما جعل فيها الأسود. وروى أبو داود في سننه من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم، قال: رأيت راية رسول الله

صلى الله عليه وسلم

صفراء

1 . وروى أبو الشيخ بن حيان من حديث ابن عباس قال: كان مكتوب على راياته: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال الحافظ الدمياطي: قال يوسف بن الجوزي

2

روى أن لواءه

3

أبيض مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله». ا.ه.

وفي الكامل لابن الأثير ومعجم البلدان لياقوت أن خالد بن الوليد (رضي الله عنه) لما سار من العراق لفتح الشام ووصل إلى الثنية المشرفة على غوطة دمشق كان ناشرا رايته، وهي راية كانت لرسول الله

صلى الله عليه وسلم

تسمى العقاب، فوقف عليها ساعة فسميت ثنية العقاب، وقيل: سميت بعقاب من الطير سقطت عليها والأول أصح. انتهى ملخصا منهما. وجاء عنها في آثار الأول في ترتيب الدول أنها كانت سوداء وأنها ركزت على جبل دمشق على الثنية فسميت بها وهي ثنية العقاب. وفي تاريخ اليعقوبي ما نصه: «وروى بعضهم أن خالد بن الوليد سار إلى غوطة دمشق ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء

4

تدعى العقاب فيها سميت ثنية العقاب».

قلنا: ومن عند خالد بن الوليد انقطع خبر هذه الراية في التاريخ، فلم نقف على انتقالها أو انتقال غيرها من الرايات النبوية إلى أحد من الخلفاء أو الملوك سوى ما يدعيه الترك في اللواء المحفوظ مع الآثار القسطنطينية وما رواه الجبرتي عن لواء آخر سمته العامة بمصر بالبيرق النبوي.

لواء القسطنطينية

تقدم في الآثار التي بالقسطنطينية ذكر لواء زعموا أنه من الألوية النبوية، وقد بينا هناك أن في هذه الآثار ما يحتمل أن يكون صحيحا، وإنما توقفنا فيها لأنا لم نر لها ذكرا في رواية لأحد الثقات يمهد للنفس سبيل الاطمئنان إليها، ولم يفصح مؤرخو الترك عن لون هذا اللواء ولا ذكروا شيئا من صفته ولا ما كتب عليه، وإنما يروون من خبره أن بني عثمان كانوا يحرصون عليه حرصهم على بقية الأمانات المباركة، وأنهم اضطروا إلى إخراجه ونشره في بعض الفتن ليتألفوا به الأمة كما حدث في قيام اليكيجرية على السلطان أحمد بن محمد المعروف بأحمد الثالث المتولي سنة 1115 فإنه اضطر إلى إخراجه وركزه بباب القصر وبث المنادين في الأهالي بالاجتماع عنده ولكنه لم يوفق في قمع الفتنة وانتهى الأمر بخلعه، وحدث في قيام اليكيجرية على السلطان سليمان بن إبراهيم المتولي سنة 1099 بسبب نفقة البيعة أن أحد التجار ممن نهبت أمتعتهم أراد أن يحتال في تأليب العامة عليهم فعمد إلى رمح عقد عليه شقة من البز الأبيض موهما أنه اللواء النبوي أخرج من القصر، وتسامعت العامة به فتجمت والتفت حوله، ولما أراد السلطان محمود عبد الحميد الملقب بالثاني إبادة اليكيجرية وتخليص الدولة من أذاهم اضطر إلى إخراج اللواء من الأمانات ليقوي به نفوس شيعته ويكثر سوادهم بمن يلتفت من العامة حوله، قال المولى محمد أسعد قاضي القسطنطينية في كتابه (أس ظفر

5 ) الذي ألفه بالتركية في هذه الحادثة: إن السلطان لما أراد الزحف عليهم أخرج اللواء النبوي من حجرة الخرقة الشريفة وسلمه للصدر الأعظم وشيخ الإسلام وقد فصل غيره من مؤرخي الترك هذا الخبر بأنهم لما أعلنوا بالعصيان أسرع الصدر الأعظم وعلماء الدولة وكبراؤها إلى قصر بشكطاش مقر السلطان وأعلموه بالخطب وانتقلوا معه إلى قصر طوبقبو الذي به الأمانات وتضرعوا إليه بإخراج اللواء الشريف فاستعظم الأمر وتمنع خشية من عطب يصيبه ثم ما زالوا به حتى رضي وذهب إلى حجرة الأمانات فأخرجه وحمله إليهم وهو يبكي وسلمه للصدر الأعظم وشيخ الإسلام فذهبا به إلى أت ميدان

6

ومعهما المدفعية من جنود النظام الجديد لقتال أولئك البغاة ولما وصلوا إلى الميدان تقدم قاضي إستنبول وصاح قائلا: من اختار اليكيجرية فليذهب إلى مراجلهم

7

ومن اختار الإسلام فليضو إلى السنجق الشريف

8

فأسرع أغلب الناس للانضمام إلى اللواء، ثم أطلقت المدافع على اليكيجرية وثكنتهم فهدمت عليهم وكتب إلى الولايات بإبادتهم فأبيدوا عن آخرهم، وقد وهم البستاني في دائرة المعارف ومحمد فريد بك في تاريخ الدولة العلية العثمانية في زعمهما أن السلطان سار بنفسه مع جند المدفعية إلى آت ميدان وهو قول لم يقله أحد من مؤرخي الترك ولاسيما المشاهدين منهم للحادثة، والصواب أنه بقي بالقصر وأرسل الصدر الأعظم وشيخ الإسلام واللواء والجنود كما ذكرنا.

اللواء الذي سموه بمصر البيرق النبوي

9

وهو علم كبير من الأعلام التي كانت بالقلعة أخرجه السيد عمر مكرم نقيب الأشراف للعامة عند قيامهم لدفع الفرنسيس عن القاهرة فسموه بالبيرق النبوي، والظاهر أن بعض قادتهم اختلق لهم ذلك ليزيد في تحمسهم فاعتقدوه، وملخص خبر هذه الواقعة أن الفرنسيس لما قصدوا الاستيلاء على مصر سنة 1213 كان عليها وال عثماني ليس له من الأمر شيء على عادة ولاتهم بها، وكان يحكمها كبيران من الجراكسة مشاركة وهما إبراهيم بك الكبير ومراد بك، والتصرف في أغلب الأمور لمراد بك، وكان أخرق رهقا من شر أمرائهم وأضراهم بظلم الرعية وأجبنهم عند اللقاء، فمن مساويه في ذلك أنه خرج قبل مجيء الفرنسيس للتنزه في الريف أي الوجه البحري فعاث فيه وأفحش في القتل والنهب وإحراق القرى وتشتيت سكانها، ثم عاد إلى القاهرة ظافرا مملوء الوفاض بالغنائم بعد أن غادر أكثر قراه ببابا فلم يلبث أن بلغه نبأ احتلال الفرنسيس للإسكندرية في المحرم من تلك السنة وشروعهم في الزحف على القاهرة، فخرج إليهم بجنوده من الجراكسة وغيرهم والتقى بهم جهة الرحمانية بالبحيرة فلم تكن غير مناوشات هينة نكص فيها على عقبيه إلى جهة إمبابة بالشاطئ الغربي للنيل تجاه القاهرة، وأخذ يتحصن بها فلحقه الفرنسيس فلم يقو على لقائهم وانهزم هو وجنده في أقل من ساعة وفر إلى الصعيد وفر الوالي العثماني وإبراهيم بك إلى جهة الشام وتشتت بقية الأمراء وتركوا الشياه للذئاب، وكان أهالي القاهرة قاموا قياما محمودا أبانوا فيه عن نخوة وحمية وسخاء بالنفوس والأموال وساروا إلى بولاق بالشاطئ الشرقي لمساعدة الجنود فلما وقعت الهزيمة حول الفرنسيس الرمي إلى هذا الشاطئ فشتتوهم ودخلوا القاهرة يوم الثلاثاء العاشر من صفر.

وهذا نص ما ذكره الجبرتي عن قيام الأهالي ومسيرهم بهذا العلم إلى بولاق قبل ذلك بأسبوع، أي: في يوم الثلاثاء 3 صفر سنة 1213: «وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم فأغلق الناس الدكاكين والأسواق وخرج الجميع لبر بولاق فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياما أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم قيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث إن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يشح في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزمور والأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك». ا.ه.

قلنا: وما زال في عوام المصريين من يعتقد بأن العلم العثماني ذا الهلال والنجم متخذ على مثال العلم النبوي، ولهذا تضاعف تألمهم لما غير في مصر بالعلم ذي الأهلة والأنجم الثلاثة بعد إعلان انفصالها من الدولة العثمانية إبان الحرب الكبرى الواقعة أواخر سنة 1332ه، ولعل منشأ هذا الاعتقاد ظنهم أن شارات دولة الخلافة تقتبس عادة من شارات نبوية، على أنهم في ذلك ليسوا بأوغل في الوهم من كثير من خاصة المسلمين وعامتهم في عدهم الهلال رمزا دينيا له عند المسلمين ما للصليب عند النصارى، وما كان قط كذلك، وإنما حبب إلى مسلمي العصور الأخيرة وعظم لديهم لكونه شارة للعلم في آخر دولة أدركوها من دول الخلافة.

هوامش

الركاب النبوي

لم نقف إلا على خبر ركابين قيل: إنهما نبويان؛ أحدهما: كان عند علاء الدين الخلاطي. والثاني: كان عند الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي من ذرية صلاح الدين الكبير. أما الأول فمذكور في ترجمة الخلاطي بالدرر الكامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني، ونصها: «علي بن محمد بن الحسن الخلاطي الحنفي علاء الدين الملقب بالقادوسي

1

لطول تكوير عمامته، ويعرف أيضا بمزلقان، وكان يقال له: الركابي لأنه كان يزعم أن عنده ركاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وكان يزعم أيضا أن عنده من شعره، وتفقه واشتغل وتقدم ودرس بالظاهرية وولي إمامتها، وهو أول من أم بها ودرس بالديلمية، وكتب على الهداية شرحا، وناب في الحكم عن معز الدين نعمان بالحسينية، ومات في النصف من جمادى الأولى سنة 708».

وأما الثاني فرأيته مذكورا في جزء عندي قديم الخط من تاريخ لبغداد لم أعرف اسمه ولا اسم مؤلفه، جاء فيه في حوادث سنة 653 ما نصه: «وفيها أرسل صلاح الدين بن أيوب صاحب دمشق وحلب إلى الخليفة المستعصم رسولا معه فردة ركاب كبيرة من حديد قد ذكر أنها ركاب النبي

صلى الله عليه وسلم ، وأنها عند بني أيوب يحفظونها كما يحفظ بنو العباس البردة الشريفة، فقبلها الخليفة وجعلها في خزانته مع البردة والقضيب

2 ، فأنشد أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد ارتجالا:

لو كنت في زمن النبي محمد

من آله أو كنت من أصحابه

ما رام قلبي غير لثم ركابه

شرفا وقد بلغت لثم ركابه»

انتهى. وصلاح الدين المذكور هو الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكبير، كان ملكا لحلب، ثم استولى على دمشق وأضافها إلى مملكته سنة 648، وجعلها مقر ملكه، وكان سمحا جوادا حسن الأخلاق، غير أنه لما بلغته كائنة هلاكو ببغداد وقتله للخليفة هرب من دمشق، وكان اجتمع له فيها عساكر كثيرة تناهز المائة ألف فترك الجميع وهرب، ثم أحسن الظن بالمغول واتصل بهم فاستصحبوه معهم ثم غدروا به وقتلوه شر قتلة سنة 658. انتهى ملخصا من تحفة الأحباب فيمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب للصفدي، ومن عيون التواريخ لابن شاكر.

هوامش

النعال النبوية

النعل التي كانت عند السيدة عائشة

ذكرها العلامة الأديب أحمد بن محمد المقري، مؤلف نفح الطيب في كتابه فتح المتعال في مدح النعال، الذي ألفه في مثال النعل النبوية وما قيل فيها، وقد أورد لها عدة أمثلة أقواها في الصحة مثالان: ذكر أن الأول منهما حذي على نعل نبوية كانت عند أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، وأن هذا المثال

1

هو معتمد عدة من الأئمة الثقات: كأبي بكر بن العربي، وابن عساكر، وابن مرزوق، والفارقي، والبلقيني، والسخاوي، والسيوطي، وابن فهد، وغيرهم. وأتى على ما يثبت ذلك من الروايات بأسانيدها، ثم صارت هذه النعل الشريفة لإسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، وسبب ذلك على ما رواه عن الثقات أنها كانت عند عائشة (رضي (الله) عنها، ثم صارت من قبلها إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق (رضي الله عنهما، وكانت أم كلثوم تحت طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل خلفه عليها عبد الله

2

بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، وهو جد إسماعيل المذكور الذي كانت عنده النعل، ثم ذكر نعلا أخرى كانت بالمدينة، عند فاطمة بنت عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)، ولم يفصح عما صار إليه أمر هاتين النعلين بعد ذلك.

نعل كانت بالأشرفية بدمشق

ذكروا أنها كانت عند بني أبي الحديد يتوارثونها، ثم صارت للملك الأشرف موسى بن العادل الأيوبي، فجعلها في دار الحديث الأشرفية التي أنشأها بدمشق

3 ، وقد أشار إليها ابن كثير في البداية والنهاية ص6 في كلامه على النعل النبوية بقوله: «واشتهر في حدود ستمائة وما بعدها عند رجل من التجار يقال له: ابن أبي الحديد نعل مفردة، ذكر أنها نعل النبي

صلى الله عليه وسلم ، فسامها الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب المذكور، فأخذها إليه وعظمها، ثم لما بنى دار الحديث الأشرفية إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها، وجعل لها خادما، وقرر له من المعلوم كل شهر أربعين درهما، وهي موجودة إلى الآن في الدار الأشرفية».

ونقل سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان (ج8 ص471) خبر مصير هذه النعل إلى الأشرفية عن الملك الأشرف نفسه فقال في ترجمته الواردة في وفيات سنة 635 ما نصه: «وكنت عنده بخلاط، فقدم علينا النظام ابن أبي الحديد ومعه نعل النبي

صلى الله عليه وسلم ، فعرفته بقدومه فقال يحضر، فلما دخل عليه ومعه النعل قام قائما ونزل من الإيوان وأخذ النعل فقبلها ووضعها على عينيه وبكى، وخلع على النظام وأعطاه نفقة وأجرى عليه جراية، وقال: تكون في الصحبة نتبرك بك. وانفصلت عن خلاط، وأقام عنده، فبلغني أنه قال: هذا النظام يطوف البلاد وما يقيم عندنا، وأنا أوثر أن يكون عندي قطعة منها، ثم بات يفكر ورجع عن ذلك الخاطر، ولما أخذ دمشق حكى لي قال: عزمت على أخذ قطعة منها، فقلت: ربما يجيء بعدي من يفعل مثل فعلي فيتسلسل الحال ويؤدي إلى استئصالها بالمرة، فتركتها وقلت: من ترك شيئا لله عوضه الله أمثاله، ثم أقام عندي النظام شهورا، واتفق أنه مات وأوصى لي بالنعل فأخذت النعل بأسرها، ولما فتح دمشق اشترى دار قيماز النجمي وجعلها دار حديث وترك النعل فيها، ونقل إليها الكتب الثمينة، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة» ا.ه. وذكر المقري في فتح المتعال رجلا اسمه أحمد من بني أبي الحديد الذين كانوا يتوارثون هذه النعل رأى اسمه في استجازة من الشيخ المحدث أبي عبد الله البرزالي تاريخها سنة 609 منعوتا بصاحب نعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم

4 ، ثم نقل عن تاريخ البدري في الملك الأشرف ما صورته: «وقد كان شجاعا كريما جوادا محبا للعلم وأهله، لاسيما أهل الحديث ومنادمة

5

الصالحين، وقد بنى لهم دار الحديث بالسفح» إلى أن قال: «وجعل فيها نعل النبي

صلى الله عليه وسلم

الذي ما زال حريصا على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر».

وممن ذكره العلماء واجتمعوا به من بني أبي الحديد أبو الحسين بن أبي الحديد، ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق، وملخص ما نقله عنه المقري في التعريف به أنه أبو الحسين عبد الرحمن بن عبد الله بن القاسم بن الحسن بن عبد الله بن أبي الحسن أحمد بن أبي الفضل عبد الواحد بن أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان المعروف بابن أبي الحديد السلمي الخطيب كان شيخا صالحا سليم الجانب سديد السيرة من بيت الحديث والخطابة، وكان جده الأعلى أبو الحسن بن أبي الحديد من مشهوري المحدثين. قال ابن عساكر سمعت عنه بدمشق أجزاء ودخلت داره المليحة وقرأت عليه، ورأيت نعل النبي

صلى الله عليه وسلم

معه، وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة 464 بدمشق ووفاته بها نهار يوم السبت مستهل جمادى الآخرة من سنة 546 ودفن في مقابر باب الصغير. ا.ه

6 .

ونقل المقري أيضا كلاما مفصلا مفيدا في هذه النعل عن رحلة الحافظ الرحال أبي عبد الله محمد بن رشيد

7

الفهري المغربي السبتي المالكي المسماة: «ملء العيبة مما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» يتلخص في أنه قصد زيارة هذه النعل بالمدرسة الأشرفية المذكورة للتبرك بها والاستشفاء من مرض أصابه فوجد بركتها، ورأى بالمدرسة بيتين بنيا في قبلتها أحدهما عن يمين المحراب به نسخ من المصاحف، والآخر عن يساره فيه النعل الكريمة، وهي فردة واحدة، وقد جعل لهذا البيت باب مصفح بالنحاس الأصفر كأنه صفائح ذهب، وعلق عليه كلل حرير ثلاث خضراء وحمراء وصفراء، ووضعت النعل الكريمة على كرسي من آبنوس، ثم وضع على النعل لوح من آبنوس، ونقر في وسط اللوح بمقدار ما ظهرت النعل منخفضة عن اللوح بمقدار النقر ، ولا شك أنه بقي منها تحت أطراف اللوح مقدار ما ثبت به تحت اللوح وما أخذته المسامير التي طوقت به فإن الدائر المحيط بها كله مكوكب بمسامير فضة ويملأ ذلك الظاهر منها الذي هو منقور عليه بأنواع الطيب حتى إن الذي يلثمها يتمرغ فمه في طيبها، وقد وكل بها قيم له عليها مرة بلغنا أنه أربعون درهما ناصرية، وأمر بفتحها يوم الإثنين ويوم الخميس للناس للتبرك بلثمها. ا.ه.

ثم ذكر المقري أيضا أن هذه النعل الشريفة كانت عند أم المؤمنين ميمونة بنت الحارس الهلالية (رضي الله عنها) مما تركه النبي

صلى الله عليه وسلم

فتوارثها ورثتها من بعدها إلى أن وصلت إلى بني أبي الحديد

8

وما زال يتوارثونها إلى آخرهم موتا، وأنه ترك ثلاثين ألف درهم وترك تلك النعل وولدين له فتراضيا على أن يأخذ أحدهما المال ويأخذ الآخر النعل الشريف فصار يذهب بها إلى أرض العجم ويفد على الملوك فيتبركون بها حتى رجع إلى خلاط فطلب منه الملك الأشرف ابن العادل أن يقطع له منها قطعة يتبرك بها، ثم رجع عن ذلك إلى أن آلت إليه وجعلها في دار الحديث التي ابتناها بدمشق ومما أنشده للحافظ ابن رشيد الفهري في هذه النعل أنه زارها بالأشرفية:

هنيئا لعيني إن رأت نعل أحمد

فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصد

وقبلتها أشفي الغليل فزادني

فيا عجبا زاد الظما عند مورد

فلله ذاك اللثم لهو ألذ من

لما شفة لميا وخد مورد

ولله ذاك اليوم عيدا ومعلما

بتاريخه أرخت مولد أسعد

عليه صلاة نشرها طيب كما

يحب ويرضي ربنا محمد

وأنشد للإمام أبي عبد الله محمد بن جابر الوادي آشى قوله لما رآها بالأشرفية وقبلها:

دار الحديث الأشرفية لي الشفا

فبها

9

رأت عيناي نعل المصطفى

ولثمتها حتى قنعت وقلت يا

نفسي أنعمي أكفاك قالت لي كفى

لله أوقات وصلت بها المنى

من بعد طيبة ما أجل وأشرفا

لك يا دمشق على البلاد فضيلة

أيامك الأعياد لازمها الصفا

ولكم يجيرون جررت ولم أخف

ذيلا وبرح هواي فيها ما اختفى

وأنشد فيها أيضا أبياتا دالية للإمام أبي بكر بن محرز تركنا ذكرها لتحريف وقع بها لم نهتد لصحته.

ومن الحوادث المتعلقة بهذه النعل الشريفة ما وقع بدمشق من نائب الشام سيف كراي زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وذلك أنه قرر على أهل دمشق ما عجزوا عن أدائه فأغلقوا البلد؛ لأنه أدخل في هذه المظلمة أهل الأسواق وحواضر البلد وأملاكها وحاراتها وأمر بكتابتها ليوظف عليها فضج الناس وشكوا إلى القضاة والخطباء والأئمة فتواعد الجميع على الطلوع إلى النائب المذكور، فلما كان يوم الإثنين ثالث عشر جمادى الأولى (أو الأخرى) من عام أحد عشر وسبعمائة أخذ الخطيب جلال الدين القزويني صاحب تلخيص المفتاح والإيضاح المصحف الكريم العثماني ونعل النبي

صلى الله عليه وسلم

من دار الحديث الأشرفية وأعلام الجامع التي تكون بين يدي الخطباء وخرج من باب الفرج ومعه العلماء والفقهاء والقراء والمؤذنون والأئمة وعامة الناس، فلما وصلوا إلى النائب واستغاثوا أمر بضربهم وقال للجلال القزويني حين سلم عليه: لا سلم الله عليك، وضرب النقباء الناس ورموا المصحف العثماني والنعل الشريفة النبوية فعندها رجمهم الناس وأخذوا الجلال القزويني إلى القصر وخلص العوام المصحف والنعل الشريفة والأعلام ودخلوا البلد، فاتفق بعد عشرة أيام أن عوقب سيف الدين كراي المذكور وقيد وسجن بأمر الناصر محمد بن قلاوون وناله من الإهانة ما ناله جزاء تهاونه بالمصحف الشريف والنعل النبوية، وفرج الله عن أهل دمشق وفرحوا بالانتقام الإلهي منه.

مصير هذه النعل مع نعل أخرى كانت معها بدمشق

قال المقري: «وقد فحصت عن أمر هذه النعل الشريفة في زماننا هذا فلم أجد لها عند أحد ممن سألت خبرا، وأظن أنها ذهبت في فتنة تيمورلنك حين خرب دمشق وأحرقها سنة ثلاث وثماني مائة حسبما هو مشهور ... وقد سئل بعضهم عن تاريخ تخريب تيمورلنك لدمشق، فقال: سنة خراب، يعني أن لفظ خراب هو التاريخ، وهذا نحو قوله لما سئل عنه سنة قيامه وثورته، فقال: سنة عذاب. يعني ثلاث وسبعين وسبعمائة، وهاتان توريتان عظيمتان فيهما اتفاق غريب، يعرف ذلك كل أريب. ثم بعد كتبي لما ذكرته بمدة وقفت على نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس للحافظ برهان الدين الحلبي رحمه الله، فإذا فيه نحو ما ظننته مع زيادة ونصه: (فائدة) الذي بقي من آثاره صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة الآن فيما نعرفه كان بقي نعلان بدمشق، كل فردة في مكان، واحدة بالأشرفية دار الحديث بقرب القلعة، أنشدونا لشيخ الإسلام شيخنا الإمام المحدث أمين الدين الأنفي المالكي

10 :

وفي دار الحديث لطيف معنى

وفيها منتهى أربي وسولي

أحاديث الرسول علي تتلى

وتقبيل لآثار الرسول

والفردة الثانية في الدماغية

11

المدرسية المعروفة للشافعية، ذهبتا في وقعة تيمورلنك لا يدري أين ذهبتا، والله أعلم. ا.ه.

قلت: الذي ذكره العلامة عبد الباسط بن موسى العلموي في مختصر تنبيه الطالب وإرشاد الدارس

12 (ص7) أن تيمورلنك أخذهما في تلك الوقعة ونص ما قال في كلامه على دار الحديث الأشرفية: «وبها نعل النبي

صلى الله عليه وسلم ، وكانت عند الإمام نظام الدين أبي العباس أحمد بن عثمان بن أبي الحديد السلمي مولده بدمشق سنة 560، وكان ورثها، أي: النعل من آبائه وكان الأشرف يقربه ويجله لأجلها ويؤمل أن يشتريها منه ويضعها في مكان ليزار فلم يسمح بذلك، وسمح بأن يقطع له قطعة منها فامتنع الأشرف حذرا من التطرق إلى إعدامها، ثم أقطعه الأشرف وقدر له معلوما فاستمر كذلك إلى أن توفي سنة 625 فأوصى بها للأشرف فأقرها بدار الحديث الأشرفية، ويقال: إنها كانت الفردة اليسرى، وأن الفردة اليمنى كانت بالمدرسة الدماغية، ولم تزالا إلى زمن تيمور، فلما دخل دمشق أخذهما».

قطعة كانت عند القاضي عبد الباسط

القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم (وقيل: ابن يعقوب) الدمشقي ثم القاهري ترجمه السخاوي في الضوء اللامع ج2 ص651 ترجمة طويلة جاء فيها أنه ولد سنة 784 بدمشق أو سنة 790 أو التي قبلها والأول أشبه، وتوفي بالقاهرة سنة 854 ودفن في تربته التي أنشأها بالصحراء ونال قسطا وافرا من الوجاهة والسؤدد في الدولة ، وكان حسن السياسة واسع الكرم اشترى بيت تنكز

13

وأصلحه وأكمله وسكنه وعمر تجاهه مدرسة بديعة انتهت سنة 823 ثم قبض عليه السلطان الملك الظاهر جقمق وأخذ منه قطعة قيل: إنها من نعل المصطفى

صلى الله عليه وسلم

وأهين باللفظ غير مرة ثم أطلق فحج وزار وسافر إلى بعض البلاد وعاد إلى القاهرة مستوطنا لها إلى أن توفي بها.

قلنا: دار تنكز المذكورة لم تزل باقية إلى اليوم بشارع الخرنفش، وكان يسكنها قاضي القضاة إبراهيم بن جماعة ثم ملكها القاضي عبد الباسط المذكور وتنقلت بعده من مالك إلى آخر حتى اشتراها عباس باشا الكبير قبل توليه على مصر، فغير معالمها وجدد بناءها على ما هي عليه الآن وسماها بالإلهامية نسبة لولده إلهامي باشا ثم اشتراها خليل باشا يكن من تركة إلهامي باشا ثم اشتراها منه عزيز مصر الخديو إسماعيل وأنعم بها على السادة البكرية شيوخ مشايخ الصوفية لما أخذ دارهم التي كانت على بركة الأزبكية عند تنظيم شوارعها، وما زالت إلى اليوم للبكرية يسكنونها، والمدرسة التي بناها القاضي تجاهها ذكرها المقريزي في الجوامع باسم الجامع الباسطي، وهو باق أيضا إلى اليوم ويعرف بجامع القاضي عبد الباسط وبجامع عباس باشا لتجديده بعض بنائه وبه قبر الشيخ أحمد بن خليل السبكي المتوفى سنة 1032، وكان يتولى الإمامة والخطابة به، وأما القطعة من النعل الشريفة فقد فصل المقريزي خبرها في تاريخه المسمى لمعرفة دول الملوك ونقله عنه المقري بمعناه في فتح المتعال فقال: «ذكر المقريزي المؤرخ المصري رحمه الله في تاريخه المسمى بالسلوك ما معناه أن السلطان سيف الدين جقمق لما غضب على القاضي زين الدين عبد الباسط وأمر بجعله في البرج دخل عليه والي القاهرة وأمره أن يخلع جميع ما عليه من الثياب فإنه نقل للسلطان أن معه اسم الله الأعظم، ولذلك كان كلما هم بعقوبته صرفه الله عنه فخلع جميع ما كان عليه من الثياب والعمامة ومضى بها إلى الوالي وبما في أصابع يديه من الخواتم فوجد في عمامته قطعة أديم، ذكر لما سئل عنها أنها من نعل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم. انتهى المقصود منه. ولعلها كانت من التي بالأشرفية بالشام، وكان لهذا القاضي الجاه العريض والتصرف في مملكة الإسلام بمصر والشام وما يليهما فلا يبعد أن يحصل له ذلك منها أو من غيرها من النعال النبوية التي كانت يتوارثها من خصه الله بها، والله أعلم» ا.ه. ما ذكره المقري.

النعل الشريفة التي بدار الشرفاء الطاهريين بفاس

ذكر عصرينا العلامة محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني المتوفى سنة 1345 في كتابه سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس (ج1 ص343) في ذكر من اشتهر من صلحاء حومة الجزيرة، وما أضيف إليها دار الشرفاء الطاهريين التي بها النعل الشريفة النبوية، فآثرنا نقل كلامه بنصه وإن طال لما فيه من الفوائد التاريخية، قال رحمه الله: «أعلم أن من مزارات هذه الحومة دار الشرفاء الطاهريين الصقليين التي بدرب أبي بكر وهي الأولى عن يمين الداخل إليه من جهة مصمودة لأن بها الآن نعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم

الشريفة التي كان يلبسها في رجله الشريفة بعينها وذاتها، وكانت قبل بدار أخرى كانت لهم بدرب الدرج من حومة درب الشيخ، ثم نقلوها إلى هذه وهي في ربيعة في جوف صندوق في مكان مرتفع في غرفة بأعلى الدار المذكورة معظمة محترمة وعندهم الشهادة بخطوط أئمة كبار أنها نعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وفي الإشراف في ترجمة الشرفاء المذكورين ما نصه: وبأيدي أصحاب الترجمة من الآثار النبوية والمتبركات المصطفوية نعلا الرسول

صلى الله عليه وسلم

الكريمتان اللتان كانتا بدقميه الشريفتين شاع خبرهما منذ أعوام، ولهج بذلك الخاص والعام قال الوالد قدس سره في نظمه عقود الفاتحة:

ومنهم سادة أبدت صقلية

14

مجلاهم وغدت من بعد في ظلم

وشعبة منهم للثم نعلهم

يرى هلال السماء فاتحا لفم

وفي تأليف للشيخ الإمام الأوحد أبي مالك سيدي عبد الواحد بن محمد الفاسي في السلالة الصقلية سماه غاية الأمنية وارتقاء الرتب العلية في ذكر الأنساب الصقلية ذات الأنوار البهية السنية، لما تعرض لذكر بني طاهر عقب الشريف الولي الجليل الأحظى الكفيل الأثيل ذي القدر السامي والفضل الجلي أبي العباس أحمد بن علي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وألف ما نصه: وسيدي أحمد بن علي المذكور هو الذي كان حائزا بداره التي بدرب الدرج من عدوة فاس الأندلسي

15

للنعلين الكريمتين اللتين لبسهما جده مولانا رسول الله

صلى الله عليه وسلم

بقدميه الشريفتين كما شاع خبرهما منذ أعوام ولهج بذكرهما الخاص والعام، أعاد الله علينا من بركتهما آمين.

وقد رآهما وتبرك بهما بالدار المذكورة جماعة من أعيان العلماء منهم الشيخ الحافظ أبو زيد سيدي عبد الرحمن بن شيخ الإسلام أبي محمد سيدي عبد القادر الفاسي، وذلك سنة سبع وستين وألف هو وجماعة من الأئمة الأعيان وقيست النعل الشريفة بمثال بشهادة عدلين وكان المقيس

16

له على الأصل الشريف الفقيه العلامة سيدي حمدون المزوار، ونظم ذلك أبو زيد المذكور في أبيات كتبت على ذلك المثال المحذو عليه، وفي نشر المثاني في ترجمة الشيخ الفقيه البركة أبي عبد الله سيدي محمد ابن الشيخ أبي زيد سيدي عبد الرحمن المذكور

17

ما نصه: ووجدت بخط صاحب الترجمة نسب لوالده هذه الأبيات الخمسة كتبها على مثال مقاس على النعل الذي بيد مولاي أحمد طاهر الشريف الحسيني الصقلي نزيل درب الدرج من عدوة فاس الأندلس الذي عنده الشهادة بخطوط أئمة أنها نعل المصطفى مولانا محمد

صلى الله عليه وسلم ، وهي هذه الأبيات:

نعال بها إذا مست الأرض شرفت

بها الأرض عن أفق السموات في الفضل

فما مثلها ذخر وهذا مثالها

طباق الذي للمصطفى كان في الرجل

وعند الصقليين من شرفائنا

بفاس وجدتها فقيست بذا المثل

وفي السبع والستين والألف صنعه

محكم إتقان بشاهدي العدل

18

وشاهده العمراني وهو محمد

وأحمد المزوار قاسه بالأصل

وفيه أيضا ما نصه: ومن خط بعض أشياخنا رحمه الله رأيت نعل المصطفى

صلى الله عليه وسلم

التي بدار الشرفاء الطاهريين الحسينيين الصقليين القاطنين بعدوة فاس الأندلس فتبركت بها على أعلى البدر والحمد لله وتوسلت بها إلى الله في حوائج فما رأيت أسرع إلى الإجابة منها في بعضها وأنا أرجو الله في الباقي أوائل سنة أربع وأربعين ومائة وألف وممن عاينها وتبرك بها من المتأخرين شيخ الجماعة أبو عبد الله سيدي محمد التاودي بن سودة المري، وفي ذلك يقول:

دار بمصمودة المكارم والوفا

فيها رأت عيناي نعل المصطفى

19

ولثمتها

20

حتى شبعت وقلت يا

نفسي أنعمي أكفاك؟ قالت لي كفى

قال في الإشراف: ولعله تمثل بهما مع تغيير في الشطر الأول إذ هما من جملة أبيات للشيخ الإمام المحدث ابن جابر الوادي آشي نظمها بدار الحديث الأشرفية في دمشق المحروسة، وقد رأى فيها نعل النبي

صلى الله عليه وسلم

فقبلها وقال:

دار الحديث الأشرفية لي شفا

فبها رأت عيناي نعل المصطفى

ولثمتها حتى قنعت وقلت يا

نفسي أنعمي أكفاك قالت لي كفى

لله أوقات وصلت بها المنى

من بعد طيبة ما أجل وأشرفا

لك يا دمشق على البلاد فضيلة

أيامك الأعياد

21

ألزمها الصفا

وممن نسبها لابن جابر المذكور المقري في أزهار الرياض، وزاد في آخرها بيتا وهو:

ولكم بجيرون جررت ولم أخف

ذيلا وبرح هواي فيها ما اختفى

وقد قال الشيخ التاودي في حاشيته على البخاري في باب الشرب من قدح النبي

صلى الله عليه وسلم

من كتاب الأشربة ما نصه: وقد من الله علي مع حقارتي وضعف تعلقي بالسنة والحديث بأني رأيت فردا من نعل النبي

صلى الله عليه وسلم

ومسحت به وجهي وعيني وذلك في العشرة الأخيرة من المائة الثانية عشرة، وهذه النعل بدار الأشراف الطاهريين بعدوة الأندلس قرب مصمودة هناك معروف جدهم بصاحب النعال، وكان السلطان مولاي إسماعيل جبر على أخذها فأعطوه واحدة وكتموا الأخرى فلهذا لا يطلعون عليها أحدا، وهي عندهم في ربيعة في صندوق في مكان معظم محترم، ورأيت حوله خط واحد من العلماء ممن أدركته لا غير، وكتبت حوله فلله الحمد والمنة، وقد ذكر في نشر المثاني قضية جبر السلطان المذكور على أخذها حيث قال فيه ما نصه : وفي عام أربعة عشر ومائة وألف شدد في المغرم على أهل فاس السلطان المنصور بالله مولانا إسماعيل ابن الشريف الحسني فطلب أهل فاس من الشرفاء الطاهريين أن يعطوهم النعل النبوية يستشفعون بها للسلطان فحملها بعض الشرفاء المذكورين وساروا إلى السلطان فأحضروها بين يديه ودفعوها له بمكناسة، فعفا عن أهل فاس في تلك القضية، وأخذ السلطان النعل وأدخلها لداره بقصد التبرك وبنى قبة بداره معلومة إلى الآن تسمى قبة النعال ووضع فيها النعل في كوم

22 ، وبقيت النعل عند السلطان مدة حياته ولا أدري ما وقع بها بعد وفاته. ا.ه. ومن خط بعضهم ما نصه: الحمد لله ومما وجدته مطوقا بخدي بيت ساداتنا الشرفاء الطاهريين الكائنة بالعدوة المجاورة لمصمودة الموضوع فيها نعلا النبي

صلى الله عليه وسلم :

يا بني الزهراء يا من في الورى

لهم الجاه الأعز الأشرف

دمتم في نعم لا تنقضي

وسرور عنكم لا يصرف

وها هنا تنبيهات:

الأول:

بحث صاحب النشر المذكور في كون النعل المذكورة نعل المصطفى

صلى الله عليه وسلم

بأن الذي يغلب على الظن أن نعاله عليه السلام قد أهلكها الدهر وطول العهد، وبأن المقري في فتح المتعال ذكر في النعال روايات وأمثلة مما عند السخاوي والزين العراقي وغيرهما ولم يعرج على مثال هذه النعل التي بيد الشرفاء المذكورين مع أنه معاصر لها بالزمان والمكان وليست مما يخفى عليه، ومنتهى الأمثلة التي ذكر سبعة ومثال ما عند الشرفاء المذكورين أصغر منها كلها، ونحوه قول بعض المتأخرين من الشرفاء القادريين أيضا في تأليف له في مناقب مولاي عبد الله الشريف الوزاني لم يصح استمرار طول مكث نعليه

صلى الله عليه وسلم

إلى الآن بعد المائتين وألف؛ لأن الدنيا جميع ما فيها يفنى إلا أشياء استثنوها من ذلك، وقد سألت عن ذلك أهل حرفة الدباغة فقالوا لي: إن كانتا من الجلد النيئ غير المدبوغ فإنه يسوس، وإن كانتا من الجلد السبتي المدبوغ الذي ليس فيه شعر فإنه يكرف وييبس ويتمزق، وإن كانتا من الجلد الإفرنجي العنان فإنه يكرف ويتمزق أيضا ولا أثر لبقاء وجودهما إلى الآن ومن ادعى شيئا من ذلك فلا يصدقه العرف في دعواه.

قلت: وفي هذا الذي ذكراه نظر .

أما أولا:

فقد تقدم أنه شهد لهم بأنها نعل المصطفى

صلى الله عليه وسلم

أئمة علماء، ويبعد كل البعد أن يشهدوا على غير يقين أو ظن قريب من اليقين.

وأما ثانيا:

فإن ما استدلا به على فنائهما لا ينهض، فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يبعد أن ينسحب ذلك أيضا على بعض ما حل بأجسادهم الكريمة من النعال وشبهها معجزة لهم، وقد وقع لمولانا إدريس الأكبر دفين زرهون أنه ظهر جسده الشريف بكفنه عام ثمانية عشر وسبعمائة ولم تعد الأرض على شيء من الجسد ولا من الكفن المصاحب له، وكان بين وفاته وظهور جسده على الحالة المذكورة خمسمائة سنة وأحد وأربعون سنة وثمانية أشهر.

وأما ثالثا:

فإن الجلد إذا كان محفوظا مصونا من الماء والشمس ونحوهما لا يسرع إليه البلى بالكلية ولا يبعد بقاؤه هذه المدة وأزيد منها، وقد رأينا من الكتب المكتوبة ما له نحو من سبعمائة سنة مع كون كتابته في أوراق من الكاغد ويحل بأيدي كثير من الناس وتطرأ عليه أنواع من التغييرات كثيرة، فكيف بجلد البقر أو الإبل الغليظ المصون عن الأيدي والتغيرات، وعدم ذكر المقري وغيره لهذه النعل لا ينفيها؛ إذ لم يستوعبوا ذكر النعال التي مشى بها عليه الصلاة والسلام في عمره، وإنما ذكروا منها ما حصلت لهم به رواية أو نقل لهم فيه أمر وما بقي أكثر مما ذكروا بكثير، وقد عد جماعة من الأئمة وهم علماء صلحاء رؤيتهم لهذه النعل التي بيد هؤلاء الشرفاء من أعظم نعم الله تعالى عليهم وتبركوا بها وشاهدوا بركتها ووجودها، وأي دليل أقوى من هذا فلا يعدل عنه إلى التجويزات العقلية التي لا مستند لها إلا الوقوف مع العادة إن سلمت.

الثاني:

ما زال الناس يتبركون بمثل النعل والقلنسوة والعكازة والسبحة ونحوها مما ترجى بركته، فأحرى بمرات عديدة ما كان من سيد الأولين والآخرين

صلى الله عليه وسلم ، وما زالت حوائجه وآثاره عليه السلام بيد الصحابة فمن بعدهم على وجه الحفظ والأمانة والتبرك بها لا على سبيل الميراث، وذلك معلوم عند من طالع السير والتواريخ.

الثالث:

ذكروا لمثال النعل الشريفة خواص عديدة ذكر بعضها في التقاط الدرر تبعا للمقري في فتح المتعال، ونصه: ولصورة هذه النعل الكريمة خواص وبركات، فمنها أن من وضعها على محل وجع يعني بنية صادقة شفاه الله من حينه، وإن أمسكها متبركا بها كانت له أمانا من بغي البغاة، وحرزا من الشيطان، ومن عين كل حاسد، وإن أمسكتها صاحبة الطلق بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر أمرها في الحين، ومن لازم حملها كان له القبول التام ولابد أن يزور النبي

صلى الله عليه وسلم

أو يراه مناما، ومن سافر به في بر أو بحر فعرضت له آفة خوف أو هلاك نجاه الله وآمنه. ذكر هذه الأشياء الحافظ المقري في فتح المتعال منقولة عن الأئمة بسندها وذكر قضايا وقعت من ذلك له ولغيره فانظره.

الرابع:

كثير من الناس اليوم يتطير من رؤية هذه النعل التي بيد هؤلاء الشرفاء ويزعمون أن من رآها مات بعد أيام يسيرة، ويذكرون لذلك قضايا اتفاقية، ولا صحة لهذا وإنما هو من تخيلات الأوهام التي لا معول عليها، وقد عاش أبو زيد الفاسي بعد رؤيتها قريبا من ثلاثين سنة، والشيخ التاودي أزيد من عشرة أعوام، نعم هذا أمر جعله الله في نفوس العامة ليصون به هذه النعل الكريمة من الابتذال والوقوع في يد من لا يرضى حاله، ولله تعالى فيما يريد حكم وأسرار لا يعلمها إلا هو سبحانه، والله أعلم». انتهى بنصه، ولم نغير فيه إلا بعض أفعال ونعوت وردت مذكرة في بعض العبارات لعدهم النعل من المذكرات وهي مؤنثة، فجعلناها بالتأنيث.

نعل غير صحيحة

وهي نعل أهداها بعضهم للخليفة المهدي العباسي فظهر له أنها غير صحيحة غير أنه قبلها وأجاز مهديها سياسة منه، ذكر ذلك ابن شاكر في ترجمته في فوات الوفيات ج2 ص225 ونص عبارته: وجلس المهدي جلوسا عاما فدخل عليه رجل وبيده منديل فيه نعل فقال: يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قد أهديتها لك فأخذها منه وقبلها ووضعها على عينيه وأعطاه عشرة آلاف درهم فلما خرج قال لجلسائه: ما ترون أني أعلم أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

لم يرها فضلا عن أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، فردها علي، وكان من يصدقه أكثر ممن يكذبه؛ إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه، وقبلنا هديته، وصدقناه قوله، وكان الذي فعلناه أرجح وأنجح». انتهى

23 .

هوامش

الخاتمة

وجدت بين مخلفات المؤلف أوراق شتى هي بعض المذكرات والتعليقات التي عول عليها في كتابة تلك الفصول قبل أن ينشر أكثرها في مجلة الهداية الإسلامية سنة 1348ه، وقد عثرنا بين هذه الأوراق بورقة كتب فيها المؤلف هذه الأسطر، فإذا هي خير خاتمة لتلك الفصول النفيسة في الآثار النبوية:

ليس في هذه الآثار ولا فيما أوردناه عنها من النصوص ما يبعث على الاسترابة في نسبتها إلى المقام النبوي الكريم، ولا يخفى أن كل شيء محتمل للصحة إذا لم يلمز بطعن أو يحف بشبهة واستفاضت به الأخبار كان حقيقا بأن تطمئن إليه النفوس وتتلقاه بالقبول، ولاسيما إذا كان أثرا منسوبا إليه

صلى الله عليه وسلم

لا تؤمن فيه مغبة الشك والإنكار؛ ولهذا رأينا ذوي الحيطة من السلف ومن ائتم بهديهم في كل جيل يتحرجون عن المجازفة بالإنكار في مثل هذه الآثار، ويرون السلامة في قبولها والتسليم بها ما لم يمنع مانع.

Shafi da ba'a sani ba