Tasirin Larabawa Akan Al'adun Turai
أثر العرب في الحضارة الأوروبية
Nau'ikan
فلم يكن هذا الامتزاج بين عواطف الوطن وعواطف الدين غريبا في عالم الواقع أو عالم التفكير؛ لأن العواطف الجديدة في تطور الأمم لا تولد دفعة واحدة خالصة من آثار سوابقها وملابستها، وكان على العالم كله - بين شرقيه وغربيه - أن يقضي زمنا ما قبل أن يفهم أبناء الوطن أن حرمانهم نعمة الحرية والاستقلال هو اعتداء عليهم وعلى كرامتهم، ولو جاءهم هذا الاعتداء ممن يماثلهم في النحلة أو اللغة أو العقيدة الدينية.
وربما كان الأصح - أو الأوضح - في تفسير الحقائق أن يقال: إن معنى الوطنية الحديث وليد الحضارة العصرية لا وليد الذهن الأوروبي أو الطبائع الغربية؛ لأن قارة أوروبا وجدت منذ القدم ولم توجد فيها الوطنية بمعناها الحديث، فلما انتهت أطوار الاجتماع إلى حضارة العصر الحاضر كانت أوروبا هي مسرح التاريخ الذي تمثلت فيه هذه الأطوار، وكان فضل الأمم الشرقية في فهم هذا المعنى الحديث أنها نقلته بشيء من الاختيار والتمييز، ولم تنتظر به تسلسل الوقائع التي مرت تباعا بالأوروبيين قبل أن تفرضه عليهم الضرورات.
الحركات الدينية
تعلم الشرقيون من أوروبا ليقاوموها بسلاحها.
ويقال هذا عن الشرق الأقصى كما يقال عن الشرق الأدنى، مع اختلاف العقائد والبيئات والأحوال الاجتماعية؛ فإن اليابانيين لم يتحركوا لمحاكاة أوروبا في حضارتها وعلومها وصناعاتها إلا بعد أن اصطدموا بها وعجزوا عن مقاومتها.
وكان الفضل الأكبر لأوروبا على الشرق كله هو الفضل الذي جاء على الرغم منها، وهو تنبيه أذهان الشرقيين إلى حقائق الحياة، وتفتيح أنظارهم على الأسباب الصحيحة التي تقترن بها نهضات الشعوب.
وكان الشرقيون قبل ذلك يعلمون أنهم متأخرون متخلفون، ولكنهم يفهمون العلل التي أخرتهم وقضت عليهم بالتخلف في سباق الأمم كما يفهم الجاهل علة مرضه وعجزه، فيرجع إلى الشعوذة ولا يرجع إلى الطب الصحيح، ويسأل الدجالين والممخرقين ولا يسأل الأطباء والعارفين، وقد جهلوا دينهم كما جهلوا دنياهم؛ لأنهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم، وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات، فإذا قيل لهم: إنهم تأخروا لمخالفة دينهم ونسيان وصاياه وآدابه؛ عادوا إلى الخرافة الفاشية ولم يعودوا إلى الدين المهجور.
فلما قهرتهم أوروبا مرة بعد مرة في عدوانها عليهم ومقاومتهم لعدوانها؛ فهموا مضطرين أسباب هذه الغلبة، ورجعوا بعد حين إلى علومها وصناعاتها ونظم السياسة والحكم فيها، فرجعوا إلى الأسباب الطبيعية، وفهموا علل الوقائع أمامهم على وجهها المعقول، فكان ذلك أول تدريب للذهن على حسن التعليل وفهم طبائع الأشياء، وكادت الآراء أن تتفق على منهج واحد للإصلاح: وهو اقتباس العلم الحديث، ومجاراة العصر في المعيشة والتفكير.
وأقبل المسيحيون من أبناء الشرق على المدارس العصرية يتعلمون ما تلقيه عليهم من دروس التعليم الحديث غير متحرجين من موضوعاتها، ولا من نيات التعليم فيها، وأحجم المسلمون عن المدارس التي فتحت في بلادهم؛ لأنها كانت في أيدي المبشرين وأعوان التبشير، ولكنهم لم يحجموا عن إرسال أبنائهم إلى أوروبا نفسها حيث تنفصل المدارس عن الهيئات الدينية، فجمعت حكومة مصر في عهد محمد علي الكبير مئات من نخبة الطلبة لإرسالهم إلى العواصم الأوروبية، وتعليمهم الطب والهندسة والآداب والفنون العسكرية على أساتذتها، أو لتزويدهم في مصر بما يستطاع تدريسه بها من تلك العلوم على أساتذة من الأوروبيين.
ولم ينقض جيل أو جيلان بعد احتكاك أوروبا بالشرق حتى اتفقت كلمة المسلمين على نظرة جديدة إلى الدين، وأجمعوا في أنحاء الأرض على أن البدع والخلافات التي شقي بها أسلافها، وشقوا بها في زمانهم ليست من الدين الإسلامي في شيء، ولكنهم سلكوا في علاج الداء مسلكين مفترقين على حسب نصيبهم من العلوم العصرية؛ فجنحت الأمم التي أخذت بنصيبها منها إلى التوفيق بين الدين والعلم الحديث، وجنحت الأمم الأخرى إلى نبذ جميع المستحدثات والرجوع بالدين إلى بساطته الأولى كما فهموها، ونشأت هنا وهناك حركات دينية شتى بعضها على هدى، وبعضها على ضلال، ولكنها كلها كانت من قبيل الحركات الطبيعية التي تتصل بطبائع الأمم، وبواعث البيئة في حاضرها وماضيها، ولم تكن محض اختراع منقطع عن الدنيا، محصور في النزعات الأخروية التي يفرغ لها من خرجوا بنسكهم وعبادتهم من معترك الحياة.
Shafi da ba'a sani ba