Tasirin Larabawa Akan Al'adun Turai
أثر العرب في الحضارة الأوروبية
Nau'ikan
فلما بلغت هذه الأطوار تمامها كانت الحكومة الشورية أو الحكومة الدستورية نظاما أوروبيا يتلقاه الشرقيون عن الأوروبيين، ولا يتلقونه مذهبا غريبا يحتاج إلى إقناع، ولا عقيدة جديدة تحتاج إلى تبشير. •••
نعم إن القارة الأوروبية عرفت النظام البرلماني على صورة من صوره الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، فنشأ مجلس الشيوخ في رومة، ونشأت المجالس التي تمثله في أثينا وإسبرطة وبعض الأقاليم الإغريقية، ثم نشأت بعدها مجالس أخرى أدنى إلى نظام المجالس التمثيلية الحديثة، وأقرب إلى الحكم الديمقراطي الذي تشترك فيه جميع الطبقات.
ولكنه كان هنا «نظاما» من النظم الخاصة، ولم يكن الأمر فيه أمر المبدأ العقلي والحقوق الإنسانية، فلم يعمل اللاتين والإغريق بهذه النظم تقريرا لحق الإنسان في الحرية، أو تعميما «لمبدأ عقلي» يجوز تطبيقه أو يجب تطبيقه في جميع المدن وبين جميع الشعوب، ولكنهم عملوا به لأنه حيلة صالحة لسياسة أمة بعينها على أقدار من فيها من رؤساء العشائر، ومن يتنافسون على الحكم والسيادة.
ولما تطور الحكم الشعبي في أثينا على عهد كليستين الديمقراطي حتى أصبح حق النيابة حقا عاما لمن بلغ الثلاثين في الدوائر الانتخابية المختلفة، لم يكن هذا «التطور» عقيدة إنسانية قابلة للتعميم، ولا تسليما بالمبدأ الذي يقوم على الحرية وتقضي به الأصول الأخلاقية، ولكنه كان تدبيرا موضعيا يناهض به تدبير الطغاة الذين كانوا ينافسون ذلك الزعيم الديمقراطي بقوة القبيلة أو قوة العصبية. ولعله قد خطر له الاستنجاد بجماهير السواد لإشراكها في الحكم كما خطر له الاستنجاد بالفرس لانتزاع الحكومة من طغاة القبائل والعصبيات.
فالحضارة العربية قد سبقت الغرب بمبدأ الحكومة الشورية في مجال العقيدة والأخلاق.
والغرب قد سبق الحضارة العربية بحكومة الشورى في مجال النظم الواقعية التي تتمخض عنها حوادث التاريخ.
ولا نظن أن الحكم الدستوري كان ينتقل إلى بلاد الشرقين الأدنى والأوسط بهذه السهولة لو لم يكن له أساس قائم من عقائد الناس، واعتراف الحاكمين والمحكومين بمبادئه وأصوله؛ فإن الأمم الغربية قد ضيعت جهودها الأولى في إكراه الحكام المطلقين على النزول لها عن دعوى الولاية «بالحق الإلهي»، ودعوى السيادة عليها بتفويض السماء، فكان عليها أن تجتاز نصف الطريق - بل نصفه الأوعر الأطول - في تقرير المبدأ الذي سلمه العرب حكاما ومحكومين قبل نشأة الحياة النيابية الحديثة بألف سنة، وهو مبدأ الشورى، والمبالغة الحرة، والرجوع بالحكومة إلى مصلحة الرعية، واتفاق الكلمة بين ذوي الرأي فيها.
والحاكم المطلق - في الشرق أو الغرب - يأبى أن يشارك في أمره، ولا يذعن للحكم الشوري باختياره، ولكن الفرق العظيم بين حاكم يستطيع أن ينكر أساس الحكومة النيابية، وحاكم لا يستطيع إنكاره، ولا يجسر على الجهر بذلك الإنكار مخافة اتهامه بالخروج على أحكام الدين وعصيان رب العالمين، بل الفرق عظيم بين حاكم ينكر الحكم النيابي وهو يعتصم بالحق الإلهي وتفويض السماء، وحاكم يخاف من إنكاره لأنه يخالف الحق الإلهي كما يخالف تفويض السماء بذلك الإنكار.
لذلك كانت معارضة السلاطين والأمراء الشرقيين في الحكومة الدستورية معارضة تقوم على الأعذار الموقوتة، ولم تكن معارضة قائمة على الأسس والأصول، وكان معظم هذه الأعذار مما يرجع إلى السياسة الأوروبية والعلاقات الأجنبية التي كانت تعوق النظام النيابي في بلاد المشرق، وتمهد العذر للسلاطين والأمراء في المعارضة أو التسويف.
فكان سلطان الدولة العثمانية يؤمن بواجب الشورى، ويسمي الرتبة الكبرى عنده رتبة «المشير»؛ لأنه يخشى أن يصارح رعيته بأنه يستأثر بالرأي، ويتولى شئونها على سنة الاستبداد، ولكنه كان يمانع في تعميم الحكم النيابي بين رعاياه؛ لأن فريقا من هؤلاء الرعايا يخالفونه في الجنس والدين واللغة، ويمالئون الدول الأوروبية عليه، ولا يخلصون في خدمة الدولة إذا تسنموا مناصبها العليا، واطلعوا على موضع الأسرار من سياستها الخارجية أو سياستها الداخلية.
Shafi da ba'a sani ba