307

At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Nau'ikan

- فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ الثَّاني بَيَانُ تَفَاضُلِ الثَّوَابِ بِتَفَاضُلِ الابْتِلَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (أشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِيْنِهِ صُلْبًا؛ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِيْنِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِيْنِهِ، فَما يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيْئَةٌ). (١)
وَفِيْهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي العَبْدَ بِمَا يُطِيْقُ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البَقَرَة:٢٨٦).
- وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ المَقْصُوْدُ بِهِ الحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى البَلَاءِ بَعْدَ وُقُوْعِهِ لَا التَّرْغِيْبُ فِي طَلَبِهِ، وَذَلِكَ لِوُرُوْد النَّهْي عَنْهُ. (٢)
- مَرَاتِبُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيْبَةِ:
١) مَرْتَبَةُ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى: وَيَكُوْنُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ، كَمَا فِي المتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُوْدَ وَشَقَّ الجُيُوْبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ). (٣)
٢) مَرْتَبَةُ الصَّبْرِ: وَهُوَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ البَلَاءِ؛ وَأنَّهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ، وَقَدْ يَتَمَنَّى العَبْدُ زَوَالَهَا؛ كَمِثْلِ مَنْ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ؛ فَيَعْلَمُ أنَّهُ لِحِكْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ، فَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِ رَبِّهِ (أَي بِتَقْدِيْرِهِ) - وَإِنْ كَانَ مُتَمَنِّيًا لِزَوَالِهِ؛ وَهُوَ المَقْدُوْرُ -. (٤)
٣) مَرْتَبَةُ الرِّضَا بِالمَقْدُوْرِ: فَهُوَ رَاضٍ بِالقَدَرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ، وَأَيْضًا هُوَ رَاضٍ بِمَا حَلَّ بِهِ - أَيْ: مِنَ المَقْدُوْرِ - غَيْرُ مُتَمَنٍ لِزَوَالِ مَا أَصَابَهُ.
لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِأَسْبَابِ إِزَالَةِ المُؤْلِمِ؛ لِأَنَّ المَقْصُوْدَ هُوَ إِظْهَارُ مَحَبَّةِ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ؛ لِأَنَّهُ نَاتِجٌ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. (٥) (٦)
٤) مَرْتَبَةُ الشُّكْرِ عَلَى المُصِيْبَةِ: ووَجْهُهَا أَنَّه يَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّه لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِيْنِهِ (٧)، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَذَابَ الدُّنيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.

(١) صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (٢٣٩٨) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (١٤٣).
(٢) قَالَهُ المُبَارَكْفُوْرِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ بِشَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) (٦٦/ ٧).
وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ ﵊ (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاصْبِرُوا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٣٠٢٦)، وَمُسْلِمٌ (١٧٤١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا.
(٣) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (١٢٩٧)، وَمُسْلِمٌ (١٠٣).
(٤) وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ تُسَمَّى أَحْيَانًا بِمَرْتَبَةِ الرِّضَا؛ وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى - وَالَّذِيْ هُوَ المُقَارِنُ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ - أَمَّا المَرْتَبَةُ التَّالِيَةُ فَهِي الرِّضَا بِالمَقْدُوْرِ - وَهُوَ الَّذِيْ فِيْهِ الخَيْرُ وَالشَّرُّ -، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ السَّابِقَةِ.
(٥) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (٤٨٨/ ١): (وَالفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الأَلَمِ؛ وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الجَوَارِحِ عَنِ العَمَلِ بِمُقْتَضَى الجَزَعِ، وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ المُؤْلِمِ؛ وَإِنْ وُجِدَ الإِحْسَاسُ بِالأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ القَلْبَ مِنْ رُوْحِ اليَقِيْنِ وَالمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا، فَقَدْ يُزِيلُ الإِحْسَاسَ بِالأَلَمِ بِالكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ).
(٦) قُلْتُ: لَا سِيَّمَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، أَوْ مَا كَانَ مَذْمُوْمًا فِي نَفْسِهِ، فَالمَقْصُوْدُ هُنَا الابْتِلَاءُ بِالمُصِيْبَةِ، كَمَا بَوَّبَ عَلَيْهِ المُصَنِّفُ ﵀ بِقَوْلِهِ (بَابُ مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ).
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ ﵀ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (٩/ ٤): (فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ فِعْلُ التَّدَاوِي فِي نَفْسِهِ؛ وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ).
(٧) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (وَلَا تَجْعَلْ مُصِيْبَتَنا فِي دِيْنِنَا). حَسَنٌّ. التِّرْمِذِيُّ (٣٥٠٢) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (١٢٦٨).

1 / 307