231

At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Nau'ikan

- اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي حُكْمِ مَنْ أَتَى الكَاهِنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
١) مَنْ أَتَاهُ لِيَسْأَلُهُ فَقَطْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْن يَوْمًا، لِحَدِيْثِ مُسْلِمٍ (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً)، ومَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَكْبَرًا لِلحَدِيْثِ الثَّانِي (مَنْ أَتَىَ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). (١) (٢)
وَفِي الحَدِيْثِ أَيْضًا (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً، فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ). (٣)
٢) مَنْ أَتَى الكَاهِنَ مُطْلَقًا (٤) فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَصْغَرًا (٥)، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوْصِ، فَيَكُوْنُ حُكْمُ الفِعْلِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ قَبُوْلِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَمْ نَقْلُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا أَكْبَرًا لِكَوْنِهِ خَصَّ عَدَمَ القَبُوْلِ بِأَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ وَسَائِرُ عَمَلِهِ مُطْلَقًا (٦). وَيَكُوْنُ كُفْرًا أَكْبَرًا إِذَا اسْتَحَلَّ إِتْيَانَهُم. (٧)
٣) إِمْرَارُ هَذِهِ النُّصُوْصِ كَمَا جَاءَتْ دُوْنَ الخَوضِ فِي تَفْصِيْلِهَا (٨)، فَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَتَى الكَاهِنَ أَنَّهُ كَفَرَ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَلَا نَخُوْضُ فِي بَيَانِ حَقيقَتِهَا لِيَكُوْنَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوْسِ وَأَشَدَّ فِي الزَّجْرَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي المَنْصُوْصِ عَنْهُ. (٩)

(١) مُسْلِمٌ (٢٢٣٠).
(٢) وَهَذَا التَّوْجِيْهُ مُتَعَقَّبٌ بِكَوْنِ لَفْظِ الحَدِيْثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (١٦٦٣٨) جَمَعَ بَيْنَ التَّصْدِيْقِ وَبَيْنَ عَدَمِ قَبُوْلِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا.
وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّ العِلَّةُ الَّتِيْ جُعِلَتْ هُنَا فِي عَدَمِ كُفْرِ السَّائِلِ - فَقَط - هِيَ عَدَمُ التَّصْدِيْقِ؛ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الحَالِ أَنَّهُ جَاءَ لِيَسْتَفِيْدَ مِمَّا عِنْدَهُ، فَلَوْ وَافَقَ قَوْلُ الكَاهِنَ هَوَى السَّائِلِ لَصَدَّقَهُ، فَعِلَّةُ الكُفْرِ مَوْجُوْدَةٌ بِمُجَرَّدِ الإِتْيَانِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(٣) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (٦٩/ ٢٢) عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ مَرْفُوْعًا، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيْفٌ جِدًا مُسَلْسَلٌ بِالعِلَلِ. انْظُرِ الضَّعِيْفَةَ (٦٦٧٤).
وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (٦٦٧٠) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ؛ فَقَدْ بَرِءَ مِمَّا أُنِزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، ومَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا). ضَعِيْفٌ. الضَّعِيْفَةُ (٥٢٨١).
(٤) طَبْعًا لَيْسَ بِقَصْدِ الإِفْحَامِ وَالمُنَاظَرَةِ وَإِبْطَالِ حُجَّةِ الكَاهِنِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ الإِطِّلَاعِ وَالاسْتِفَادَةِ مِمَّا عِنْدَهُ، أَمَّا بِقَصْدِ الإِفْحَامِ وَالإِبْطَالِ فَجَائِزٌ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنْ دِيْنِهِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ (٣٠٥٥) (أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ - وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ - فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُوْلُ اللهِ؟) فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُوْلُ الأُمِّيِّينَ.
فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُوْلُ اللهِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (مَاذَا تَرَى؟) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِيْنِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (خُلِطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيْئًا)، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ).
قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيْهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ).
وَ(الأُطُمُ) بِضَمَّتِيْنِ: كُلُّ حِصْنٍ مَبْنِيٍّ بِحِجَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ (إِنْ يَكُنْهُ) أَيْ: إِنْ يَكُنْ هُوَ المَسِيْحَ الدَّجَّالَ.
(٥) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَد، كَمَا فِي كِتَابِ (الفُرُوْعِ) (٢١١/ ١٠).
(٦) قَالَ صَاحِبُ فَتِحِ المَجِيْدِ (ص٢٩٦) ﵀: (هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُوْلُ: هُوَ كُفْرٌ دُوْنَ كُفْرٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُوْلُ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ؛ فَيُسْأَلُ عَنْ وَجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيْثَيْنِ).
(٧) قَالَ صَاحِبُ (عَوْنُ المَعْبُوْدِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد) (٢٨٤/ ١٠): (وَهُوَ مَحْمُوْلٌ عَلَى الاسْتِحْلَالِ أَوْ عَلَى التَّهْدِيْدِ وَالوَعِيْدِ).
(٨) قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (الفُرُوْعُ) (٢١٣/ ١٠): (وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ النُّصُوْصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيْرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ).
(٩) قُلْتُ: وَالأَرْجَحُ هُوَ الثَّانِي لِتَضَافُرِ الأَدِلَّةِ وَجَمْعِهَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ إِمْرَارِهَا كَمَا جَاءَتْ فَهُوَ صَحِيْحٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الزَّجْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الآثَارِ، وَكَيْ لَا تَبْقَى الأَدِلَّةُ دُوْنَ تَوْجِيْهٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

1 / 231