Asirin Fadoji
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Nau'ikan
فأجابه: نعم، وقبل ذلك.
فقال صلاح الدين: إن سموه يرغب في الاطلاع على «مثل» الأجواخ الصيفية، فهل يمكنك إعطائي أحسن ما عندك منها مع بيان أثمانها ؟
فقام الخياط يسعى على العجل قائلا: سمعا وطاعة. ودبر له ما طلب، وقد وهم أنه من خدم ولي العهد. فبعد أن استلم صلاح الدين ما أراد سار إلى سراي جراغان حيث كان مراد أفندي مقيما في بناية صغيرة شادها له السلطان عبد العزيز؛ ليبقى دائما تحت سيطرته. •••
لا تخفى على القراء الكرام الشهرة التي نالها إسماعيل باشا خديوي مصر بعد افتتاح برزخ السويس وإعجاب أوروبا به، فهذه الشهرة كبرت مطامعه، وأكسبته صداقة السلطان وميل الباب العالي، فسعى وراء إلغاء وراثة العهد الإسلامية المبنية على أن يكون كبير العائلة وريثها وولي عهدها، مريدا بذلك الاقتداء بملوك أوروبا. فنجح وحصل على الفرمان الشهاني بأن يكون أبناؤه من بعده ورثاء عهده وحدهم، وهكذا حرم أخوه مصطفى فاضل باشا من حقوقه، وقد سر الأوروبيون من ذلك، وزاد إعجابهم بالخديوي، وعدوا عمله ضربا من الإصلاح واتباعا للتمدن الأوروبي. أما المسلمون في تركيا والبلاد الإسلامية فقد ساءهم خرق تلك العادة، ولا سيما لما علموا أن أمير المؤمنين وخليفة المسلمين لم يرض بخرقها في الخديوية المصرية فقط بل في السلطنة العثمانية أيضا؛ حيث أعلن أن ابنه يوسف عز الدين البالغ من عمره يومئذ عشر سنوات هو وريثه وولي عهده، مريدا بذلك حرمان ابن أخيه مراد أفندي وراثة العرش؛ فازداد لذلك ميل الناس إلى مراد أفندي، وصار موضوع حب الجميع ومحجة آمالهم.
كان السلطان عبد العزيز معطيا - والحق يقال - الحرية التامة لأولاد أخيه في أمر معيشتهم وتصرفهم إلى حين سفره إلى أوروبا حيث استصحبهم معه، فلما عاد أمر بحجزهم ومراقبتهم وخصوصا مراد أفندي، وكانت قد دبت في قلبه عقارب الحسد لما رأى احتفاء الملوك والأمراء به، وإعجابهم بذكائه، وعدم اكتراثهم بابنه يوسف عز الدين.
وكان لمراد أفندي مزرعة جميلة في جزيرة «برنكبو» تشبه بتنسيقها المزارع الأوروبية تماما، وكان يقضي فصل الصيف فيها بعيشة ساذجة، فيتزاور مع جيرانه، ويقطع أوقاته بالموسيقى أو باستقبال ضيوفه، وكان هؤلاء يعجبون من اللطف الغريب والإكرام العجيب اللذين كان يبذلها لهم ذلك الأمير الذي سيكون يوما ما سلطانا لمملكة آل عثمان.
فلما بدأ السلطان يفكر في نزع ولاية العهد منه، وتحويلها إلى نجله بدلا عنه، أصدر أمره بمنعه من الاصطياف في الجزيرة، ولم يسمح له أن يقيم في الصيف إلا في كشك صغير في «حيدر باشا»، ومنع الناس من زيارته إلا من كان هو على ثقة منهم. فأمر بتبديل خدمه وحشمه وخصيانه، وأقام الجواسيس يراقبون كل حركة من حركاته وأقل لفتة من لفتاته، وكان مراد أفندي كما قلنا ولوعا بفن الموسيقى يتلقاه عن أستاذ إيطالي، فأمر السلطان بطرد الأستاذ وحجز أوراق الموسيقى عن مراد، وضغط عليه بغير ذلك من أمور التضييق والمراقبة حتى ضاقت الدنيا في عينيه، وتغلبت عليه السويداء، وعرته السآمة والملل من كل شيء، فكان يشتهي كل يوم لو ولد فلاحا حرا لا أميرا من آل عثمان سجينا في قصره محروما من كل لذة في الحياة مقصيا عن الهيئة الاجتماعية، وازدادت المراقبة عليه والحجز على حريته لما هب حزب تركيا الفتاة يطالب بالإصلاح، فضاق صدره جدا حتى صار يقول لحاشيته: فليقتلوني وإلا اختلت شعوري ...
وفي صباح الاثنين الواقع في 29 أيار كان مراد أفندي جالسا تجاه أحد خصيانه يلاعبه بالنرد؛ ليضيع الوقت كعادته، وكان في ذلك النهار قلقا مضطربا على أنه لا يدري لذلك سببا، فكان يضرب الزهر بلا فكر، ثم سمع ضجة وجلبة في أحد غرف الخدم، وطرق أذنه صوت غريب، وجم منه خوفا، فقال لشيخين كانا جالسين في زاوية القاعة يدخنان، أن يذهب أحدهما لاستطلاع الخبر، فأجاب: ما لك ولهم خدم يتخاصمون. فتأفف مراد أفندي، وقال: لكن ألا يسوغ معرفة السبب وموجب تلك الجلبة؟!
فخرج أحدهما وعاد ووراءه رجل أرمني زري المنظر، فسلم على الحاضرين ببلاهة قبل أن يسلم على مراد أفندي، فضحك الجميع من بلاهته، فقال الخصي: هذا أمازجيان خياط سموك معه مثل (عينات) أجواخ. فقال مراد أفندي في نفسه سيرحمونني حتى اللباس؟ ثم قال للخصي: خذ منه المثل وقام عن الديوان وجلس، لكن الخياط هب عاجلا وقدمها بنفسه، ووقع نظر مراد أفندي عليه، فعرفه للحال أنه صلاح الدين بك، وأنه يريد بتخفيه إبلاغه أمرا مهما، فصمت وتمالك نفسه وتناول المثل وتفحصها قليلا، ثم قام إلى النافذة يظهر رغبته بفحص ألوانها على النور، فوجد بينها ورقة صغيرة مكتوب فيها بخط سري أنه سينادى به سلطانا في الغد؛ فجزع مراد أفندي لهذا النبأ الفجائي، وطار قلبه شعاعا، وخاف من مؤامرة وقتل، وأراد أن يخفي حاساته عن الجميع، فأشار إلى أحد الخدم أن يخرج مع الحاضرين فامتثلوا، وحينئذ رفع صلاح الدين طربوشه الذي كان مخفيا به سحنته، وانحنى إلى يدي ولي العهد يقبلهما، فقال له مراد أفندي: أي عزيزي صلاح الدين أأنت الذي عهدوا إليك بنقل هذا الخبر إلي؟ فإذن خلاصي قريب.
فأجابه: أي نعم يا مولاي، إن غدا ليوم عظيم ستهتز له تركيا طربا وسرورا، وإن غدا ليوم الانتقام.
Shafi da ba'a sani ba