Asirin Fadoji
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Nau'ikan
تبا للسكر تبا للخمرة، ولعنة الله عليها وعلى شاربيها، هي السبب ... نعم هي كل السبب ... كنت مدعوا بالأمس إلى العشاء عند الصدر الأعظم فشربنا منها كثيرا، ولما عدت، وكان قد دب دبيبها في رأسي، استدعتني السلطانة، وأخذت تتملقني وتلاطفني حتى خدعت فاعترفت بذنبي، وأظنني صرحت باسمك أيضا ... وهي كانت عالمة بمقرك. - يا للمصاب ... يا للداهية الدهماء ... الله أعلم أية مكيدة تكيد لي ولها ... - نعم، الله أعلم ... وبظلمها أدري وقلقي شديد؛ لأنها قد استصحبت «إقبالا» معها، ثم صمت قليلا، وقال: هانم أفندي، أرجوك الرحيل من هذا المكان ريثما يتسنى لإقبال الذهاب لرؤية طفلتها. - قرب لله ذلك اليوم مولاي ... وشفعنا برحمته. - اتكلي على الله وثقي بي ... سأكون لك ولها سندا وعضدا ... وبالمناسبة ماذا سميت الطفلة؟ - عائشة يا مولاي؛ على اسم ابنتي المفقودة، فإذا كنت تريد أن أدعوها باسم آخر، فلك الأمر وعلي الامتثال. - لا يهمني الاسم كثيرا ... سأذكر عائشة، وأفضالك عليها، وعنايتك بها.
وإذا بالخادم دخل يدعو مولاه إلى الغذاء، وأرادت العجوز أن تطيل الحديث معه، ولكن لما رأته قلقا مضطربا، قالت له: أفندم، قد انتقلنا الآن إلى قرية بايكوس لا يعرف مقرنا إلا الله أمام جامع «أينكيار أسكه مني» فإذا رأيت من الصواب الرحيل والابتعاد إلى مدينة أخرى فأنا رهينة الإشارة، فأية مدينة تراها بمعزل عن شك السلطانة وانتقامها. - أرمينيا أفضل الولايات لدي من هذا القبيل؛ فهي بعيدة الشقة كثيرة المشقة عسرة الاتصال، فإذا أقمت في قرية بجوار أرضروم مثلا كنت في مأمن من كل غدر وخيانة. - الأمر أمرك مولاي، فسأرحل من غد.
ثم انحنت مسلمة، وعادت على أعقابها إلى قريتها تتهيأ للسفر.
وقام الباشا إلى مائدة الطعام، فجاء خادم بصدر فضي كبير، ووضعه على «اسكملة» منقوشة أحسن نقش، وجاء خادم آخر بطست بهي المنظر وصابونة عطرية، فغسل الباشا يديه ونشفهما وجلس أمام الصدر. وإذا برئيس الخصيان قد دخل وعليه أمارات الاضطراب، فسأله الباشا: ألا تعلم سبب سفر زوجتي الهانم؟ - تريد لا شك أن تقول سمو السلطانة ...؟ قد دعتها والدتها للذهاب إلى السراي الهمايوني؛ فلم تر وجوبا لإعلامك، ولم تأذن لي بإخبارك بالسبب. - إذن تعرف السبب وتريد إخفاءه عني؟ - نعم، على أسف مني.
فكاد الباشا يتميز غيظا لهذا الجواب المهين، وقال: حتى الخصيان صاروا يحتقرونني، فصمت. ثم انتهره قائلا: جئني بالطعام حالا.
فخرج الخصي، وعاد حاملا صحفة كبيرة مغطاة بقبة فضية منقوشة نقشا بديعا، فوضعها الخصي على الصدر أمام الباشا، وقال: هذه الصحفة تخبر دولتك عن سبب سفر سموها ... ثم ابتعد، ولم يرفع الغطاء الفضي اتباعا للعادة. فحملق الباشا فيه وكاد لا يصدق أذنيه، ثم مد يديه وهي ترتجف حنقا، ورفع الغطاء بحده، ثم طرحه وصاح مذعورا صيحة دوت لها جوانب السراي، وتراكض من أجلها جميع الخدم والخصيان، وقد جمد الدم في عروقهم لما وجدوا رأس «إقبال» غائصا بدمها الطري موضوعا في تلك الصحفة الفضية، وعينيها النجلاوين مفتوحتين قليلا، وهي باسمة الفم دلالة على أن رأسها قد حز غيلة، وشعرها الطويل يكلل ذلك الوجه الجميل. ولبث الباشا يصرخ ويصيح وا غوثاه! فلا من سميع ولا من مغيث. وأخيرا تقدم إليه أحمد العبد ورفعه من منكبيه، وأدخله إلى غرفة ثانية، وهناك أجهش الباشا بالبكاء والنحيب متمثلا في صورة تلك الغادة الهيفاء، وهو يقول: وا حسرتاه عليك يا إقبال! مسكينة أنت ... ذهبت غيلة وظلما! ثم فتح ذراعيه إلى السماء، وقال: أسألك اللهم أن تنجي طفلتها من الهلاك ... أنت القدير على كل شيء ...
الفصل الرابع
بعد مضي 16 سنة
وحدث بعد ذلك العهد؛ أي بعد انقضاء 16 سنة، أمور كثيرة كانت الأحوال قد تبدلت فيها تبدلا كليا، فكان السلطان عبد المجيد قد انتقل إلى رحمة ربه منذ ست سنوات، وجاء أخوه ولي العهد عبد العزيز أفندي، فحقق آمال العثمانيين به، وكان هذا السلطان كل أيام ولاية عهده حتى يوم تسنم عرش أجداده منقطعا عن الأمور السياسية معتزلا الأشغال العمومية مقيما في مزرعة «جفتلك» بجوار قرية بايكوس عائشا عيشة الفلاحين البسيطة مصوبا عنايته إلى الفلاحة والزراعة، فأحبه الجميع لحسن أخلاقه وأحوال معيشته.
وبينما كانت السراي السلطانية الهمايونية مكتظة بالجواري الحسان والسراري الشركسيات المجلوبة من جميع أطراف المملكة رغما عن عجز السلطان عبد المجيد ومرضه، كان ولي العهد عبد العزيز أفندي في مقتبل الشباب وعنفوان العمر مكتفيا بسرية واحدة شركسية الأصل بديعة الجمال اختارها قرينة لنفسه، فلم تعرف لها ضرة. وبينما كان السلطان عبد المجيد يرقد إلى الظهر ولا يقابل وزراءه في الشهر مرة، كان عبد العزيز ينهض مع الشمس لمراقبة مزرعته، وقد جاء بمهندس زراعي بارع من سويسرا، وجلب منها ثيرانا كبيرة وتقاوي جيدة من جميع الحبوب حتى صار يضرب المثل بجودة ذلك الحقل، وصار أنموذجا في البلاد العثمانية، وتعاظم ميل الناس إليه، وغدا مدحه أنشودة كل شفة ولسان.
Shafi da ba'a sani ba