لم يكن أحد يعلم أنها كانت تعتزم القيام بذلك. عندما أوقف بورتر وميليسينت سيارتهما أمام بيتها لتوصيلها، كانت ميليسينت لا تزال تشعر بالقلق.
قالت: «اضغط على آلة التنبيه، الأفضل أن تكون جاهزة الآن.» قال بورتر: «أليست هي التي تهبط الدرج هناك؟»
كانت هي. وكانت ترتدي على فستانها الحريري معطفا رماديا فاتحا كان لألبرت، وتحمل قبعتها الكلاسيكية الكبيرة في يدها، وفي اليد الأخرى باقة من أزهار الليلك. أوقفا محرك السيارة، فقالت: «لا، أريد أن أمشي، فالمشي يساعدني على تصفية ذهني.» لم يكن لديهما خيار سوى أن يواصلا قيادة السيارة وينتظراها في الكنيسة، ويرياها وهي تقترب على مرأى الناس في الشارع، والناس يخرجون من المحلات لينظروا إليها، وبضع سيارات تطلق أصواتا من آلة التنبيه تشجيعا لها، وآخرون يلوحون ويصيحون: «ها هي العروس!» وإذ دنت من الكنيسة، توقفت وخلعت معطف ألبرت، وحينئذ بدت براقة ورائعة كعمود الملح في الكتاب المقدس.
كانت موريل داخل الكنيسة تعزف على الأرغن؛ ولذا لم تدرك، في هذه اللحظة الأخيرة، أنهم نسوا تماما أمر الجوارب، وأن دوري أمسكت بسيقان نبات الليلك بيدين عاريتين. كان السيد سبيرز في الكنيسة أيضا، لكنه خرج ضاربا بكل القواعد والأعراف عرض الحائط، تاركا القس واقفا وحده. كان رشيقا وشاحبا وهمجيا تماما كما تذكرته ميليسينت، لكنه عندما رأى دوري وهي تلقي بالمعطف القديم في مؤخرة سيارة بورتر، وتعتمر تلك القبعة على رأسها - كان على ميليسينت أن تهرع إليها لتصلح من هيئتها - بدا قانعا بطريقة تنم عن النبل. كان لدى ميليسينت صورة متخيلة عنه هو ودوري وهما يرتقيان ظهر الفيلة في ثياب رسمية، تسير بهما الدواب بمشقة، ويعيشان المغامرة معا. مجرد رؤية. كانت متفائلة إلى أبعد الحدود، شاعرة بالارتياح، وهمست لدوري قائلة: «سيجوب بك العالم كله! سيجعلك ملكة!» •••
بعدها ببضع سنوات، كتبت دوري من أستراليا قائلة: «زاد وزني بشدة، فأصبحت أشبه ملكة تونجا.» ثمة صورة ملحقة برسالتها أثبتت أنها لم تكن تبالغ في قولها. كان شعرها أبيض، وبشرتها بنية، وكأن نمشها ذاب على بشرتها وخضبها بالكامل. كانت ترتدي معطفا كبيرا يشع بألوان الأزهار الاستوائية. اندلعت الحرب ووضعت حدا لفكرة السفر إلى أي مكان، وعندما وضعت الحرب أوزارها، كان ويلكي يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تبرح دوري كوينزلاند حيث عاشت في مزرعة كبيرة، وعكفت على زراعة قصب السكر والأناناس والقطن والفول السوداني والتبغ. كانت تركب الخيل على الرغم من حجمها، وتعلمت أيضا قيادة الطائرات، وحلقت وحدها بضع مرات في تلك البقعة من العالم، واصطادت التماسيح. وقضت نحبها في الخمسينيات من عمرها في نيوزيلندا وهي تتسلق جبلا كي تتطلع إلى أحد البراكين.
أخبرت ميليسينت الجميع بما زعمت أنها لن تفصح عنه. وبالطبع كان لها الفضل. تذكرت مصدر وحيها، تذكرت حيلتها بلا ندم، قالت: «كان على أحدهم أن يأخذ بزمام الأمور.» شعرت أنها نجحت أن تهب دوري حياة جديدة على نحو أكثر فاعلية مما فعلت مع أبنائها؛ فقد خلقت حالة من السعادة، أو ما شابه ذلك. نسيت كيف بكت دون أن تعرف السبب.
كان لحفل الزفاف أثره على موريل، فقد قدمت استقالتها، وسافرت إلى ألبرتا، قالت: «سأمنح نفسي مهلة عام.» وفي غضون عام، كانت قد عثرت على زوج يختلف كل الاختلاف عن الرجال الذين كانت تعرفهم في الماضي. كان رجلا أرمل لديه طفلان صغيران؛ كان قسا مسيحيا. تعجبت ميليسينت من وصف موريل له، أليس جميع القساوسة مسيحيين؟ عندما عادا لزيارتها - بعد أن أمسى عندهما طفلان آخران - فهمت الهدف من هذا الوصف؛ فقد طويت صفحة التدخين وشرب الخمر والسباب وكذلك التبرج، ونوعية الموسيقى التي اعتادت موريل على عزفها؛ أمست تعزف الآن تراتيل كتلك التي كانت تسخر منها في السابق. وأضحت لا تهتم بألوان ثيابها، ولا تستخدم مثبتا جيدا لشعرها الذي أصابه الشيب وبرز عند جبهتها متجعدا. قالت: «عندما أسترجع فترات كثيرة من حياتي السابقة، أشعر بالغثيان.» وأحست ميليسينت أن موريل تحسبها هي وبورتر على أغلب الظن من المنتمين إلى تلك الأوقات التي كانت تشعرها بالغثيان. •••
لم يبع البيت أو يؤجر لأحد. ولم يهدم أيضا، فبنيانه كان قويا لدرجة أنه لم ينهر بسرعة. كان من الممكن أن يصمد لسنين طويلة، ويحتفظ بشكله المقبول. من الممكن أن تتفرع الشقوق بين الطوب دون أن ينهار الجدار. أطر النوافذ كانت مائلة، لكن النوافذ لم تسقط. وكانت الأبواب موصدة، لكن يحتمل أن الأطفال تسللوا ليكتبوا على الجدران، ويكسروا الآنية الفخارية التي خلفتها دوري وراءها. لم تدخل ميليسينت إلى البيت قط لتلقي نظرة.
كان ثمة شيء اعتاد كل من دوري وألبرت القيام به، وبعدها أمست دوري تفعله وحدها ... لا بد أنهما اعتادا عليه في طفولتهما. كل عام في فصل الخريف، كانا يجمعان - ثم هي من بعده - كل الجوز الذي يسقط من الأشجار، وكانا يعكفان على جمع عدد أقل شيئا فشيئا من ثمار الجوز حتى يوقنان إلى حد كبير بأنهما جمعا آخر ثمرة، أو على الأقل الثمرة قبل الأخيرة، ثم يعدان ما جمعاه، ويدونان الإجمالي على جدار القبو؛ التاريخ والعام والإجمالي. لم تكن ثمار الجوز تستخدم في أي شيء ما إن تجمع، بل كان يلقى بها بطول الحقل وتترك حتى تتعفن.
لم تواصل ميليسينت هذه المهمة العقيمة بعد دوري، فقد كان لديها الكثير من المهام الأخرى التي يجب أن تضطلع بها، وكثير من المهام المتعلقة بأطفالها. ولكن، عندما آن أوان سقوط ثمار الجوز على العشب الطويل، كانت تفكر في هذه العادة، وكيف أن دوري كانت تتوقع ألا تنقطع عنها حتى مماتها. حياة حافلة بالعادات، بالمواسم؛ ثمار الجوز تسقط، وفئران المسك تسبح في جدول الماء. لا بد أن دوري ظنت أن هذه هي الحياة المقدرة لها، هذه الحياة الغريبة الأطوار نوعا ما، لا بد أنها ظنت أن القدر كتب لها أن تحيا حياة الوحدة التي يمكنها أن تتحملها. الأرجح أنها كانت ستشتري كلبا آخر.
Shafi da ba'a sani ba