فتأفف ذلك الشبح وقال: صدقيني يا سيدتي، إني أريد كل الخير لك، فاسمعي كلامي كله وثقي به وإلا كنت بعد غد جثة باردة.
فذعرت قائلة: ويلاه! كيف ذلك؟ - أعداؤك ينصبون شركا لك وللأميرة نعمت هانم. - من هم أعدائي؟ - لا يجوز أن تعرفيهم؛ لأن معرفتك لهم ولي تفضي إلى وضعي في أعماق السجن. - يالله! أراك كتلة أسرار، ولكني أشعر باستئناس فيك، فها أنا مستسلمة إليك، فماذا تريد أن أفعل؟ - اعلمي أن طعامك غدا يحتوي على أفيون بغية أن يصرعك، لكي تنقلي من هذا المكان إلى قصر الأميرة نعمت صريعة السبات، وهناك تحقنين تحت جلد ذراعك بسم ناقع، فلا تمضي عليك ربع ساعة حتى تفارقي الحياة الأرضية، يجري ذلك في قصر الأميرة من غير أن تعلم ولا تراك في الصباح إلا جثة في منزلها، فتضطرب بسببك حتى يطوف الشرطة قصرها ويقبضون عليها وعلى خدمها.
وكانت جوزفين تقاطعه عند كل جملة بقولها: «ويلاه ويلاه!» - إذا لم يكن لي الأمل بالخلاص من هذا السجن إلا إلى القبر، فأفضل القبر عليه. - بل تخلصين إذا طاوعتني. - ماذا تريد أن أفعل؟ - أن لا تأكلي من الطعام الذي يقدم لك غدا بعد الظهر؛ لأنه يشتمل على مقدار كبير من الأفيون يصرعك بحيث لا يبقى لك إحساس، فتموتين به نصف موت، وربما كل الموت، ولكن ليس غرض أعدائك أن تموتي هنا، وإنما يجب عليك أن تتظاهري أنك نائمة، بل أنك في سبات ثقيل لكي تنقلي في منتصف الليل من هذا المكان. - أخاف أني لا أعرف أن أتقن هذا التظاهر. - إذن كلي بعض الأكل لكي يستولي عليك النعاس، فتنامي نوما ثقيلا لا يؤذيك؛ لأنك إذا صرعت بفعل الأفيون صرعا شديدا يتعذر علي الهرب بك. - إذن آكل بعض الأكل، ولكن أخاف أن يكون ما آكله يحتوي على المقدار الكافي لقتلي! - لا تخافي؛ لأنهم لا يريدون أن تصلي إلى قصر الأميرة نعمت إلا سالمة من الموت؛ لأنهم يخافون أن يخفق سعيهم في إدخالك إلى القصر، فيضطرون إلى إرجاعك إلى هنا، ولا يوافقهم أن تكوني هنا ميتة. - وكيف أسلم من السم الناقع الذي سيحقنونني به؟ - لقد أصبح ذلك السم الذي أعدوه لك ماء نقيا فلا تخافي، فإذا شعرت بألم الحقنة فلا تصرخي، بل يكفي أن تختلجي فقط، لا تمانعي ولا تستيقظي لئلا تعودي إلى هذا السجن. - وبعد أن أحقن تحت الجلد؟ - يتركونك هناك وأنا أتولى أمرك. - ولكن لماذا هذا التدارك المستصعب؟! ألا تقدر أن تأخذني من هنا؟ - أنى لي ذلك والشباك محدد كشباك السجون؟ - آتيني بمبرد فأبرد عارضة، ثم آتيني بحبل فأربطه بهذا الحديد وأتدلى. - ليس الوقت كافيا في هذا الليل ولم يبق لك هنا سواه، ثم إنه لا يوافقني أن تهربي من هنا؛ إذ لا يعرف بوجودك في هذا المكان أحد من غير أعدائك إلا أنا، فيعلمون من غير بد أني أنا الذي سرقتك وخلصتك، وهم يقدرون بكل سهولة أن ينتقموا مني شر نقمة. - إذن أستسلم لك بعد استسلامي لله. - تفعلين حسنا. - ولماذا تهتم بخلاصي يا سيدي؟ أتعرفني؟ ألك صلة بي أو غرض معي؟ - أعرفك معرفة سطحية جدا، وإنما أخلصك وأخلص الأميرة نعمت تكفيرا عن ذنبين اجترمتهما وتبت عنهما. - لم أفهم. - لا يهمك أن تفهمي، بل أرجوك أن تقصري عن الأسئلة؛ لئلا تجلبي علي خطرا عظيما عن غير قصد منك. - لا تخف، إني أحرص على أسرارك. - بل أخاف؛ لأني لا أطمئن على أسراري مع سواي، ثم إن أسراري لا تفيدك شيئا. - ليكن ما تريد. - إذن إلى اللقاء بعد نصف الليل القادم. - إلى اللقاء، ليكن الله معك أيها المخلص، يا رسول الخير وملاك السلام.
ثم عادت جوزفين إلى سريرها وهي تحسب أن السعادة عادت إليها بعد جفاء طويل، وصارت تفتكر كيف تقابل نعيما بعد الغد، فلا تدري بأي حالة يستقبلها.
أما ذلك الشبح فنزل من الشجرة إلى أرض الحديقة، ثم تسلق الجدار وقفز عنه إلى الغيض من غير أن يشعر به أحد البتة.
الفصل الرابع عشر
لو كنت تعلمين
في مساء الاثنين المعهود وافى أحمد بك نظيم وكيل دائرة صدقي باشا إلى قصر الأميرة نعمت هانم، ففتح له الخدم القاعة وسأل عن الأميرة، فأبلغوها خبر قدومه، فقالت: «ما خبره؟ ما كنت أظنه يزورني قط!» وبقيت في غرفتها تقرأ في روايتها نحو ربع ساعة، ثم سألت: «ألم يزل موجودا في القاعة؟» فقيل لها: «نعم.» فوافت إليه تجر أذيال العجب والخيلاء، فحيته وهو انحنى لها ثم جلست على المقعد رزينة جدا تثقلها الكبرياء ويستخفها الجمال البديع. وكانت كما علم القارئ واجدة على أحمد بك؛ لأنه لم يتمم رغبتها في قبول يدها وعدت ذلك منه إهانة، وكان بعد دخولها على القاعة سكوت هنيهة بترته بقولها: أمن حاجة لك يا أحمد بك فأقضيها؟ - لا أرجو إلا سلامة سيدتي، فما أتيت لقضاء حاجات بل لزيارة، فإن كانت زيارتي في غير حينها فأعود من حيث أتيت. - ليس من عادتي أن أكون فظة إلى حد أن أطرد زائري طردا وإن كنت في حاجة إلى النوم؛ لأني سهرت الليل السابق كله. - إذن ائذني لي يا سيدتي بالانصراف أستودعك الله.
وهم أن ينصرف، فقالت له وهي تبحث في نفسها عن طريقة لإغاظته واحتقاره: بل تبقى ولو نصف ساعة على الأقل؛ لئلا تقول إن نعمت خشنة. - من يستطيع أن يقول ذلك يا مولاتي، وأي خشونة منك ليست كل اللطف والرقة؟ - أشكر لك إطراءك وأرجوك أن تدعنا من هذا الموضوع.
سكتا هنيهة، ثم قالت: ما بالك ساكتا يا أحمد بك؟ أتنتظر أن تفاتحك بالحديث سيدة؟ - كلا، وإنما لا أدري ماذا أتكلم يا سيدتي؛ لأني كيفما تكلمت أشعر أن كلامي في غير محله. - لا لا، وإنما أحب أن تعلم أن كلامك معي صار يجب أن يكون محدودا بحدود، فلا يخفى عليك أني أود أن أسترد الابتذال الذي ابتذلته لك، وأنا أظنك أرفع نفسا مما ظهر لي منك. - مهما تنازلت يا مولاتي فإني لا أجهل قدرك، على أني أشعر بأن القدر لم يجعلني مستحقا تنازلك ... - لا لزوم للتمادي بهذا الحديث لئلا يثور طبعي، فكفى ما ثار سخطا وغضبا وحنقا على الأمير عاصم بسببك حتى أصبحنا كالعدوين، لولا ما جبلنا عليه من طيب القلب.
Shafi da ba'a sani ba