الفصل الخامس والأربعون
موكب المتمهدي وخطابه
فلما تمت القراءة ضج الجماهير بالدعاء، فقال شفيق في نفسه: والله إنها تعاليم حسنة لا يأتي المتمدنون بأحسن منها، ولكنه شعر بخطر موقفه فصارت ركبتاه ترتجفان، وأخذ يدبر وسيلة يتخلص بها إذا انكشف أمره، ثم جعل يفكر بقيام هذا المتمهدي ودعواه وما تأتى له من الفوز، وفيما هو في ذلك رأى الناس في جلبة واختلاط، ثم علم أنهم يستعدون لملاقاة المتمهدي، وهم يتطلعون إلى جهة الأبيض، فنظر وإذا بالموكب قادم والمتمهدي في لباس الدراويش على جواد ليس أكرم منه، يحدق به الخليفتان التعائشي وولد الحلو، ووراءهم جماعة على خيول في لباس الدراويش، غير أن مرقعياتهم أقصر من مرقعيات أولئك، فهي لا تتجاوز ركبهم حتى يكاد يظهر من تحتها أسفل سراويلهم القطنية، فأمعن النظر فيهم، وعلم بعد ذلك الحين أنهم جماعة الملازمين؛ وهم خدمة المتمهدي وأعوانه الخصوصيون. وكانوا سائرين وراء الخلفاء مطرقين احتراما ووقارا، وبينهم العلم الخاص بالمتمهدي، فوقع الرعب في قلب شفيق وأدرك مقدار الخطر المحدق به.
فلما وصل الموكب إلى محط الجيش ترجل المتمهدي، وترجل كل من جاء معه ومشوا إلى مرتفع، فلما وقفوا تنحوا جميعا إلا المتمهدي، فجيء إليه بفرو من جلد فرش أمامه، فوقف للصلاة ووقف الجميع وولوا وجوههم البيت الحرام، وبدأت الصلاة والتوحيد، فصلى شفيق ووحد معهم. ومما زاد اضطرابه أنه شاهد من نفوذ هذا الرجل في جماعته ما يجعل أنفس الناس في تقديره لا تساوي لفظا، فخيل له أن المتمهدي حالما يراه ويعرفه لا يتكلف غير إشارة القتل فيقتل. وبعد انقضاء الصلاة، وقف المتمهدي لمخاطبة الأمراء وتوصيتهم بالثبات، وحول عنقه سبحة من خشب البقس مدلاة على صدره. ولم يكن في لباسه ما يميزه عن سائر الدراويش إلا كونها أكثر إتقانا، وأغلى قيمة.
فأخذ شفيق يتأمل في هيئة هذا الرجل الذي أقلق دول أوروبا وألقى في مجالسها الشقاق، فإذا هو طويل القامة، خفيف العضل، كبير العينين، حسن الملامح، كسائر الدنقلاويين أبناء وطنه، وآنس في وجهه مهابة ولطفا، وانتبه خصوصا إلى الخال الأسود على خده، فتذكر ما كتبه إلى السنوسي من أن ذلك الخال إنما هو علامة المهدوية. ولما وقف محمد أحمد المتمهدي وقف كل الحاضرين مطرقين صامتين لا يسمع لهم صوت، ولا ترى لهم حركة، فافتتح المتمهدي كلامه بالصلاة ثم قال:
أيها الأحباب من المقدمين والمشايخ والنواب والأنصار، اعلموا أن الله لو شاء سبحانه وتعالى أن يبيد أهل الكفر ويستأصل شأفتهم من غير قتال لفعل، كما ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى:
ولو يشاء الله لانتصر منهم
(الآية)، وقوله:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ، إلى غير ذلك، فصار
أنفسهم نادمين. وأما أنتم فعلى كلا الحالين من الفائزين؛ فخوضوا الغمرات شوقا إلى الله، وإلى جنة قصورها عالية، وأنوارها زاهية، وأنهارها جارية، وقطوفها دانية إلخ إلخ.
Shafi da ba'a sani ba