وفي مساء ذلك اليوم، خرج شفيق من بيته قاصدا العباسية لترويح النفس، وكان مطرقا في الأرض كمن يفكر بأمر ذي بال لا يحول بصره إلى شيء من البنايات المزخرفة، والحدائق الغناء التي على جانبي الشارع، فكأنه منشغل بتصوراته الغرامية عن النظر إلى تلك المناظر اللطيفة، وبينما هو على هذه الحال اعترضه بخيت بالسلام، فرفع بصره إليه، ولما عرفه خفق قلبه شوقا وهياما إلى ساكنة فؤاده، فرد عليه التحية وسأله: ما وراءك؟ قال: جئتك بأمر من سيدتي، وكنت ذاهبا إلى محلك فأسعدتني الصدف بلقياك هنا.
قال شفيق: هات ما عندك.
قال: إن سيدتي قرأت في جريدة الأهرام عما أنعمت به عليك الحضرة الخديوية، فسرت لفوزك، وتكدرت لما علمت من عزمك على السفر إلى أوروبا قريبا.
قال شفيق: للضرورة أحكام، وقد قيل: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.» فما العمل إذن؟
قال: إنها تود مواجهتك قبل سفرك، فهل لديك مانع؟
فظهرت علائم الدهشة والاستبشار على وجه شفيق، فقال: لا مانع لدي، فهل عينت المكان والزمان؟
قال: أما الزمان فهو أصيل يوم العاشر من هذا، وأما المكان فهو قصر النزهة بسكة شبرا.
فقال شفيق: سأكون هناك في الوقت المعين، فبلغ السيدة فدوى احترامي. ثم ودعه بخيت وذهب فأخبر سيدته بما كان.
أما شفيق فعاد إلى بيته ولبث ينتظر الميعاد المضروب وهو في هاجس عظيم إلى أن كان اليوم العاشر، فركب عربة وأمر السائق فسار إلى شارع شبرا. والشارع يومئذ من أجمل متنزهات القاهرة؛ يشرف على أرض قليلة السكن تتخللها مروج خضراء، وحدائق غناء، وعلى جانبي الشارع أشجار باسقة كثيفة، ملتفة الأغصان، تكاد لا تخرقها أشعة الشمس. وكان الخديوي يخرج إلى هذا الشارع بموكبه أيام الجمعة والناس حواليه جماعات من العظماء والأمراء بمركباتهم؛ احتفاء به، وتيمنا بطلعته. أما في الأيام الأخرى فالذاهبون إليه قليلون، كما كانت الحال في ذلك اليوم.
فلما وصلت العربة بشفيق إلى قصر النزهة لم يحاول الدخول إليه؛ لعلمه بامتناع ذلك إلا على بعض الناس، فنظر إلى الساعة فإذا هي في الثالثة ونصف، وميعاد الاجتماع في الرابعة، فأمر السائق أن يسير به ذهابا وإيابا لقضاء نصف الساعة ريثما تصل حبيبته، فلما صارت الرابعة ولم تأت اضطرب باله، فقال للسائق أن يعود به الهويناء؛ لعله يلتقي بعربتها في أثناء الطريق، فعاد حتى اقترب من منتصف الشارع، فلم يشاهدها، فأوجس من تأخرها خيفة، وأمر السائق فوقف. أما هو فبهت مفكرا بسبب تأخرها، وقد اشتدت هواجسه حتى نسي موقفه إلى أن نبهه صوت المجري، فالتفت فإذا بها عربة فدوى، فخفق قلبه ، وأخذته رجفة الحب، وعلا وجهه احمرار الخجل، ثم عقبه اصفرار الوجل؛ لهول ذاك الملتقى وهو يفكر كيف يقابلها. وقد زاغ بصره لتحديقه بعربتها، فرأى فارسا متلثما قد اعترض السائق وأمره أن يعرج إلى سواء السبيل في مضيق هناك. فلما رأى شفيق جسارته ظن أنه يريد بحبيبته سوءا، فارتعدت فرائصه من الغيظ، واشتعل قلبه غيرة على فدوى، فقال للسائق: أسرع إلى حيث هذا اللئيم. وأشار بيده إلى ذلك الفارس الملثم، فلما وصل أو كاد نادى به: يا لئيم، ما قدرك لتعترض السيدات على قارعة الطرق؟ اخسأ يا أخس الرجال.
Shafi da ba'a sani ba