Ashbah Wa Nazair
حماسة الخالديين = بالأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين
Bincike
الدكتور محمد علي دقة
Mai Buga Littafi
وزارة الثقافة
Inda aka buga
الجمهورية العربية السورية
ابن أُذينة اللَّيثيّ: (*)
وقد قالتْ لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا
تعالَين فقد طابَ ... لنا اللَّيلُ تعالَينا
وغابَ البَرَمُ اللَّيلَ ... ةَ والعينُ فلا عَينا
فأقبلنَ إليها مُث ... قَلاتٍ يَتهادَينا
إلى مثلِ مَهاة الرَّمْ ... لِ تكسو المجلسَ الزَّينا
تمنَّين هواهُنَّ ... فكنَّا ما تمنَّينا
فبَينا ذاك سلَّمتُ ... فرَحَّبنَ وفدَّينا
مثل معنى هذه الأبيات قول ابن ميَّادة، ولا ندري أيَّهما أخذ من الآخر:
وكواعبٍ قد قلنَ يومَ إقامةٍ ... قولَ المُجدِّ وهنَّ كالمُزَّاحِ
يا ليتنا من غير أمرٍ مُنكرٍ ... طلعتْ علينا العِيس بالرَّمّاحِ
بَينا كذاك رأينَنِي مُتعصِّبًا ... بالبُرد فوق جُلالةٍ سِرداحِ
فيهنَّ صفراءُ التَّرائب طَفلةٌ ... بيضاءُ مثلُ غَريضة التُّفّاحِ
رَيَّشن حين أردْن أنْ يقتُلْنَنا ... نَبْلًا مقذَّذةً بغير قِداحِ
ونظرنَ من خَلَل السُّتور بأعيُنٍ ... مرضَى مُخالطُها السّقامُ صِحاحِ
أخذ هذا المعنى العبَّاس بن الأحنف فقال:
ما على العَين لي ولا أمْ ... لكُ دمعيَ ذكرَ فوزٍ لرازِي
برزتْ في خرائدٍ خَفِراتٍ ... مُثقلاتِ الصُّدور والأعجازِ
يتلذَّذنَ بالحديثِ على ظَهْ ... رِ كثيبٍ قد حُفَّ بالأقوازِ
بَيْن ظَهر العَقيق والحوص ليلًا ... ونجومُ السَّماءِ ذاتُ انحيازِ
فتملَّين إذ خلوْن وأكثرْ ... نَ وأوجَزن أيَّما إيجازِ
فتمنَّعتْ لِقايَ فَوزٌ ودُوني ... فلواتٌ تَحارُ فيها الجَوازِي
نقص العبَّاس في أبياته هذه من المعنى لأنَّه لم يذكر أنَّ فوزًا لمَّا تمنَّته جاءها كما ذكر ذلك غيره، وقد أخذه ابن المعتز فأتى به في نهاية الجودة بقوله:
قالتْ لأترابٍ خلَون معًا ... وبكتْ فبلَّلَ دمعُها النَّحْرا
يا ليتهُ في مجلسٍ مَعنا ... نَشكو إليه النَّأيَ والهَجْرا
قالت ألا تنظُرَنْ قال بلَى ... صدقَتْ مُناكِ ولُقِّيتُ يُسْرا
ونهَضْنَ يُحلِينَ الحديثَ لنا ... كيلا يكُنَّ على الهوَى وَفْرا
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: من هنا حتى آخر الكتاب موجود بالكتاب الإلكتروني (الأصل) وليس في المطبوع (المنتخب) باختيار د: محمد علي دقة
يا ليلةً يُنحَى الحَسودُ بها ... لا زِلتُ أشكُرُ بعدكِ الدَّهْرا خشور بن قبيصة العامليّ: نظرتُ حيالَ الشَّمس من مشرق الضُّحى ... وأوفيتُ من لبنانَ رُكنًا عَطَوَّدا إلى ظُعُنٍ للمالكيَّة غُدوةً ... فيا لك مِن مرأًى أشاقَ وأبْعَدا بعينَينِ لم يَستأنِسا فيضَ عَبرةٍ ... ولم تَرِدا جَوَّ العراق فترْمَدا إلى البيت الأخير نظر العبَّاس بن الأحنف في قوله: بكتْ غيرَ آنِسةٍ بالبُكاءِ ... ترَى الدَّمعَ في مُقلَتَيها غَريبا مثله قول ابن المعتز: وتُديرُ فاترَتَين من ألْحاظها ... لم تَعرِفا غيثَ الدُّموع فتَمْرَها قُحافة بن منظور العَمِّيّ: لعمرك إنِّي يوم سَلْعٍ للائمٌ ... لنفسِي ولكنْ ما يرُدُّ التَّلوّمُ أأمكنتُ من نفسي عدُوِّي ضَلَّةً ... ألهفي على ما فات لو كنتُ أعلمُ لعمري لقد كانت فِجاجٌ عريضةٌ ... وليلٌ سُخاميّ الجَناحَين أدهمُ ولو شئتُ إذ بالأمر يسرٌ لقلَّصتْ ... برَحْلي فَتلاءُ الذِّراعينِ عيهَمُ عليها دليلٌ بالفَلاة نهارَهُ ... وباللَّيل لا يُخطِي لها القصدَ مَنسِمُ مُزوِّد أخو الشَّمَّاخ: أعددتُ بيضاءَ للحروبِ ومَص ... قولَ الغِرارَين يفصِمُ الحَلَقا وفارجًا نبعةً وملءَ جَفِ ... يرٍ من نصالٍ تخالُها وَرَقا وأرْيَحِيًّا عضْبًا وذا خُصَلٍ ... مُخلولقَ المتْن سابحًا تَئِقا يَملأُ عينيك في الفِناء ويُرضي ... كَ وَقارًا إنْ شئتَ أو نَزَفا سنان بن بهدلة اللَّيثي: ومولَى خاشعٍ تحت العَوالي ... خَضِيبَ النَّحرِ أسلمَهُ القريبُ جعلتُ لِنحره نحرِي مجنًّا ... وقد بلغتْ حناجِرَها القلوبُ مثله لمزاحم العُكليّ: ومُستلحَمٍ بين الأسنَّة قد رأَى ... حِياضَ المنايا والرِّماحُ شوارعُ عَطفتُ عليه والسُّيوفُ كأنَّها ... خلالَ القَنا قرنٌ من الشَّمس طالعُ مسكين الدَّارميّ: ذَريني أُمَّ مسكين ذريني ... فإنَّ الحقَّ يُودِي بالبعيرِ وناجيةٍ نحرتُ لشَرْب صدقٍ ... ولم أعبَأ بتصريف الدُّهورِ
كأنَّ جبينَها كُركيُّ ماءٍ ... قليلُ الرِّيشِ مقتولٌ كَسيرُ ولا واللهِ رَبّكَ ما أُبالي ... لمن كانَ العشيرُ من الجزورِ وإذا كانَ القُتارُ أحبّ ريحًا ... إلى الفتَيات من ريحِ العَبيرِ ابن الدُّمَينة: أيا كبِدَينا أجْمِلا قد وَجدتُما ... بأهلِ الحِمَى ما لم تجدْ كبِدانِ إذا كبِدانا خافَتا صرفَ نيَّةٍ ... وعاجلَ بينٍ ظلَّتا تجِبانِ يخبِّرُ طَرفانا بما في قلوبنا ... إذا استَعجمتْ بالمنطقِ الشَّفتانِ أحسنُ ما قيل في الخِباء قولُ مُضرِّس الأسدي: وظلّ كظلّ المَضْرَحِيّ رفعتُهُ ... يطيرُ إذا هبَّتْ له الرِّيحُ طائرُهْ لبيضِ الوجوهِ أدلجوا كلَّ ليلهم ... ويومهمُ حتَّى استرقَّتْ ظهائرُهْ فأضحَوا نَشاوَى بالفَلا بينَ أرحُلٍ ... وأقواسُ نبعٍ من خِباءٍ شواجرُهْ أخَذنا قليلًا من كَرانا فوقعتْ ... على ظَهْر رشَّاشٍ غليظٍ حَزاورُهْ رُقادًا به العجلانُ ذو الهمّ قانعٌ ... ومَن كان لا يسرِي به الهمُّ حاقرُهْ مثله لأبي الهندي: وفِتيانِ صدقٍ من تميمٍ وجوهُهم ... وإنْ سفعتهنَّ الهواجرُ وضَّحُ رفعتُ لهم يومًا خباءً ممدَّدًا ... بستَّة أرماحٍ تسَفُّ وتطمحُ تخفِّضهُ أيديهمُ فكأنَّه ... ظَليمٌ على هاماتهم يترجَّحُ كأنَّا ربَطنا بالخباء مشهّرًا ... من الخيلِ مِلواحًا يسيرُ ويرمحُ مُهلهل بن ربيعة التَّغلبي: ليسَ مثلِي يخبِّر القومَ عنهم ... أنَّهم قُتِّلوا وينسَى القِتالا لم لأرِمْ حومةَ الكتيبة حتَّى ... حُذيَ المُهرُ من دماءٍ نِعالا ما نعرف في الاعتذار من الفرار أحسن من هذين البيتين لأنَّه قال: لم أبرح حتَّى قاتلتُ قتالًا شديدًا، وقد كنَّا قدَّمنا قبل هذا الموضع أشياء من اعتذارهم وحججهم في ذلك، ونذكر ههنا بعض ما أغفلناه هناك، فمن ذلك قول ابن عنقاء الهُجَيميّ: أجاعلةٌ أُمُّ الحُصَين خَزايةً ... عليَّ فِراري أنْ لقيتُ بني عبسِ فليسَ الفرارُ اليومَ على الفتَى ... إذا عُرفتْ منه الشَّجاعةُ بالأمسِ
ومثله زُفَر بن الحارث وقد فرَّ يوم مرج راهط في شعر له: فلم تُبلَ منِّي نبوةٌ قبل هذه ... فِراري وتركي صاحبيَّ ورائيا عشيَّة أجرِي بالقَرينِ فلا أرَى ... من النَّاسِ إلاَّ مَن عليَّ ولا لِيا أيذهبُ يومٌ واحدٌ إنْ أسأتُهُ ... بصالحِ أيَّامي وحُسنِ بلائيا فلا تحسَبوني إنْ تغيَّبتُ غافلًا ... ولا تفرَحوا إن جئتُكم بلقائيا فقد ينبتُ المرعَى على دِمَن الثَّرَى ... وتبقَى حَزازاتُ النُّفوس كما هِيا فهذان الشاعران ذكرا أنَّ فرارهما كان مرّةً واحدةً في الدَّهر، وقد اعتذر غيرهما بغير هذا فقال: قالت أُمامةُ لم تكنْ لك عادةٌ ... أن تتركَ الأصحابَ حتَّى تُعذرا لو كانَ قتلٌ يا أُمامَ فراحةٌ ... لكنْ فررتُ مخافةً أنْ أُوسَرا فهذا ذكر أنَّ فراره لم يكن خوفًا من القتل بل من الأسر، وقد أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال: أطال إساري في الصَّبابة هجرُهُ ... وعند الشّجاع الأسرُ شرٌّ من القتلِ وممَّن ذكر أنَّه يقاتل وهو يرى وجهًا للقتال ويفرُّ إذا لم يرَ لذلك وجهًا عمرو بن معدي كرب بقوله: ولقد أملأُ رحلَيَّ بها ... حذرَ الموت وإنِّي لفَرورُ ولقد أعطِفُها كارِهةً ... حين للنَّفسِ من الموتِ هَريرُ كلّ ما ذلك منِّي خُلُقٌ ... وبكلٍّ أنا في الحربِ جَديرُ وقريب من هذا قول أبي خراش: فإنْ تزعُمي أني جبُنتُ فإنَّني ... أفرُّ وأرمِي مرَّةً كلّ ذلكِ أُقاتلُ حتَّى لا أرَى لي مُقاتلًا ... وأنجُو إذا ما خفتُ بعضَ المهالكِ وقد ذكر بعضهم وقد عُبِّر بالفرار أنَّه لم يفرَّ حتَّى فرَّ أصحابه، وهو عبد الله بن الحميّر العقيليّ أخو توبة، وكان لقي حربًا ففرَّ فاعترضه بعض أصحابه فقال له: أردِفني، فلم يفعل وقال: غداةَ يقولُ القَينُ هل أنتَ مُردِفي ... وما بين ظهر القَين والرُّمح إصبعُ فقلتُ له يا بنَ المُريبة إنَّها ... بربٍّ خفيفً واحدٍ هي أسرعُ فإنْ يكُ عارًا يومَ وجٍّ أتيتُه ... فِراري فذاك الجيشُ قد فرَّ أجمعُ
وممَّن آثر القتل على الفرار بنو ماويَّة بنت الأحبّ وكانوا سبعة قتلوا بأجمعهم في بعض حروب خثعم، فقالت أُمُّهم ترثيهم: هوتْ أُمُّهم ماذا بهم يومَ صُرِّعوا ... بجَيْشان من أوتاد مُلكٍ تهدَّما أبَو أن يفرُّوا والقَنا في نُحورهم ... ولم يرتَقوا من خَشية الموت سُلَّما ولو أنَّهم فرُّوا لكانوا أعزَّةً ... ولكنْ رأوا صبرًا على الموتِ أكرَما وإلى هذه الأبيات نظر أبو تمَّام في قوله يرثي محمَّد بن حُميد: وقد كانَ فوتُ الموتِ سهلًا فردَّه ... إليه الحفاظُ المرُّ والخلقُ الوعرُ ونفسٌ تعافُ الفقرَ حتَّى كأنَّه ... هو الكفرُ يومَ الرَّوعِ أو دونه الكفرُ فأثبتَ في مستنقعِ الموت رجْلَه ... وقال لها من تحتِ أخمَصك الحشرُ ولمَّا وقعت الهزيمة على مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أميَّة، بموضع من أرض مصر يقال له أبو صير أهاب بالنَّاس ليرجعوا، فلم يلووا عليه، فنضا سيفه وقاتل قتال مستقتلٍ، فقال له المسوِّدة لما رأوا من وافر بأسه وشجاعته: يا هذا، لا تقتل نفسك ولك الأمان، فتمثَّل بأبيات تمثَّل بها الحسين صلوات الله عليه يوم قُتل وقد بُذل له الأمان، وهي: أذُلُّ الحياة وذُلُّ الممات ... وكلًاّ أراهُ طعامًا وَبيلا فإنْ كانَ لا بدَّ إحداهُما ... فسِيروا إلى المَوت سَيرًا جميلا ومثل هذا ما يُروى لأبي تمَّام - ما نظنُّه له -: رحِم اللهُ جعفرًا فلقد كانَ أبِ ... يًّا شَهمًا وعاش كريما مثَّل الموتَ بين عينيه والذُّ ... لَّ فكُلًاّ رآهُ حظًّا لَئيما ثمَّ سارتْ به الحميَّةُ قُدْما ... فأماتَ العِدى ومات كريما كعب بن الأشقريّ في المغيرة بن المهلَّب: كم حاسدٍ لك قد عَطلتَ همَّتَهُ ... مُغرًى بشتم صروف الدَّهر والقدرِ كأنَّما أنت سهمٌ في مَفاصله ... إذا رآكَ ثنَى طَرْفًا على عَوَرِ كم حسرةٍ منك تَرْدِي في جَوانحه ... لها على القلبِ مثلُ الوخْز بالإبرِ
أنتَ الكريمُ الَّذي لا شيءَ يُشبهُهُ ... لا عيبَ فيك سوَى أنْ قيلَ من بشَرِ البيت الأخير من هذه الأبيات مدحٌ مخرجه مخرج الذَّمّ وقد ذكره عبد الله بن المعتز في كتاب ألَّفه ولقَّبه بكتاب البديع، وهذا المعنى كثير في الشعر القديم والمحدث، فمن ذلك قول ابن المولى: ألا بأبينا جعفرٍ وبأُمِّنا ... إذا ما أُسودُ الحرب سارَ لواؤُها ولا عيبَ فيه غير ما خوفِ قومِه ... على نفسِهِ أن لا يطولَ بقاؤُها والأصل في هذا المعنى وهو النهاية في الجودة والصحة والإصابة قول النابغة الذبياني: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قِراع الكتائبِ وقد أخذ السَّموأل بن عاديا لفظ النابغة في هذا البيت ومعناه فقال: ولا عيبَ فينا غير أنَّ سيوفنا ... بها من قِراع الدَّارِعين فلولُ ومن هذا المعنى قول جُويَّة بن عطيَّة السَّعدي: ولا عيبَ فينا غير أنَّه فِصالَنا ... عِجافٌ فقلنا نحن بالبازل البزما وأنَّا نرَى أنَّ السُّيوفَ لئيمةٌ ... إذا لم نجدْ فيها من أعدائنا الدَّما هذا مثل بيت النابغة إلاَّ أنَّ بيت النابغة أجود، ومثله قول النابغة الجعديّ: فتًى تمَّ فيه ما يسرُّ صديقَهُ ... على أنَّ فيه ما يسوءُ الأعادِيا فتًى كمُلتْ أخلاقُه غيرَ أنَّه ... جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقيا ومثله قول أبي الأسود: يقولون نصرانيَّةٌ أُمُّ خالدٍ ... فقلتُ ذَروها كلُّ نفسٍ ودِينُها فإنْ تكُ نصرانيَّةٌ أُمُّ خالدٍ ... فإنَّ لها وجهًا جميلًا يَزينُها ولا عيبَ فيها غيرَ زُرقةِ عَينها ... كذاك عِتاقُ الطَّير زرقٌ عُيونها ومثله قول نُصيب أو غيره: سمعتُ بذكر النَّاس هندًا فلو أزلْ ... أخا دَنَفٍ حتَّى نظرتُ إلى هندِ فأبصرتُ هندًا حرَّةً غير أنَّها ... تصدَّى لِقتل المسلمين على عَمْدِ ومثله قول ابن الرّوميّ: ولا عيبَ فيها غيرَ أنَّ ضجيعَها ... وإن لم تُصبهُ السَّاهريَّةُ يسهرُ ومثله قول ابن رابعة اليربوعيّ:
ولا عيبَ فينا غير رَدّ نسائكم ... إليكم ولولا نحن عُدنَ حوامِلا وأنَّا كشَفْنا العارَ عنكم بوقعةٍ ... أذلَّتْ من الأعداءِ رأسًا وكاهِلا ومثله قول الفضل بن الرَّبيع: لا عيبَ فيَّ سوَى مُداعبتي ... عِينًا يَصِدنَ الأُسدَ بالمُقَلِ ما ضرَّني أن قال ذو حسدٍ ... أتلفتَ مالَ أبيك في الغزلِ ومثله للشنفرى يذكر فرسه: ولا عيبَ في اليَحموم غير هُزاله ... على أنَّه يوم الهِياج سَمينُ وكم مِن عظيم الخَلق عَبْلٍ موثَّقٍ ... حواهُ وفيه بعد ذاكَ جُنونُ ومثله قول أبي هِفَّان: عيبُ بني مَخْلَدٍ سَماحُهم ... وأنَّهم يُتلفونَ ما مَلَكوا وأن فيهم لِمن يلايِنُهم ... لِينٌ وفيهم لغيرهم حَسَكُ ومثله للقطاميّ: جزَى اللهُ خيرًا والجزاءُ بكفِّه ... بني دارمٍ عن كلِّ جانٍ وغارمِ همُ حَمَلوا رَحْلي وأدُّوا أمانتي ... إليَّ وردُّوا فيَّ ريشَ القوادمِ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ قُدورَهم ... على المالِ أمثالُ السِّنين الحَواطمِ وأنَّ مَواريثَ الأولَى يرِثونَهم ... كنوزُ المعالِي لا كنوزُ الدَّراهمِ وما ضرَّ منسوبًا أبوه وأُمُّه ... إلى دارمٍ ألاَّ يكونَ لهاشمِ ومثله قول ابن أبي أميَّة الكاتب: خلا من العيبِ غير أنْ فترتْ ... منهُ جفونٌ ومالَ كالغُصُنِ لا شيء فيه يقول عائبُهُ ... قد تمَّ لو أنَّ ذاك لم يكُنِ البيت الثاني من هذين البيتين هو من غير هذا المعنى الَّذي نحن فيه، ومثله قول الآخر: ليس فيها ما يقالُ لهُ ... كمَلَتْ لو أنَّ ذا كمَلا كلُّ جزءٍ من محاسنها ... قائمٌ في حُسنه مثَلا
قد أتينا من هذا المعنى بنظائر كثيرة، وهو يتَّسع لولا أن قد ذهبنا لاختصاره ههنا، ويقرب من هذا المعنى الَّذي ذكرناه ههنا معنًى آخر، وهو ضدُّه، وسبيله أن لا يثبت معه لا للتّقارب بل للتضادّ، وقد أكثرت الشعراء مثله في القديم والمحدث، ولم يذكره ابن المعتز في كتاب البديع على معرفته بالشعر وحُسن نقده، فلا ندري لأيّ حالٍ أغفله، وقد ذكر أنَّه استغرق في كتابه جميع معاني الشعر الَّذي يقال له البديع، وهذا المعنى ذمٌّ مخرجه مخرج المدح، فمن ذلك - وهو الأصل - قول طرفة بن العبد: ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ له غنًى ... وأنَّ له كشْحًا إذا قامَ أهْضَما وأنَّ جوارِي الحيِّ يعكُفْنَ حولَه ... عُكوفَ النَّصارَى حول عيسى بن مَريَما ومثله قول النّجاشيّ أو غيره: قُبيّلة لا يَغدِرون بذمَّةٍ ... ولا يظلِمون النَّاسَ حبَّةَ خردَلِ ولا يَرِدون الماءَ إلاَّ عشيَّةً ... إذا صدَرَ الورَّادُ عن كلِّ منهلِ وقد تكلَّمنا على هذين البيتين في موضعهما من الكتاب؛ ومن هذا المعنى قول جوَّاس بن القَعْطل: رأيتُ أبا القعقاع لا يكرهُ الخَنا ... ولكنَّه يسرِي إليه فيُسرعُ يُحسِّرُ رأسًا لا يقنَّعُ للخنا ... ولكنَّه للمكرُماتِ يُقنَّعُ ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ سَوامَه ... يُعنِّي الَّذي يرجو نَداه ويخدَعُ ومثله قول الكميت بن معروف: لا خيرَ في عمرو بن مُ ... رَّة غير ما خَلْقٍ ومنظَرْ ودراهمٍ كثُرتْ يُشَ ... دُّ على خواتمها وتُطمرْ وسَوارحٍ مثل الدَّبا ... وصوافِنٍ كالرِّيح ضُمَّرْ هي نُهْزةٌ للسَّائلي ... نَ وعن حقوق الحيِّ تُحظرْ والدَّهرُ يهدِمُ ما بنَى ... ويُذلُّ عزَّةَ مَن تجبَّرْ ومثله قول العُجير: رأيتكمُ لا تُنكرونَ دنيَّةً ... ولا تَدفعونَ الحقَّ والحقُّ مُقبلُ فإنْ نالَكم ذُلٌّ بَخَعتم بكلِّ ما ... يَرومُ العدوُّ منكمُ ويؤمِّلُ ولا خير في أقوالكم غير أنَّها ... تَروق العيونَ كثرةً حين تُنقلُ
ومثله قول دِعبل في مالك بن طوق إذ عُزل: لا خيرَ فيك سوَى كلامٍ طيّبٍ ... ومَواعدٍ تُدنِي وفِعلٍ يُبعِدُ وأُبوَّةٍ في تغلبٍ لو أنَّها ... للكلب كانَ الكلبُ فيها يزهدُ ومثله قول أبي تمَّام في مالك أيضًا ورهطه: كثرتْ فيهم المواشيُ إلاَّ ... أنَّها من مَناكحٍ ودِياتِ ومثله لابن الروميّ: كثرتْ دراهمُ خالدٍ ... لكنَّها من دَخلِ عِرسِهْ ما شئتَ من خيرٍ يخبِّ ... رُ زائرًا عن طِيب نفسِهْ ومثله لعمارة بن عقيل: ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ جيادَهُ ... مسوَّمةٌ ليستْ بهنَّ كُلومُ وأسيافُهُ لم تدرِ ما طعمُ ضربةٍ ... فهنَّ صِحاحٌ ما بهنَّ ثُلومُ مثله: أغرَّك أنْ كانت لبطنك عُكنةٌ ... وأنَّك مَكفيٌّ بمكَّةَ طاعمُ ومثله لأحمد بن يوسف الكاتب: كنيفُ ديوانك مختومُ ... وأنتَ في دَينك مرْكومُ أحسنُ ما فيك على أنَّه ... أقبحُ ما في الأُمَّةِ اللُّومُ ومثله قول دِعبل في أبي تمَّام: تشبَّهتَ بالأعراب أهل التَّعجرُفِ ... فدلَّ على فَحواكَ قبحُ التَّكلُّفِ لسانٌ نُباطيٌّ إذا ما صرفتهُ ... إلى جهة الأعرابِ لم يتصرَّفِ وشيخُك شيخٌ صالحٌ غيرَ أنَّه ... مليءٌ بتحبيرِ الرِّداءِ المفوَّفِ لئن كانَ للأشعار والنَّحو حافظًا ... لقد كانَ من حفَّاظ سُورة يوسفِ نسب أباه في هذا البيت إلى الحياكة لأنَّ أكثر الحاكة يحفظون سورة يوسف. ومن المعنى الَّذي نحن فيه قول الأسلميّ في قومٍ كانوا يقولون أنَّهم من ولد عقيل بن أبي طالب، وكان شكَّ في نسبهم: يقولونَ طبعُ الطَّالبيِّين مرَّةٌ ... وطبعُكم فيما يقولون بلغمُ فإنَّهم أومَوا إلى دَفع حقِّكم ... ولا ذنبَ لِي إنَّ الأطبَّاء أعلمُ وقد أكثر مَخلد بن بكَّار الموصليّ في هذا المعنى، ونحن نذكر بعض ذلك، فمنه قوله: أنتُ عندِي جَدَلِيٌّ ... ليس في ذاكَ كلامُ عربيٌّ عربيٌّ ... عربيٌّ والسَّلامُ لك من ميراثِ آبا ... ئك قِسِيٌّ وسِهامُ وضِبابٌ مُخضَباتٌ ... ويَرابيعٌ وهامُ
وقذَى عينيك صَمغٌ ... ونواصيك ثَغامُ شَعرُ ساقَيك وفَخْذيْ ... كَ خُزامَى وثُمامُ قاعدٌ في وسْط سلمَى ... وحَواليك سِلامُ أنتَ لو جُلتَ كذى لانْ ... جَفَلتْ منك نَعامُ أنا ما ذَنبي إذا كذَّ ... بَني فيك الأنامُ وبدتْ منك سَجايا ... نَبَطِيَّاتٌ لئامُ وقَفًا يَحلف ما إنْ ... أعرَقَتْ فيك الكرامُ وله أيضًا مثله من قصيدة: أُريِّثُ عن عِرضه العالَمين ... وأرفعُ من ذِكره الخامِلا ولو أنَّ في الصَّبرِ لِي مُبغِضًا ... لأمَّمه حافيًا راجِلا فما لي أُقاتلُ فيه الأنامَ ... فأقطَع في حبِّه الواصِلا أنا قلتُ شهوتُهُ خارِج ... وقد زَعموا يشتهي داخِلا وقد زعموا أنَّه حامِلٌ ... ومَن رأى ذكَرًا حامِلا وقد قَرَفوا أُمّه بالبَلاء ... فقلتُ اخْسَئوا قتمُ باطِلا فقالوا كيف يكون الصَّمي ... مُ ينكِحُ ذا عدَمٍ وائِلا ولو لم يكنْ ههنا ريبةٌ ... لمَا نكحَ النَّاهقُ الصَّاهِلا وقد قيل في أُخته ما سمعتَ ... وقد صدَّق الفاعلُ القائِلا أرادتْ وتِربٌ لها نُزهةً ... فصادفَتا ثمِلًا جاهِلا فكان من الأمرِ ما قد علمتَ ... فآبتْ إلى أهلها حامِلا وله أيضًا في هذا المعنى: أنت عندي صَليبةٌ كم تصيحُ ... شَعرُ فخذَيك والمفارِقِ شِيحُ عينُك القاصِعاءُ أنفك دَأما ... ءُ وأُذناك نافِقاءُ فسيحُ شَعرُ إبْطَيك أبْهُقانٌ وصُدغا ... كَ شُكاعَى خلاله..... قد عَدَدْناك في الذُّرى بعدَ وهمٍ ... فاعْف واصفحْ إنَّ الكريمَ صَفوحُ قد أتينا من هذين المعنيين بما فيه مقنعٌ وتركنا منهما أضعاف ما ذكرنا. أنشدنا أبو بكر بن دريد، ﵀، لجَهم بن خلف المازنيّ وزعم أنَّه أجود ما قيل في ذِكر الحمَام: أبكيتَ أنْ صدحتْ حمامةُ أيكةٍ ... ورقاءُ تهتفُ في الأراكِ وتسجَعُ عجبًا لمبكَى عينها وجُمودِها ... وللوعةٍ في صدرها ما تقلِعُ هيَّاجة الأحزان مِطراب الضُّحى ... تَبكي بشجوٍ دائمٍ وتفجَّعُ
غَرَدتْ بلحنٍ فاستجابَ لصَوتها ... وُرقٌ على فَنَن الغُصونِ تفجَّعُ يُسعدنَ فاقدةً أُنيحَ لفَرخها ... سَوذانِقٌ شاكِي المَخالب أسفَعُ فانقضَّ من جوِّ السَّماء كأنَّه ... برقٌ تلألأَ من سحابٍ يلمَعُ فحَواه بين مخالبٍ مَذْرُوبةٍ ... ومضَى كلمحِ البرقِ أو هوَ أسرَعُ من بعدِ ما طارتْ به من عُشّها ... واخْضرَّ منه الطَّوقُ فهْوَ ملمَّعُ أودَى بواحدها الزَّمانُ وريبُهُ ... إنَّ المنايا بالأحبَّةِ تفجَعُ أفتِلك أم كُدريَّةٌ بتَنوفةٍ ... غَبراءَ يُصبحُ آلُها يترفَّعُ باتتْ تلظَّى للورود ودُونها ... يَهْماءُ طامسةُ المعالم بلقَعُ فغدتْ لوِرْدٍ قبلَ فُرَّاط القطا ... تنجُو نجاءً في الرِّياحِ وتمزَعُ عُلويّةٌ تطوِي الفِجاجَ وتنتَحي ... بلَبانها في الرِّيحِ حين ترفَّعُ فبدَا لها حَوْمٌ وقد متَعَ الضُّحى ... مُتحيِّرٌ يستنُّ فيه الضّفدَعُ فدنتْ ونادتْ باسمِها ثمَّ ارتوتْ ... من باردٍ للكُدرِ فيه مشرَعُ حتَّى إذا نهِلتْ وبلَّتْ نحرَها ... وتحاملَتْ عادتْ إليه تكرَعُ فبدتْ لها من حَمأةٍ مَسنونةٍ ... حَدَمٌ ومن طِين الشَّرائع ترفَعُ ناطتْ إداوتَها إلى حَيزومها ... وتروَّحتْ عجلَى النّجاء تسرَّعُ لمُزَغَّبٍ ألِفَتهُ بين تنائف ... فيها لكُدْريّ القطا مستودَعُ فتناوبتْهُ على المساءِ فصوَّبتْ ... ما أُرْبِغَتْ طورًا تفوق وترقَعُ فسقتْهُ أنفاسًا فأدنَى جِيدَهُ ... من جِيدها وفؤادُهُ لا ينقَعُ أما وصف الحمام من الشعراء المتقدمين والمحدثين فكثيرٌ جدًا إلاَّ أنَّ هذا المعنى الَّذي ذكرناه قليلٌ فيه، ونحن نختار منه شيئًا، فمن ذلك قول ابن الطَّثْريَّة: تذكَّرتُ ليلَى أنْ تغنَّتْ حَمامةٌ ... وأنَّى بليلَى والفؤادُ قريحُ يمانيَّةٌ أمستْ بنجرانَ دارُها ... وأنتَ عراقيٌّ هواكَ نَزوحُ ومن دون ليلَى سبسبٌ مُتماحلٌ ... يُجيبُ صداهُ البومَ حين يَصيحُ
يظلُّ به سربُ القطا متحيِّرًا ... إذا ماجَ بحرُ الآلِ وهْوَ يلوحُ تَجوب من البيداءِ كَدراءُ جَونةٌ ... سماويَّةٌ عجلَى النّجاء طَموحُ تُبادرُ جَونًا تَنسج الرِّيحُ مَتنهُ ... له حَبَبٌ في جانبَيه يَسيحُ عليه دِفاقٌ في الغُدَيَّات واردٌ ... ولآخرَ في بَرد العشِيِّ يروحُ فعبَّتْ وعبَّ السِّربُ حتَّى إذا ارتوتْ ... ذكرنَ فِراخًا دونهنَّ طَروحُ ملأنَ أداوَى لم يشِنْهنَّ خارِزٌ ... بسَيْرٍ ولا يُلفَى بهنَّ جروحُ فطِرن يُبادرنَ الضِّياءَ تقدَّمتْ ... عليهنَّ مِغلاةُ النّجاء طَموحُ إلى ابنٌ ثلاثٍ بالفلاة كأنَّما ... بجَنْبَيه من لَفْح السّموم جُروحُ فظلَّتْ تُسقِّيه نِطافَ إداوَةٍ ... له غَبْقةٌ من فضلها وصَبوحُ ومن هذا المعنى قول أبي صفوان الأسديّ: وقد شاقَني نوحُ قُمريَّةٍ ... هتوفِ الغَداةِ طَروب العِشا من الوُرق نوَّاحةٍ باكرتْ ... عَسيبَ أشاءٍ بذات الغضَى فغنَّتْ عليه بلحنٍ لها ... يَهيجُ على الصِّبّ ما قد مضَى فلم أرَ باكيةً مثلَها ... تبكِّي ودَمعتُها لا تُرَى أضلَّتْ فُرَيخًا فطافتْ به ... وقد عَلِقتهُ حبالُ الرَّدَى فلمَّا بدَا اليأسُ منها بكتْ ... عليه وماذا يرُدُّ البُكا وقد صادَهُ ضَرِمٌ مُلحَمٌ ... خفوقُ الجَناح حثيثُ النَّجا حديدُ المخالبِ عارِي الوظي ... فِ ضارٍ من الزُّرقِ فيه قَنا فباتَ عَذوبًا على مَرقَب ... بشاهقةٍ صَعبةِ المُرتقَى فلمَّا أضاءَ له صُبحُهُ ... ونكَّبَ عن منكبيهِ النَّدَى وحتَّ بمَخطمه جامدًا ... على خَطْمِه من دماءِ القَطا تصعَّدَ في الجوِّ ثمَّ اسْتَدا ... رَ طار حَثيثًا إذا ما انْصَمَى فآنسَ سربَ قَطا قاربٍ ... جبَى منهلٍ لم تَمِحْهُ الدَّلا غدونَ بأسقيَةٍ يَرتوينَ ... لزُغبٍ مُطرَّحةٍ بالفَلا يُبادرنَ وِردًا فما يَرعوين ... على ما تخلَّفَ أو ما وَنَى تذكَّرنَ ذا عَرْمَضٍ طاميًا ... يجولُ على حافتَيه الغُثا
به رفقةٌ من قطًا واردٍ ... وأُخرى صوادرُ عنه رِوَا فملأنَ أسقيةً لم تُشدّ ... بخرزٍ وقد شُدَّ منها العُرا فأقعصَ منهنَّ كُدريَّةً ... ومزَّقَ حَيزومها والحشَى فطارَ وغادرَ أشلاءها ... تطيرُ الجنوبُ بها والصَّبا يَخَلْن حفيفَ جَناحيه إذ ... تدلَّى من الجوِّ برقًا بدَا فولَّين مجتهداتِ النَّجا ... جَوافِل في طامسات الصُّوَى ومن جيّد ما ذُكر به الحَمام، وإن لم يكن فيه ذكر القطا، قول حميد ابن ثور: وما هاجَ هذا الشَّوقَ إلاَّ حمامةٌ ... دعتْ بقلوبٍ في حمَامٍ ترنُّما من الوُرق حمَّاءُ العِلاطَين باكرتْ ... عَسيبَ أشاءٍ مطلعَ الشَّمس أسحَمَا إذا زعْزعتْهُ الرِّيح أو لعبتْ به ... أرنَّت عليه مائلًا أو مُقوَّما تُنادي حمامَ الجَلْهَتَيْنِ وترعَوِي ... إلى ابنِ ثلاثٍ بين عُودين أقْتَما مُطوَّق طوقٍ لم يكنْ عن جَعِيلةٍ ... ولا ضربِ صَوَّاغ بكفَّيه دِرهما بنَتْ بيتَهُ الخرقاءُ وهْيَ رفيقةٌ ... له بين أعوادٍ بعَلياءَ سُلَّما كأنَّ على أشداقهِ نَوْرَ حنوةٍ ... إذا هو مدَّ الجِيدَ منهُ ليطْعَما فلمَّا اكْتَسَى الرِّيشَ السُّخامَ ولم تجدْ ... لها معه في ساحةِ العُشِّ مجثمَا أُتيحَ لها صقرٌ مُنيفٌ فلم يدعْ ... لها ولدًا إلاَّ رِمامًا وأعظُما فأوْفتْ على غصنٍ ضُحَيًّا فلم تدعْ ... لباكيةٍ في شجوِها مُتلوَّما عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤها ... فصيحًا ولم تفتحْ بمنطقِها فَما ولمْ أرَ محزونًا له مثلُ شجوِها ... ولا عَرَبيًّا شاقهُ صوتُ أعجَمَا أما قوله: " مطوّق طوق " البيت، فمثل قول مجاشع الجرميّ: صدوحُ الضُّحَى معروفةُ اللَّحن لم تزلْ ... تقودُ الهوَى من شَجوها ويقودُها جزوعٌ جمودُ العَين دائمة البُكا ... وكيف بُكا ذي عبرةٍ وجمودُها مطوَّقةٌ لم يضربِ القَينُ فِضَّةً ... عليها ولم يعطلْ من الطَّوق جِيدُها
وأما قوله: " كأنَّ على أشداقه " البيت فقد تقدَّمت نظائره، ومن هذا المعنى في ذكر الحمام وليس فيه ذكر الصَّقر بل ذِكر رامٍ رمَى فأصاب، قول محمد بن يزيد الحِصنيّ: أشاقكَ برقٌ أم شجَتْك حمامةٌ ... لها فوقَ أغصان الأراكِ نَئيمُ أضافَ إليها الهمّ فقدانُ آلفٍ ... وليلٌ يسدُّ الخافقَين بَهيمُ أنافتْ على ساقٍ بليلٍ فرجَّعتْ ... وللوجدِ منها مُقعدٌ ومُقيمُ تَميدُ إذا ما الغصنُ مادتْ مُتونهُ ... كما مادَ من ريِّ المُدام نديمُ فباتتْ تُناديه وأنَّى يُجيبُها ... مَنوطٌ بأطراف الجناحِ سَهيمُ رَماه فأصْماهُ فطارتْ ولم يطرْ ... فظلَّ لها ظلٌّ عليه يحومُ قرينةُ إلفٍ لم تفارقهُ عن قلًى ... غداةَ غدَا يومٌ عليه مشومُ وراحتْ بهمٍّ لو تضمَّنَ مثلهُ ... حشَى آدميٍّ راحَ وهْوَ رميمُ فللبرقِ إيماضٌ وللدَّمعِ واكفٌ ... وللرِّيحِ من نحو العراقِ نسيمُ وللطَّائرِ المحزون نغمٌ كأنَّها ... على كبدِ الصِّبّ المُحبِّ كلومُ غناءٌ يروعُ المُنصتينَ وتارةً ... بكاءٌ كما يبكِي الحميمَ حميمُ فطورًا أشيمُ البرقَ أين مصابُه ... وطورًا إلى إعوالِ تلك أهيمُ ومن دونِ ذا يشتاقُ من كانَ ذا هَوى ... ويعزُبُ عنه الحلمُ وهْوَ حليمُ عِكرمة بن مُخاشن البلويّ: دعتْ فوقَ ساقٍ دعوةً لو تناولتْ ... بها الصّمَّ من أعلى أبانٍ تحدَّرا تُبكِّي بعينٍ تجري دموعُها ... ولكنَّها تُجري الدُّموع تذكُّرا مُحلاّةُ طوقٍ ليس يُخشَى انْفِصامهُ ... وصدرٌ كمقطوفِ البنفسج أخْضَرا تنازعُها ألوانُ شقرٍ صقالُها ... ترَى لتَلالي الشَّمس فيها تحيُّرا فما نعرف في هذا المعنى أحسن منه ولا أصحّ تشبيهًا لمن تأمَّله ووقف عليه، وما نعرف له نظيرًا فنورده، لقد تأتَّى لهذا الأعرابيّ تشبيهٌ حسنٌ صحيحٌ. وأمَّا قوله: " تنازعها ألوان شُقر " البيت، فإليه نظر البحتري بقوله: إذا قابلَتْه الشَّمسُ ردَّ ضياءهَا ... عليها صقالُ الأقحُوان المنوِّرِ
وأمَّا قوله: " تبكِّي بعين " البيت، فقد أخذه ديك الجنّ فقال: حمائمُ وُرقٌ في حمَى وَرَقٍ خُضر ... لها مقلٌ تُجري الدُّموعَ ولا تجرِي تكلَّفنَ إسعادَ الغريبة إذ بكتْ ... وإنْ كنَّ لا يدرينَ كيف جوَى الصَّدرِ لها حُرَقٌ لو أنَّ خنساءَ أعولَتْ ... بهنَّ لأدَّتْ حقَّ صخرٍ إلى صخرِ فقلتُ لنفسي ههنا طلبُ الأسَى ... ومَعدنُه إذ فاتني طلبُ الصِّبرِ طلَبنا ولو أُعطَى المنَى لصحبتُها ... حَمامًا ولو تُعطَى المُنَى لروتْ شِعري ومن مليح ما قيل في هذا المعنى قول ابن المعتز: وبكيتُ من حُزنٍ لنوحِ حمامةٍ ... دعتِ الهديلَ فظلَّ غيرَ مُجيبها ناحتْ ونُحنا غير أنَّ بكاءَنا ... بعيوننا وبكاؤها بقلوبِها نذكر ههنا قطعةً نختارها من مراثي العرب إذ كانت مراثيهم تصدر عن قلوبٍ قرحةٍ فتجود لذلك ألفاظها وتحسن معانيها، فمن ذلك قول الشَّمردل يرثي أخاه: أَلوف لأضياف الشِّتاء كأنَّما ... يراهُ الحَيا أيتامُهُ وأراملُهْ رخيصُ نضيجِ اللَّحمِ مُغْلٍ بِنيِّهِ ... إذا بردتْ عند الشِّتاءِ أناملُهْ إذا ما أتَى يومٌ من الدَّهر بيننا ... فحيَّاك عنِّي شرقُهُ وأصائلُهْ وكلُّ سَنا صبحٍ أضاءَ ومغربٍ ... من الشَّمس وافَى جُنحَ ليلٍ أوائلُهْ أبَى الصَّبرَ أنَّ العينَ بعدك لم تزلْ ... يخالطُ جفنَيها قذًى لا يزايلُهْ وكنتُ أُعيرُ الدَّمعَ قبلك من بكَى ... فأنتَ على مَن ماتَ بعدك شاغلُهْ يذكِّرني هيفُ الجنوبِ ومُنتهَى ... نسيم الصَّبا رمْسًا عليه جنادلُهْ وهاتفةٌ فوقَ الغصونِ تفجَّعتْ ... لِفقدِ حمامٍ أفردتهُ حبائلُهْ وسَورةُ أيدي القوم إذ حُلَّتِ الحُبَى ... حُبَى الشِّيب واستَغْوَى أخا الحِلم جاهلُهْ فعينيَّ إذ أبْكاكما الدَّهرُ فابْكِيا ... لمنْ نصرُهُ قد بانَ منَّا ونائلُهْ إذا استعبرتْ عُوذُ النِّساء وشمَّرتْ ... مآزرَ يومٍ لا تُوارَى خلاخلُهْ وثِقْنَ به عند الحفيظة فارْعَوَى ... إلى صوتهِ جاراتهُ وحلائلُهْ
وكنتُ به أغشَى القتالَ فعزَّني ... عليه من المقدارِ ما لا أُقاتلُهْ الأبَيرد اليربوعيّ يرثي أخاه: فإنْ تكنِ الأيَّامُ فرَّقنَ بيننا ... فقد عذرتْنا في صَحابتنا العذرُ وكنتُ أرَى هجرًا فراقك ساعةً ... ألا لا بلِ الموتُ التَّفرُّقُ والهجرُ فتًى إنْ هو استغنَى تخرَّقَ في النَّدَى ... وإنْ فاتَ مالٌ لم يضعْ متنهُ الفقرُ فتًى يشتَري حسنَ الثَّناء بماله ... إذا السَّنةُ الشَّهباء قلَّ بها القطرُ ويعلمُ أنَّ الدَّائراتِ دوائرٌ ... على المرءِ حتَّى يدركَ العسرةَ اليسرُ إلى الله أشكُو في بُرَيدٍ مُصيبتي ... وبثِّي وأحزاني يضيقُ بها الصَّدرُ وقد كنتُ أستعفِي الإلهَ إذا اشتكَى ... من الأجْرِ لي فيهِ وإنْ سرَّني الأجرُ فتَى الحيِّ والأضيافِ إن روَّحَتهمُ ... بَلِيلٌ وزادُ السَّفْرِ إنْ أرملَ السَّفْرُ سلكتْ سبيلَ العالمين فما لهُم ... وراءَ الَّذي لاقيتَ مَعدًى ولا قصرُ وأبليتَ خيرًا في الحياةِ وإنَّما ... ثوابكَ عندي اليومَ أن ينطقَ الشَّعرُ أمَّا قوله: " فتى يشتري حسن الثَّناء " والبيت بعده فقد أخذ صدرَيهما لفظًا أبو نواس فجعلهما بيتًا واحدًا وهو قوله: فتًى يشتري حسنَ الثَّناء بماله ... ويعلمُ أنَّ الدَّئراتِ تدورُ لبيد بن ربيعة العامريّ يرثي أخاه أرْبَد: ما إنْ تُعرِّى المنونُ من أحدٍ ... من والدٍ مُشفقٍ ومن ولدِ أخشَى على أربدَ الحتوفَ ولا ... أفرَقُ نَوءَ السِّماك والأسَدِ فجَّعَني الرَّعدُ والصَّواعق بال ... فارسِ يومَ الكريهةِ النَّجُدِ الحاربِ الجابرِ الحريبِ إذا ... جاءَ نكيبًا وإنْ تعُدْ يعُدِ لا تبلغُ العينُ كلَّ نهمتها ... ليلةَ تُمسي الجيادُ كالقِدَدِ كلُّ بني حرَّةٍ مصيرهمُ ... قُلٌّ وإنْ أكثرتْ من العددِ يا عينُ هلاَّ بكيتِ أربدَ إذ ... قُمنا وقامَ الخصومُ في كبَدِ إنْ يشغَبوا لا يبالِ شغبهمُ ... أو يقصدوا في الخِصام يقتصِدِ النمِر بن تولب يرثي إخوته:
بينَ البَديّ وبين برقة ضاحكٍ ... غوثُ اللهيف وفارسٌ مقدامُ ومقابرٌ بين الرُّسيس وعاقلٍ ... درستْ وفيها مُنجبونَ كرامُ جزعًا جزِعتُ عليهمُ فدعوتُهم ... لو يسمعونَ وكيف يُدعَى الهامُ لا تبعدُوا وغدَا السَّلامُ عليكمُ ... وسرَى فقد يتفرَّقُ الأقوامُ فأبِيت مسرورًا برؤيةِ من أرَى ... فإذا انتبهتُ إذا هيَ الأحلامُ الفرزدق في ابنَين له ماتا: وكم متمنٍّ أنْ أموتَ وقد بَنَتْ ... حَياتي له شمًّا عظامًا قبابُها فلا تحسَبا أني تضعضعَ جانِبي ... ولا أنَّ نارَ الحربِ يخبُو شهابُها بقِيتُ وأبقتْ من قَناتي مَصابَتي ... عَشَوزَنةً زَوراءَ صمًّا كعابُها على حدثٍ لو أنَّ سلمَى أصابَها ... بمثل بَنِيِّ ارْفضَّ منها هضابُها فما زلتُ أرمِي الحربَ حتَّى تركتُها ... كسيرَ الجناحِ ما يَدِفُّ عُقابُها إذا ما امْتراها الحالبونَ عصبتُها ... على القسرِ حتَّى ما يدِرُّ عِصابُها وأقْعتْ على الأذنابِ كلُّ قبيلةٍ ... على مضضٍ منِّي وذلَّتْ رقابُها أخٌ لكما إنْ عضَّ بالحربِ أصبحتْ ... ذَلولًا وإنْ عضَّتْ به فُلَّ نابُها كثيِّر يرثي عبد العزيز بن مروان: تقولُ ابنة البكريّ يوم لقيتُها ... لعمرك والدُّنيا متينٌ غرورُها لأصبحتَ هدَّتك الحوادثُ هَدَّةً ... نعمْ فشَواهُ الرَّأس بادٍ قتيرُها فأنساكَ سلمَى والشَّبابَ الَّذي مضَى ... وفاةُ ابنِ ليلَى إذ أتاكَ خبيرُها فإنْ تكُ أيَّام ابنِ ليلَى سبقْنَني ... وطالتْ سِنِيَّ بعدهُ وشهورُها فإنِّي لآتٍ قبرهُ فمسلِّمٌ ... وإنْ لم تكلّمْ حفرةٌ مَن يزورُها ترَى القومَ يُخفون التَّبسُّمَ عندهُ ... ويُنْذرهم عُورَ الكلام نَذورُها ليلَى الأخيليَّة في تَوبة: أعَيني ألا أبكِي توبةَ بن الحُمَيِّر ... بدمعٍ كسَحِّ الجدولِ المتفجِّرِ لتبكِ عليه من خَفاجةَ نسوةٌ ... بماءِ شؤون العَبرة المتحدِّرِ سمعنَ بِهَيْجا أرهقتْ فذكرنَه ... ولا يبعثُ الأحزانَ مثلُ التّذكُّرِ
كأنَّ فتَى الفِتيان توبةَ لم يُنخْ ... بنجدٍ ولم يهبطْ مع المتغوِّرِ ولم يردِ الماءَ السِّدامَ إذا بدَا ... سَنا الصُّبح في بادِي الحواشي المنوِّرِ قتلتمْ فتًى لم يُسقطِ الرُّعبُ رمحهُ ... إذا الخيلُ جالتْ في قنًا متكسِّرِ وبيداءَ مِمْحال يحارُ بها القطا ... قطعتَ على هَول الجَنان بمنسِرِ فلمَّا بدتْ أرض العدوِّ سقيتَها ... مُجاجَ بَقيّات المَزاد الموفَّرِ ولمَّا أهابوا للنِّهاب حويتَهُ ... بِخاظي البضيع مُلهب الشَّدِّ مِحضَرِ فأحرزتَ منهُ ما أردتَ بقدرةٍ ... وسطوةِ جبَّارٍ وإقدامِ قَسوَرِ ألا رُبَّ مكروبٍ أجبتَ ونائلٍ ... فعلتَ ومعروفٍ لديكَ ومُنكرِ فيا توبَ للمولَى ويا توبَ للنَّدَى ... ويا توبَ للمستنبحِ المتنوِّرِ أمَّا قولها: " ولمَّا أهابوا " البيتين، فما نعلم أنَّ أحدًا من الشعراء مدح إنسانًا بأنه يحوي السَّلَب ويُقدم عليه هذا الإقدام، الَّذي ذكرت ليلَى، غير هائلٍ، بل رأيناهم يمدحون الفارس بأنه يشهد الحرب ويُجيد القتال، فإذا بلغ حاجته من قهر عدوّه ترك السَّلب تنزُّهًا عن ذلك وظلف نفسٍ أن يأخذ شيئًا من أسلاب أعدائه بعد قتلهم وهزيمتهم إذ كان غرضه ذلك لا غيره، وقد ذكرنا قطعةً من أشعارهم في ذلك قبل هذا الموضع. وقالت ليلَى ترثي توبة أيضًا: أقسمتُ أبكي بعد توبةَ هالكًا ... وأحفِلُ مَن دارتْ عليه الدَّوائِرُ لعمرُك ما بالموتِ عارٌ على الفتَى ... إذا لم تصبهُ في الحياةِ المعايِرُ وما أحدٌ حيٌّ وإنْ كانَ سالمًا ... بأخلدَ ممَّن غيَّبتهُ المقابِرُ ومَن كانَ ممَّا يُحدثُ الدَّهرُ جازعًا ... فلا بدَّ يومًا أنْ يُرَى وهوَ صابِرُ وليسَ لذِي عيشٍ من الموتِ مذهبٌ ... وليس على الأيَّامِ والدَّهرِ غابِرُ وكلُّ جديدٍ أو سبابٍ إلى بلًى ... وكلُّ امرئٍ يومًا إلى اللهِ صائِرُ وكلُّ قَرينَي أُلفةٍ لتفرُّقٍ ... شَتاتًا وإنْ عاشا وطالَ التَّعاشُرُ
فأُقسمُ لا أنفكُّ أبكيكَ ما دعتْ ... على فنَنٍ وَرقاءُ أو طارَ طائِرُ قتيلَ بني عوفٍ فيا لَهْفَتا له ... وما كنتُ إيَّاهم عليه أُحاذِرُ ولكنَّما أخشَى عليه قبيلةً ... لها بدُروب الرُّوم بادٍ وحاضِرُ أمَّا قولها: " قتيل بني عوف " البيتين، فإنَّا عنتْ بهذه القبيلة غسَّان لأنَّهم ملوك يجوز أمرُهم، فقالت: إنَّما كنت أخشى أن يقتله بعض الملوك لا بني عوف وهذا هجاءٌ لهم وغضٌّ منهم، ومثله قول أبي خراش: لعمرُك ما خشِيتُ على أُبَيٍّ ... مَصارعَ بين قَوٍّ والسُّلَيِّ ولكنِّي خشيتُ على أُبَيٍّ ... جريرةَ سيفهِ في كلِّ حيِّ فتَى الفِتيان مُحْلَوْلٍ مُمِرٍّ ... وأمَّارٍ بإرشادٍ وغيِّ ومثله قول الآخر: لعمرُك ما خشيتُ على يزيدٍ ... رماحَ الجنِّ أو إيَّاكَ حارِ بَيْهس بن نُمير: إذا ما دعَا الدَّاعي حُصينًا رأيتَني ... أُراعُ كما راعَ العجولَ مُهيبُ وكم من سَمِيٍّ ليس مثلَ سَميِّه ... وإنْ كانَ يُدعَى باسمِهِ فيُجيبُ منقذ بن عبد الرحمن يرثي امرأته: وكذاكَ يفعلُ في تصرُّفِهِ ... والدَّهرُ ليس ينالُهُ وِتْرُ كنتُ الضَّنينُ بمنْ أُصبتُ بهِ ... فسلوتُ حين تقادمَ الدَّهرُ ولخيرُ حَظّك في المصيبةِ أنْ ... يلقاكَ عند نُزولها الصَّبرُ أمَّا قوله: " كنت الضَّنين " البيت، فمثل قول الآخر: وكما تبلَى وجوهٌ في الثَّرَى ... فكذا يبلَى عليهنَّ الحزنْ ومثله قول الآخر: يبرُدُ الحزنُ كلَّ يومٍ ويبلَى ... مثل ما يبرُدُ الحديثُ المُعادُ مثله قول أحمد بن أبي فنن في محمد بن عبد الملك الزّيّات وقد أُصيب بولدٍ له: أبا جعفرٍ والدَّهرُ فيه فجائعٌ ... تَروضكَ حتَّى لا تفيضَ المدامعُ ستَسلو إذا ما الدَّهرُ مرَّتْ صروفُهُ ... عليكَ ولو أقسمتَ أنَّك جازعُ مثله لأبي تمَّام: عجائبَ حتَّى فيها عجائبُ ابن المعذّل: ليس بمسخوطٍ فِعالُ امرئٍ ... كلُّ الَّذي يفعلُ مسخوطَ آخر:
أهَجرٌ بعدَ هجرٍ بعد هجرٍ ... لقد أنَست بالهِجرانِ صدرِي مثله لآخر: سيُسليك مرُّ الدَّهر عمَّن رُزِيتَهُ ... وإنْ ذرفتْ عيناك من بعدِهِ دَما وما أحدٌ في النَّاس يُسلبُ صبرهُ ... على أحدٍ إلاَّ أنابَ وسلَّما آخر: رُوّعتُ بالبينِ حتَّى ما أُراعُ له آخر: ورُوّعتُ حتَّى ما أُراعُ من النَّوَى ومن جيد المراثي ونادرها لفظًا ومعنًى قول ثابت بن جابر بن سفيان الفهميّ يرثي الشَّنفرَى: فإنْ تكُ نفسُ الشَّنفرَى حُمَّ يومُها ... وراحَ له ما كانَ منهُ يُحاذرُ فما كانَ بِدعًا أن يصابَ فمثلُه ... أُصيبَ وحُمَّ الملتَجُون الفوادرُ قضَى نحبَهُ مستكثرًا من جميلهِ ... مُقلًاّ من الفحشاءِ والعِرضُ وافرُ يفرِّجُ عنه غُمَّةَ الرَّوع عزمُه ... وصفراءُ مِرنانٌ وأبيضُ باترُ وأشقرُ غيداقُ الجِراء كأنَّه ... عُقابٌ تدلَّى بين نِيقَين كاسرُ يجُمّ جمومَ البحر طالَ عُبابُهُ ... إذا فاضَ منه أوَّلٌ جاشَ آخرُ لئنْ ضحكتْ منك الإماءُ لقد بكتْ ... عليك فأعْوَلْن النّساء الحرائرُ وطعنةِ خَلْسٍ قد طُعنتَ مُرِشّةٍ ... لها نفذٌ فيه تضلُّ المسابرُ إذا كُشفتْ عنها السُّتورُ شَحا لها ... فمٌ كفم العزلاءِ فَيحانُ فاغِرُ يظلُّ لها الآسي يميدُ كأنَّه ... نَزيفٌ هَراقتْ لُبَّه الخمرُ ساكرُ فيكفي الَّذي يكفي الكريمُ بحَزمه ... ويصبرُ إنَّ الحرّ مثلك صابرُ ومَرقبةٍ شمَّاءَ أقعيتَ فوقَها ... ليغنمَ غازٍ أو ليدركَ ثائرُ وأمْر كسدِّ المنخِرَين اعتليتَهُ ... فنفَّستَ منه والمنايا حواضرُ فلو نبَّأتْني الطَّيرُ أو كنتُ شاهدًا ... لآساكَ في البلوَى أخٌ لك ناصرُ وخفَّضَ جأشِي أنَّ كلَّ ابْن حُرَّةٍ ... إلى حيثُ صرتَ لا محالةَ صائرُ وإنَّ سوامَ الموت تَجري خِلالنا ... روائحُ من أحداثه وبواكرُ أمَّا قوله: " وخفَّض جأشِي " البيت، فمثل قول الخنساء: ولولا كثرةُ الباكين حَولي ... على إخوانهم لقتلتُ نَفسي
وما يبكون مثل أخي ولكنْ ... أُعزِّي النَّفسَ عنهُ بالتَّأسِّي وفي بيت الخنساء هذا زيادةٌ في المعنى، ومثل المعنى الأوَّل: ومنْ يرَ بالأقوامِ يومًا يرَوْا به ... فجيعةَ يوم لا تَوارَى كواكبُهْ وهوَّنَ وجْدِي عن خليليَ أنني ... إذا شئتُ لاقيتُ امرأً ماتَ صاحبُهْ ومثله: فإنْ يقسِموا مالِي بنِيَّ ونسوتي ... فلنْ يقسِمُوا خُلقي الجميلَ ولا فِعلي ولولا الأُسَى ما عشتُ في النَّاسِ ساعةً ... ولكنْ إذا ما شئتُ قابلَني مِثلي مثله: وهوَّنَ وجدي عن خليليَ أنني ... متَى شئتُ لاقيتُ امرأً ماتَ صاحبُهْ فاطمة ابنة الأحجم: يا عينُ بكِّي بَني سعدٍ ومثلهمُ ... أبْكِي إذا أعوزَ اللَّحمُ الأياسيرُ شُمٌّ أنوفهمُ غلبٌ رقابهمُ ... كأنَّ أوجههم حُسنًا دَنانيرُ كأنَّ عينيَ لمَّا أنْ ذكرتهمُ ... غُصنٌ يُراحُ من الطَّرفاءِ ممطورُ ما نعرف في سرعة تحدُّر الدمع مثل هذا البيت، وقريبٌ منه بيت جِران العَود: فبتُّ كأنَّ العين أفنانُ سِدرةٍ ... عليها سَقيطٌ من ندَى اللَّيل ينطُفُ إلاَّ أنَّ البيت الأول أتمُّ معنًى وأكثر زيادةً من بيت جران العود هذا لأنَّه ذكر أنَّ عينه مثل الغصن الممطور إذا حرَّكته الرِّيح وهذا النّهاية في سرعة تحدُّر الدَّمع، ومن أحسن ما قيل في سرعة الدَّمع بعد هذين البيتين: وما شَنتا خرقاءَ واهِيتا الكُلَى ... سقَى بهما ساقٍ ولمَّا تبلَّلاَ بأضيعَ من عينَيك للدَّمْع كلَّما ... تذكَّرتَ إلفًا أو توهَّمتَ منزِلا جوَّاس بن القعطل: لا زالَ صوبٌ من ربيعٍ وصيّفٍ ... بهضب القليب فالتِّلاعُ به خُضرُ يُروِّي عظامًا لم تكنْ في حياتها ... يرِنُّ بها حِنثُ اليمين ولا الغدرُ الغطمَّش الضَّبّيّ يرثي عبيدة بن الأعور: لعَنَ الإلهُ النَّاسَ إلاَّ مُسلمًا ... والدَّهرُ بعد بعيدة بنِ الأعورِ بعدَ امرئٍ واللهِ لم يكُ عاجزًا ... عند الحروبِ ولا ضعيفَ المَكسرِ
وإذا جنَيتُ عليه حربًا حاطَنِي ... ولجأتُ تحتَ لَبان لَيثٍ مُخدِرِ فمضَى وغادرَني أُعالجُ بعدَه ... حربَ النَّوائبِ في زمانٍ مُدبرِ مغلِّس بن لقيط يرثي أخاه: سقَى اللهُ أصداءً برقدٍ وذمَّةٍ ... برقدٍ ذهابًا لا تحلِّي غُيومُها ولا زالَ فينا كلُّ مَيثاءَ يُرتَعَى ... بها النَّورُ والبُلدانُ يُرعَى هَشيمُها ألا لا أرَى بعد ابنِ زينبَ لذَّةً ... لدُنيا ولا حالًا يَدومُ نَعيمُها ولا ذا أخ إلاَّ سيفجعُهُ به ... حِمام المنايا حين يأتِي غَريمُها ابن يربوع بن حنظلة: يُذَكِّرُني عمرًا بكاء حَمامةٍ ... على فَنَنٍ من بطنِ بِيشةَ مائلِ ترَى أهلَهُ في نعمةٍ وهْوَ شاحبٌ ... طَوِي البطنِ مخماصُ الضُّحَى والأصائلِ جُمانة ابنة الأحنف الدَّارميَّة: طلبتُ ولمْ أُدركْ بوجْهي ولَيتَني ... قَعدتُ فلم أبْغِ النَّدَى بعد غائبِ ولو جاءَ باغِي الخيرِ في عهد سائبٍ ... ثَوَى غيرَ قالٍ أو غَدا غيرَ خائبِ أقول وما يدري الَّذين غَدَوا بهِ ... على النَّعش ماذا أدْرَجوا في السَّبائبِ وكلُّ فتًى يومًا سيركبُ مرَّةً ... على النَّعش أعناقَ العدَى والأقاربِ أعرابيّ من بني سعد يرثي قومه: ألم ترَ خُلاَّني مضَوا لسبيلهم ... أبانٌ وعمرٌو منهمُ وجريرُ يقولُ رجالٌ لا يَضيرك فقدُهم ... بلَى إنَّ فقدَ الصَّالحين يَضيرُ هذا مثل قول الآخر: وقالَ أُناسٌ لا يضيرك نأيُها ... بلَى كلُّ ما شفَّ النُّفوسَ يضيرُها أليسَ يضيرُ العينَ أنْ تألَفَ البكا ... ويُمنعَ منها نومُها وسُرورُها وقريبٌ من هذا المعنى وإن لم يكن بعينه قول الآخر: وقالوا: لا يضيرك نأى شهرٍ ... فقلت لصاحبي: فلمن يضير الستمدرل بن شريك: دَلَّوْه فوق يديَّ تحت رِدائهِ ... خَفِرَ الشَّمائل مُسلَمَ الأسرارِ جَدَثا تضمَّنَ نائلًا وعفافةً ... أُسْقيتَ من جدثٍ كذاكَ كُبارِ كاللَّيث يُبطئُ عن أذَى جِيرانه ... ويكون أسرعَهم إلى الأثْآرِ عبيد بن أيوب العنبري:
سأبْكي حُصينًا ما تغنَّى حَمائمٌ ... وأبْكي حُصينًا والحمائمُ هُجَّدُ لقد هَدمُوا قِدْرًا جِماعًا وجَفنةً ... بوارى سَديف الشَّولِ كانتْ تُشيَّدُ وقد عاشَ محمودًا وأصبح فقْدُهُ ... على الأقرَبين والعِدَى وهْوَ أَنْكدُ أبو العالية: صبرتُ ولم أُبدِ اكْتِئابًا ولا تَرَى ... أخا جَزَعٍ إلاَّ يصيرُ إلى الصَّبرِ وإنِّي وإنْ أبديتُ صبرًا لمُنطوٍ ... على حَرّ أحزانٍ أحرَّ من الجمرِ وأملِكُ من عَيني الدُّموعَ وربَّما ... تبادرَ عاصٍ من سوابقها يجرِي تمثَّل قتيبة بن مسلم حين أتاه موت الحجَّاج بقول الحطيئة: لعَمري لَنعم المرءُ من آل جعفرٍ ... بحَورانَ أمسَى ألقَتْهُ الحبائلُ لقد فقدُوا عزمًا جليلًا وسُؤددًا ... وحِلمًا أصيلًا خالفتهُ المجاهلُ إذا عِشتَ لم أملَلْ حياتي وإنْ تمُتْ ... فما في حياةٍ بعدَ موتكَ طائلُ وما كانَ بيني لو لَقيتُك سالمًا ... وبين الغنَى إلاَّ ليالٍ قلائلُ طُفيل بن عوف الغنويّ يرثي زرعة بن عمرو بن الصَّعق: فلم أرَ هالكًا من أهلِ نجدٍ ... كزُرعةَ يوم قامَ به النَّواعِي أعزَّ رَزِيَّةً وأجلَّ فقدًا ... على المولَى وأفضلَ في المساعِي وأعزَزَ نائلًا لمَن اعْتَفاهُ ... وأصبرَ في اللِّقاء على المِصاعِ وأقْولَ للَّتي نبذَتْ بَينها ... وقد رأتِ السَّوابقَ لا تُراعِي فلا وَقَّافة والخَيلُ تُردِي ... ولا خالٍ كأنبوب اليَراعِ شِهابٌ يُستضاءُ به إذا ما ... دَجا الإظلامُ أوقَدَ باليَفاعِ زينب بنت الطَّثريَّة ترثي أخاها يزيد: أرَى الأثْلَ من بطن العقيق مُجاورِي ... مقيمًا وقد غالَتْ يزيدَ غوائلُهْ فتًى قُدَّ قدَّ السَّيف لا مُتضائلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبّاتُهُ وبَآدِلُهْ فتًى لا يُرَى خَرقُ القميص بخَصْره ... ولكنَّما تُوهِي القميصَ حَمائلهْ فتًى ليسَ لابن العمّ كالذِّئب إنْ رَأَى ... بصاحبه يومًا دَمًا فهْوَ آكلُهْ
يسُرُّك مظلومًا ويُرضيك ظالمًا ... وكلّ الَّذي حمَّلْتَه فهْوَ حاملُهْ إذا القومُ أمُّوا بيتَهُ فهو عامِدٌ ... لأفضلِ ما أمُّوا له فهو فاعلهْ إذا نزلَ الأضيافُ كانَ عذَوّرًا ... على الحيِّ حتَّى تستقِلَّ مَراجلهْ إذا كانَ خيرُ الجِدّ أرْضاك جِدُّه ... وذو باطلٍ إنْ شئتَ أرضاك باطِلهْ مضَى ووَرِثْناهُ دَريسَ مُفاضةٍ ... وأبيضَ هنديًّا طويلًا حَمائلهْ أمَّا قولها: " أرى الأثْلَ " البيت، فبذا أخذت أخت الوليد بن طريف الشَّارِي قولها ترثي أخاها الوليد: أيا شجرَ الخابور مالكَ مُورِقًا ... كأنَّك لم تجزعْ على ابْن طَريف أمَّا قولها: " فتًى قُدَّ قدَّ السيف " البيت، وقولها: " فتى لا يرى خرق القميص " البيت، تقول: إنَّه لطيف البطن مضطمِر الخصر، وهذا عندهم غايةٌ في المدح للصّعلوك والفارس، بل يرونه مدحًا للعظيم القَدر، فأمَّا الفارس فيمدح بالنَّحافة، فتقول: إنَّ خصره غير منتفخ لضُمره فما يتخرَّق قميصه في خصره لذلك، بل تتخرَّق أكتافه من نجاد سيفه، ويجوز أيضًا أن تكون مناكبه قليلة اللَّحم فيخرق قميصه، وشبيه بهذا المعنى قول متمِّم في أخيه مالك: لقد غيّب المِنهالُ تحت ردائه ... فتًى غير مِبطان العشيَّات أرْوعا ومثله: رأيتُكما يا بْنَي أخي قد سمِنتما ... وما يُدركُ الأوتارَ إلاَّ المُلوَّحُ وأمَّا قولها: " فتى ليس لابن العمّ " البيت، فإنَّ صاحب المنطق يذكر أنَّ الذِّئب إذا كان عليه أدنَى دمٍ اجتمعت عليه الذِّئاب فتوزَّعته بينها أشلاءً، ومثله قول الآخر: وكنتُ كذئب السَّوء لمَّا رأَى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال على الدَّمِ الغطمَّش الضِّبّيّ: أقول وقد ضاقتْ شؤوني بعَبرةٍ ... أرَى الأرضَ تبقَى والأخلاَّء تَذهبُ أخِلاَّيَ لو غير الحِمَام أصابَكم ... عَتبتُ ولكن ما على الموت مَعتِبُ أمَّا قوله: " أقول وقد ضاقت " البيت، فمثل قول الآخر:
إذا زرتُ أرضًا بعد طول اجْتنابها ... فقدتُ صديقِي والبِلادُ كما هِيا والأصل قوله: بَلِينا وما تَبْلَى النُّجومُ الطَّوالعُ ... وتبقَى البلادُ بعدنا والمَصانعُ وَسْنَى ابنة عمرو القيسيَّة: فتًى مثل صدر الهُنْدُوانيّ لم يكنْ ... جَبانًا إذا الحربُ العَوانُ اشْمَعلَّتِ ولو فُجعتْ غُرّ النُّجوم بمثله ... إذًا لتولَّى ضوءها واضْمحلَّتِ رأيتُ حالَ العِيس بعدك عُرِّيتْ ... ومكرمةَ الفتيان في النَّاس قلَّتِ توسعة بن أبي غسَّان: قلْ للأراملِ واليتامَى قد ثوَى ... فلْتَبْكِ أعينُها على عتَّابِ أودَى ابنُ كلّ مُخاطرٍ بتِلادِهِ ... وبنفسهِ بُقْيًا على الأحسابِ الرَّاكبين من الأمورِ صدورَها ... لا يركبونَ مَعاقدَ الأذْنابِ أنيف بن مخارق الأسديّ: أصبحتُ بعد ربيعةَ بن مُكدم ... غَرَضًا بصَرْدَحةٍ لِمن رامانِي فلأرْمينَّهمُ برغم أُنوفهم ... جَهدي على عَوَزِي من الفتيانِ ميَّة ابنة ضِرار ترثي أخاها قَبيصة: ما بات من ليلة مذ شَدَّ مِئزَرَهُ ... قَبيصةُ بن ضِرارٍ وهْوَ مَوتورُ لا يعرفُ الكلِمُ العُورانُ مجلسَهُ ... ولا يذوق طعامًا وهْو مستورُ الطَّاعن الطَّعنةَ النَّجلاءَ عن عُرُضٍ ... كأنَّها ضَرَمٌ باللَّيل مسعورُ عُتَيّ بن مالك العقيليّ: إذا النَّاسُ عَزَّوني تذكَّرتُ هل إلى ... لقاء ابْن أوسٍ في الحياةِ سبيلُ يُعزِّي المُعزِّي ساعةً ثمَّ يَنكفي ... وفي النَّفس حاجاتٌ لهنَّ غَليلُ كأنْ لم يُسايِرْني ابنُ أوسٍ ولم نرُعْ ... قلائصَ أطلاحًا لهنَّ ذميلُ ولم نُلقِ رَحْلَينا معًا بتَنوفةٍ ... ولم نرمِ جَوزَ اللَّيل حين يَميلُ
قُتَيْلة بنت النَّضر بن الحارث بن كلدة بن عبد الدَّار بن قصيّ، وكان النَّضر لعنه الله من المستهزئين برسول الله ﷺ فأُسر يوم بدر كافرًا، فضرب النَّبيّ ﷺ عنقه صبرًا بالصفراء في طريق بدر إلى المدينة، وكانت ابنته قُتيلة من أحسن نساء العرب وأفصحهنَّ، وكان النَّبيّ ﷺ أراد أن يتزوَّجها حتَّى كان من أمر أبيها ما كان، فكتبتْ إلى النَّبيّ ﷺ: يا راكبًا إنَّ الأُثَيلَ مَظِنَّة ... من صُبح خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ أبلغْ به مَيتًا بأن تحِيَّة ... ما إن تزالُ بها الرَّكائبُ تخفقُ منِّي إليك وعَبرةً مسفوحةً ... جادتْ بَوادرُها وأُخرى تخنُقُ هل يسمعنَّ النَّضرُ إنْ نادَيتَهُ ... بلْ كيفَ يسمعُ مَيِّتٌ لا ينطقُ ظلَّتْ سيوفُ بني أبيه تَنوشُهُ ... للهِ أرحامٌ هناك تُشقَّقُ قسرًا يُساقُ إلى المنيَّة مُتعبًا ... رَتَكَ المقيَّدِ وهْو عانٍ مُوثقُ أمحمَّدٌ ها أنتَ صِنْوُ نَجيبةٍ ... في قومها والفحلُ فحلٌ مُعرِقُ ما كانَ ضرَّك لو مَنَنْتَ فربَّما ... منَّ الفتَى وهو المَغيظُ المُحنَقُ فلمَّا اتَّصل شِعرها بالنَّبيّ ﷺ قال: لو كانَ اتَّصل بي قبلُ لمننتُ عليه. المرّار الفقعسيّ: ألا نوَّهَ الدَّاعي بعمرٍو فأسمَعَا ... ونادَى خبيرٌ منك يا عمرو أفظَعَا فقلتُ ألمَّا اسْتُكملتْ خَيراتُهُ ... وبَرَّز حانَتْه المنايا فودَّعا مضَى عنِّي به كلُّ لذَّةٍ ... تَقَرُّ بها عينايَ فانْقطعا مَعا شهدتُ على أرضٍ بها حفَروا له ... بِطيبِ الصَّعيد نكهةً وتَضوُّعا وما دنِسَ الثَّوبُ الَّذي زوَّدُوكَهُ ... وإنْ خانهُ رَيبُ البِلَى فتقطَّعا وطابَ ثرًى أصبحتَ فيه وإنَّما ... يطيبُ إذا كانَ الثَّرى لك مضجَعا دَفَعنا بك الأيَّامَ حتَّى إذا أتتْ ... إليك المنايا لم نجِد عنك مَدفَعا معروف بن مالك النَّهشليّ:
سأبْكيك ما فاضتْ دُموعي وإنْ تغِضْ ... فحسبك منِّي ما تُجنُّ الجوانحُ كأنْ لم يمتْ حيٌّ سِواك ولم تقُمْ ... على أحدٍ إلاَّ عليكَ النَّوائحُ لئن حسُنتْ فيك المَراثي وذِكرُها ... لقد حسُنتْ من قبلُ فيك المدائحُ فما أنا من رُزءٍ وإنْ جلَّ جازعٌ ... ولا في سُرور بعد موتك فارحُ كعب الغنويّ يرثي أخاه: تقولُ سليمَى ما لجسمك شاحبًا ... كأنَّك يحميك الشَّرابُ طَبيبُ أتَى دون حُلوِ العيش حتَّى أمَرَّهُ ... نُكوبٌ على آثارهنَّ نُكوبُ أخو شَتَواتٍ يعلمُ الضَّيفُ أنَّه ... سيكثُرُ ما في قِدره ويَطيبُ إذا ما تراءاهُ الرِّجالُ تحفَّظُوا ... فلم تنطقِ العوراءُ وهْوَ قريبُ فتًى لا يُبالي أن يكونَ بجسمه ... إذا نالَ خَلاَّتِ الكرام شُحوبُ وحدَّثْتُماني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيف وهذِي هَضبةٌ وكَثيبُ وماءُ سماءٍ ليس فيه مَحَمَّةٌ ... ببرِّيَّةٍ تجري عليهِ جنوبُ وإنِّي لَباكيهِ وإنِّي لَصادقٌ ... عليهِ وبعضُ القائلينَ كَذوبُ لعمرُكُما إنَّ البعيد الَّذي مضَى ... وإنَّ الَّذي يأتِي غدًا لقريبُ أما قوله: " إذا ما تراءاهُ الرِّجال " البيت فقريب من قول مُهلهل: نُبِّئتُ أنَّ النَّارَ بعدك أُوقدتْ ... واسْتَبَّ بعدك يا كُليبُ المجلسُ وتَفاوَضوا في أمرِ كلّ نقيصةٍ ... لو كنتَ شاهدَ أمرِهم لم ينْبِسوا وأمَّا قوله: " وحدَّثتماني " البيت والبيت الَّذي بعده فمثل قول أبي ذُؤيب: يقولونَ لي لو كانَ بالرَّملِ لم يمتْ ... نُبَيْشةُ والطُرَّاق يكذِب قيلُها ولو أنَّني أودعتُهُ الجوَّ لارْتَقتْ ... إليه المنايا عينُها أو رسولُها على حين ساواهُ الشَّبابُ وقاربتْ ... خُطايَ وخِلتُ الأرضَ وعْرًا سُهولُها أوس بن حجر، وكان الأصمعي والمفضّل الضَّبّيّ وأكثر الرُّواة يقولون إنَّه لم يبتدئ أحدٌ من الشعراء ابتداء مرثية أحسن من ابتداء هذا الشِّعر، وهو: أيَّتُها النَّفسُ أجمِلي جزعا ... إنَّ الَّذي تحذَرين قد وقَعا
ألا لمِّعِي الَّذي يَظنّ لك الظَّ ... نَّ كأن قد رأَى وقد سمِعَا والحافظ النَّاسَ في المُحول إذا ... لم يُرسِلوا خلفَ عائذٍ رُبعا وهبَّتِ الشَّمألُ البَليلُ وقد ... أمسَى ضجيعُ الفتاة مُلتَفِعا عامَ تُرَى الكاعبُ المنَعَّمةُ ال ... حسناءُ في زادِ أهلِها سَبُعا ليبككَ الضَّيفُ والمجالسُ وال ... فِتيا طرًّا وطامعٌ طَمِعا والحيُّ إذْ حاذَروا الصَّباحَ وقد ... خافوا مُغارًا وآنَسوا فَزَعا والتحمَتْ حَلْقتا البِطان على ال ... قومِ وجاشتْ نفوسُهم جَزَعا كثيِّر: تاللهِ أنسَى مصيبتي أبدًا ... إن أسْمعتْني حَنينَها الإبِلُ لم يعلمِ النَّعشُ ما عليه من ال ... جُود ولا الحاملونَ ما حَمَلوا حتَّى أجَنُّوهُ في ضريحهمُ ... حيثُ انتهَى من خليلك الأمَلُ أما قوله: " لم يعلم النَّعش ما عليه " البيت، فأخذه ابن ميَّادة في قوله: ما دَرَى نعشُهُ ولا حاملوه ... ما على النَّعشِ من عَفاف وجُود حُميد بن ثور: لقد غادرَ الموتُ قبل الصَّفا ... وبعد المُشقَّر قدرًا جليلا كثيرًا حلاوةُ أخلاقِهِ ... شديدَ المَرارة صَعبًا ذَلولا خذلتَ الوليَّ لِكأس الحِمامِ ... ولم تكُ يا بْن عُمَيرٍ خذولا وأيَّمتَ منَّا الَّتي لم تلدْ ... كيُتْمِ بَنيك وكنتَ الخليلا وكنتَ لنا جَبَلًا مَعْقِلًا ... وعند المَقامة بُرْدًا جميلا وتَغْدِي بمالِك أموالَنا ... فلا يحسبُ النَّاسُ فينا بخيلا مطر بن جبير العجليّ: أقلِّي من التِّبْكاءِ يا أُمَّ مالكٍ ... عليك فإنَّ الدَّهرَ جَمٌّ غوائلهْ لقد رحلَ الحيُّ المُقيمُ وخلَّفوا ... فتًى لم يكنْ يَبدأْ به من يُنازلهْ ولم يكُ يخشَى الجارُ منه إذا دَنا ... أذاهُ ولا يخشَى الحَريمةَ سائلهْ وقد كانَ عبد الله ذا أرْيَحِيَّةٍ ... إذا اهتزَّ للخير الَّذي هو فاعلهْ ولو أنَّني قدَّرتُ يومَ حِمامه ... لقاتلْتُ عنه لو أرَى من يُقاتلهْ سَلَمة بن مالك الجعفيّ:
أقولُ لنفسِي في الخَلاءِ ألومُها ... لكِ الويلُ ما هذا التَّجلُّدُ والصَّبرُ أما تفهمينَ الخُبرَ أنْ لستُ لاقِيا ... عِرارًا وقد واراهُ من دونيَ القبرُ وكنتُ أعدُّ بَينهُ بعضَ ليلةٍ ... فكيف ببينٍ دون ميعادهِ الحشرُ وهوَّنَ وَجْدي أنَّني سوف أغتَدِي ... على إثرهِ يومًا وإنْ طالَ بِي العُمرُ فلا يُبعِدَنْك اللهُ إمَّا تَركتنا ... حميدًا وأودَى بعدك الخوفُ والبِشرُ فتًى كانَ يُعطي السَّيفَ في الرَّوع حقَّهُ ... إذا ثوَّبَ الدَّاعِي وتشقَى به الجُزرُ فتًى كانَ يُدنيهِ الغِنَى من صديقهِ ... إذا ما هو استغْنَى ويُبعدُهُ الفقرُ فنِعم مُناخُ الحيّ كانَ إذا انبرتْ ... شَمالٌ وأمستْ لا يُعرِّجُها سِترُ ومأوَى اليتامَى المُمْحِلين إذا انْتَهوا ... إلى بابهِ شُعثًا وقد قحَطَ القطرُ وقال: سقر اللهُ قبرًا لستُ زائرَ أهلهِ ... ببِيشةَ إمَّا أدركتْهُ المَقابرُ تضمَّن خِرقًا كالهلال ولم يكنْ ... بأوَّل خِرقٍ ضُمِّنتهُ المقابرُ كأنِّي غداةَ اسْتَعْلَنوا بنَعيِّه ... على النَّعشِ يهفُو بين جَنبَيَّ طائرُ هشام بن عُقبة أخو ذي الرُّمَّة: نعَى الرَّكبُ أوفَى حينَ آبتْ رِكابُهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍّ فأوجَعوا نَعَوا باسقَ الأخلاق لا يخلفونَهُ ... تكادُ الجبالُ الصمُّ منه تصدَّعُ تعزَّيتُ عن أوفَى بغَيلانَ بعدَه ... عَزاءً وجفنُ العين مَلآن مُترعُ ولم يُنسني أوفَى المُصيباتُ بعدَه ... ولكنَّ نَكْأَ القَرح بالقَرح أوجعُ عجز هذا البيت من المعاني الجياد والأمثال السَّائرة وما نعرف له نظيرًا فنورده.
لمَّا فرغ خالد بن الوليد من قتال طليحة بن خويلد الأسديّ ومن كان معه، مضى إلى أرض بني تميم لقتال من ارتدَّ بها من العرب، فلمَّا صار بمكانٍ يقال له البطاح من أرضهم ألفَى به بني يربوع وعليهم مالك بن نويرة اليربوعيّ فقتله في جماعة من قومه، ويقال أنَّ خالدًا قتل مالكًا ومن معه وهم مسلمون وذلك أنَّ أبا بكر ﵁ قدم إلى خالد ومن معه من المسلمين إذا نزلوا بحيّ من أحياء العرب أمهلوهم إلى وقت الصلاة فإن رأَوهم يصلُّون وإلاَّ قاتلوهم، فيقال إنَّ أصحاب خالد وافوا بني يربوع وقت الفجر، فأذَّن مؤذّنهم وأذَّن مؤذّن الآخرين سواء فأتوا جميعًا الصلاة، إلاَّ أنَّ خالدًا قتلهم أجمعين. ويقال إنَّ خالدًا لمَّا أمر بضرب عنق مالك التفت وهو يُقاد إلى القتل، فنظر إلى امرأته وهي أجمل نساء العرب وهي تبكي مسفرةً عن وجهها، فقال لها: أنت والله قتلتني بهذا الجمال، لأنَّ خالدًا لمَّا نظر إليك وقعتِ بقلبه فأمر بقتلي. ويقال إنَّه لما قتله أخذ رأسه فجعله أثْفِيَّةً للقِدر وجعل وجهه مما يلي النَّار، فنظرت إليه على تلك الحال امرأة من قومه فقالت: اصرفوا وجهه عن النَّار فإنَّه والله كان غضيض الطَّرف عن الجارات، حديد النَّظر في الغارات، لا يشبع ليلة يُضاف، ولا ينام ليلة يخاف. ولمَّا قتله خالدٌ تزوَّج امرأته، وكان مالك من فرسان العرب وفتيانهم، وأكثر فيه أخوه متمِّم من المراثي. ويقال إنَّه قدم المدينة بعد قتل أخيه متظلِّمًا، فاستنشده المسلمون شعرَه في أخيه، فأقبل ينشدهم وهو يبكي، فقال له عمر بن الخطاب ﵁: سألتك الله، يا متمِّم، هل كان أخوك على ما تصفه في شعرك؟ قال: اللهم نعم، إلاَّ أني قلت في بعض ذلك: " فتًى غيرَ مِبطان العشيَّات أروَعا " وقد كانت له بطنٌ حادرةٌ، ويقال إنَّه سئل عن أخيه وجَلده فقال: كان يركب الجمل الثَّفالَ بين المزادتين النَّضوحَين في اللَّيلة القَرَّة ويعتقل الرُّمح الخطل ويجنِّب
الفرس الجرور وعليه الشَّملة الفَلوت ثمَّ يصبح ضاحكًا طلق الوجه، وسئل مرَّةً أخرى فقيل له: أين كان مالك منك؟ فقال: ساعةٌ واحدة - والله - من مالك مثل حولٍ منِّي مجرَّمٍ، قيل: وكيف ذاك؟ قال: أُسرت في بعض أحياء العرب فأقمتُ حولًا مجموعةً يدايَ إلى عنقي، فلمَّا كان في الشَّهر الحرام جاء مالك لفدائي، فلمَّا أشرف على الحيّ ونظروا إلى جماله لم يبقَ فيهم قاعدٌ إلاَّ قام ولا ذات خِدرٍ إلاَّ كشفت سِجفَ خِدرها لتنظر إليه، فلمَّا كلَّمهم وسمعوا فصاحته وبيانه أطلقوني له بغير فداء فعلمتُ أنَّ ساعةً منه خيرٌ من حول منِّي. وكان متمِّمٌ أعور فيُروى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب قال له: يا متمِّم! ما بلغ من حزنك على مالك؟ فقال: بكيتُ عليه بعيني الصحيحة حتَّى أسعدتها بالبكاء عيني العوراء، فقال أمير المؤمنين: هذا نهاية الحزن. ومراثي متمِّم في مالك كثيرة إلاَّ أنَّا نورد ما نختار من بعضها، فمن ذلك قصيدته المشهورة وأوّلها: لعمري وما عَمري بتأبين مالكٍ ... ولا جزعًا ممَّا أصابَ فأوجَعا لقد غيَّبَ المِنهال تحت ردائهِ ... فتًى غيرَ مِبطان العشيَّاتِ أروعا لبيبًا أنارَ اللُّبَّ منه سماحةً ... خَصيبًا إذا ما راكبُ الجَدب أمْرَعا تَراهُ كمثل السَّيف يندَى بَنانهُ ... إذا لم تجدْ عند امرئ السَّوء مطمَحا ويومًا إذا ما كظَّك الخصمُ إنْ يكنْ ... نَصيرَك فيه لا تكنْ أنتَ أضْرَعَا أبَى الصَّبرَ آياتٌ أراها وأنَّني ... أرَى كلَّ حَبلٍ بعد حبلك أقطَعا أقول وقد طارَ السَّنا في رَبابه ... بجَونٍ يَسُحُّ الماءَ حتَّى تَريَّعا سقَى اللهُ أرضًا حلَّها قبرُ مالكٍ ... ذهابَ الغَوادي المُدجِنات فأمْرعا لَعِشنا بخَير في الحياة وقبلَنا ... أصابَ المنايا رهطَ كسرَى وتُبَّعا وكنَّا كنَدمانَي جَذيمةَ حِقبةً ... من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يتصدَّعا فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكًا ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً مَعَا
تقولُ ابنةُ العَمْريّ مالَكَ بعدَنا ... أراكَ قديمًا ناعمَ البالِ أفرَعَا قَعيدَكِ ألاَّ تُسمعيني مَلامةً ... ولا تَنْكَئي قرحَ الفؤاد فييجَعَا بحسبك أنِّي قد جهدتُ فلم أجدْ ... بكفِّي عنهُ للمنيَّة مدفَعَا فما وجْدُ أظْآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ... رأينَ مَجَرّا من حُوارٍ ومصرَعَا ولا شارِفٍ جَشَّاء رِيعت فرجَّعتْ ... حَنينًا فأبكَى شجوُها البَرْكَ أجمَعَا بأوجَدَ منِّي يومَ فارقتُ مالكًا ... ونادَى بهِ الموتُ الحثيثُ فأسمَعَا فإنْ يكُ حُزنٌ أو تتابُعُ عَبرةٍ ... أذابتْ عَبيطًا من دمِ الجوف مُنقَعَا تجرَّعتُها في مالكٍ واحْتَسَيْتُها ... لأعظمَ منها ما احْتَسَى وتجرَّعَا وكان الَّذي قتل مالكًا رجلٌ يعرف بابن الأزور وفيه يقول متمّم: نِعم القتيلُ إذا الرِّياحُ تناوحتْ ... خلفَ البُيوت قتيلُك ابنَ الأزورِ أدَعَوتَهُ بالله ثمَّ غَدَرتَهُ ... لو هُو دعاكَ بذمَّةٍ لم يغدِرِ لا يُضمرُ الفحشاءَ تحتَ ثيابه ... حلوٌ شمائلُهُ عفيفُ المَيْزَرِ فلَنِعم حشوُ الدِّرع كنتَ وحاسرًا ... ولَنِعم مأوَى الطارق المتنوِّرِ سمحٌ بأذناب المخَاض إذا شَتَا ... طلقٌ حلالُ المال عير عَذَوَّرِ وله من أُخرى: ولو شئتُ بالله الَّذي نزَّلَ الهُدَى ... حَلَفتُ وبالأدْم المجلَّلَة الهُدْلِ لئن مالكٌ خلَّى عليَّ مكانَهُ ... لنِعمَ فتَى العَزّاء والزَّمن المحْلِ شديدٌ على الأعداءِ سهلٌ جَنابُهُ ... لمنْ يَجتدِي معروفَهُ غير ذي دخْلِ كريم الثَّنا حُلْو الشَّمائل ماجدٌ ... صَبورٌ على العَزَّاء مُشترَكُ الرَّحْلِ حليمٌ إذا القومُ الكرامُ تَنازَعوا ... فحُلَّتْ حُباهم واسُخِفُّوا من الجهْلِ وإنْ كانتِ الظَّلماءُ سِترًا لبعضهم ... بدَا وجهُهُ في غير فُحش ولا بخْلِ أخو ثقة لا يعتَري الذَّمُّ نارَهُ ... إذا أُوقدتْ بين الرَّكائب والرَّحْلِ وكلُّ امرئٍ في النَّاس بعد ابنَ أُمِّه ... كساقطةٍ إحدَى يَدَيه من الخبْلِ
وبعضُ الرِّجال نخلة لا جَنَى لها ... ولا ظلَّ إلاَّ أن تُعَدَّ من النَّخْلِ وله من أُخرى: حَلَفتُ بربّ الرَّاقصات عشيَّةً ... وحيث تُناخ البُدْنُ دافَعها العقلُ لئن فاتَني ريبُ الزَّمان بمالك ... وقد كملتْ فيه المروءةُ والعقلُ ففاتَ ولو قيل الفِداءُ فديتُهُ ... وما عزَّ مالٌ عن فِداهُ ولا أهلُ لنِعم مُناخ الضَّيف إنْ جاءَ طارقًا ... إذا أخمدَ النِّيرانَ أو حارَدَ المحلُ ونِعم محلُّ الجار حلَّ بأهله ... إذا ما بدَا كعبُ المَصونة والحِجْلُ ونِعم أخو العاني إذا القيدُ عضَّهُ ... وأسرَعَ في ضاحِي سواعده الغُلُّ حَييٌّ بَذِيٌّ أيّ ذلك التمستَهُ ... وذو لبدٍ شَثْنٌ براثنُهُ عَبْلُ وإن جاءَ طاري اللَّيل يخبِط طارقًا ... تهلَّلَ معروفٌ خلائقُه جَزْلُ أخو ثقة لا يَعتري الذَّمُّ نارَهُ ... إذا لم يكنْ في القومِ شُربٌ ولا أكلُ ومراثي متمّم في مالك كثيرةٌ جدًّا وإنَّما أتينا منها باليسير اجتنابًا للتطويل. جرير يرثي امرأته أمّ حَزْرة: لولا الحياءُ لهاجَني استعبارُ ... ولزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ فسقَى ثرَى جدثٍ ببُرقة ضاحكٍ ... هزِمٌ أجشُّ وديمةٌ مِدرارُ متراكمٌ زجِلٌ يُضيءُ وميضُهُ ... كالبُلقِ تحت بطونها الأمهارُ صلَّى الملائكةُ الَّذين تُخيِّروا ... والمُصطفونَ عليك والأبرارُ فلقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ ... ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقارُ فعليكِ من صلواتِ ربّك كلَّما ... ضجَّ الحجيجُ ملبِّينَ وغاروا كانتْ مُكارمةَ العَشير ولم يكنْ ... يخشَى غوائلَ أمّ حَزْرةَ جارُ ولَّهتِ قلبِي إذ عَلَتْني كبرةٌ ... وذَوو التَّمائمِ من بَنيكِ صغارُ أرعَى النُّجومَ وقد مضتْ غَورِيَّةٌ ... عُصَبُ النُّجوم كأنَّهنَّ صِوارُ يا نظرة لك يوم هاجتْ عبرةً ... مِن أُمّ حَزْرة بالنُّميرةِ دارُ تُحيي الرَّوامسُ ربعَها فتجدُّهُ ... بعد البلَى وتُميتُهُ الأمطارُ
كانَ الخليطُ همُ الخليطُ فأصبحوا ... مُتبدِّلين وبالدِّيار ديارُ لا يلبثُ القُرناءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ كثيّر في خالد بن عبد الله الأسديّ: على خالد أصبحتُ أبْكي لخالد ... وأصدُقُ نفسًا قد أُصيبَ خليلُها تذكَّرتُ منه بعد أوَّل هجعةٍ ... مساعيَ لا أدرِي على مَن أُحيلُها وكنتَ إذا نابتْ قُريشًا ملمَّةٌ ... وقال رجالٌ سادةٌ مَن يزيلُها تكون لها لا مُعجَبًا بنجاحها ... ولا يحمل الأثقالَ إلاَّ حمولُها فأينَ الَّذي كانتْ معدٌّ تنوبُهُ ... ويحتملُ الأعباءَ ثمَّ يَعولُها النابغة الجعديّ: ألا أبلِغا عَوفًا وصاحبَ رَحله ... ومن يغوِ لا يعدمْ على الغيِّ لاحِيا فأيّتما عينٍ بكتْ إنْ هلكْتما ... فلا رقأتْ حتَّى تموتَ كما هِيا ولو أنَّ قومي لم تحنى جُدودهم ... وأحلامُهم أصبحتُ للفتقِ آسِيا ولكنَّ قومي أصبحوا مثلَ خيبرٍ ... بها داؤُها ولا تضرُّ الأعادِيا تلومُ على هلكِ البعير ظَعينتي ... وكنتُ على لَوم العواذل بازِيا ألم تعلَمي أنِّي رُزئتُ مُحاربًا ... فما لكِ منه اليومَ شيءٌ ولا لِيا فتًى تمَّ فيه ما يسرُّ صديقَهُ ... على أنَّ فيه ما يسوءُ الأعادِيا فتًى كمُلتْ أخلاقُهُ غيرَ أنَّه ... جوادٌ فيما يُبقي من المالِ باقِيا ومِن قبله ما قد فُجعتُ لعامرٍ ... وكانَ ابنَ عمِّي والخليلَ المُصافِيا وما شَكِسُ الأنياب شَثنٌ بنانُهُ ... من الأسْدِ يَحمي من تِهامةَ وادِيا إذا ما رأَى قِرنا مُدِلًا هوَى له ... جرِيئًا على الأقرانِ أغضَفَ ضارِيا فليس بمسبوقٍ بشيءٍ أرادَهُ ... وليس بمغلوبٍ وليس مُفادِيا بأعظمَ منهُ في الرِّجالِ مَهابةً ... وآخرَ معدوًّا عليه وعادِيا فلا يُبعدْنكَ اللهُ إنْ كانَ حدثٌ ... أصابكَ عنَّا نازحَ الدَّار نائِيا ولكنْ جزاكَ اللهُ حَيّا وهالكا ... على كلِّ حالٍ خيرَ ما كانَ جازيا مُرَّة بن عمرو النَّهشلي:
لعمري لئنْ أمسَى يزيد بن نهشلٍ ... حَشا جَدَثٍ تسفِي عليه الرَّوائحُ لقد كانَ ممَّن يبسطُ الكفَّ بالنَّدَى ... إذا ضنَّ بالخير الأكُفُّ الشَّحائحُ إذا ابتدَرَ البابَ المَهيبَ رأيتَهُ ... يَدِنُّ جَنابَيه الكهولُ الجحاجحُ فبعدك أبدَى ذو الضَّغينة ضِغنَهُ ... وسدَّ ليَ الطَّرفَ العيونُ الكواشحُ ذكرتُ الَّذي ماتَ النَّدَى عند موتِهِ ... بعاقبةٍ إذ صالحُ العيش طالحُ إذِ العيشُ لم يكدَرْ عليَّ ولم يمتْ ... يزيدُ وإذْ لِي ذو العداوة ناصِحُ وعافتْ عليَّ النَّومَ عينٌ مريضةٌ ... إذا أُشربَ النَّومَ العيونُ الصَّحائحُ إذا جمدتْ عنك العيونُ وحادَرَتْ ... فيَبكيك من عينيَّ دمعٌ مُسامحُ إذا أرَقِي أفنَى من اللَّيل ما مضَى ... تمطَّى به ثِنْيٌ من اللَّيل جانِحُ ليَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومة ... ومُستنبحٌ في أوَّل اللَّيل طائِحُ ولعبد الرَّحمن بن حسَّان الكلابيّ: كأنَّ العين حين تُريد نَوما ... طريفٌ أو بفُلْفُلة كَحيلُ أعاذلَ أقصِري عن بعض لَومي ... فإنَّ اللَّومَ محمِلُهُ ثقيلُ وقُولي لا ألومُكَ أو تنحَّى ... وقد يُعصَى وإن نصحَ العَذولُ أعاذلَ إنَّ صبْرِي عن عمير ... لَتَجميلٌ وما ذهبَ الغَليلُ إذا وطَّنتُ جأشي للتَّعَزِّي ... أبَى الذِكِراتُ والعينُ الهمولُ رأينا مَن تقاسمُهُ المنايا ... يُضامُ ولا يُفاداهُ قَتيلُ فصبرًا يا عُمَيْرُ فكلُّ قوم ... سيسلبهُم كريمهمُ السَّبيلُ وقولِي غيرَ كاذبةٍ رُزئنا ... فتَى صدقٍ إذا برَدَ الأصيلُ لأمَّمتُ النَّدَى وطَلَعتَ فيه ... ثنايا الطَّالعونَ لها قليلُ وركبٍ قد هوَوْا لك بعد ركبٍ ... تلفُّهم شآميَّةٌ بَليلُ تخطَّوْا نحو نارك كلَّ نارٍ ... ووجهُك والنَّدَى لهمُ دليلُ إلى رَحب الفِناء نَدٍ نَجيبٍ ... كأنَّ جبينَهُ سيفٌ صقيلُ أغرّ تُفرِّجُ الغَمَّاءَ عنه ... إمامتُهُ الكريمةُ والرَّحيلُ يزينُ الرَّكبَ حين يكون فيهم ... ويحمَدُهُ المُرافقُ والخَليلُ
وقد غلِقَ النَّدَى بلوَى زَرودٍ ... لقد غالَ ابن عبد الله غُولُ كأنَّ الأرضَ إذ فقدتْ عميرًا ... وإنْ جادَ الرَّبيعُ بها مَحولُ أمَّا قوله: " كأنَّ العين حين تُريد نوما " البيت، فمأخوذ من قول المرقِّش: وكأنَّ حبَّةَ فلفلٍ في عَينه ... ما بين مُصبَحها إلى إمْسائها ومنه أخذ عبد العزيز قوله: " كأنَّ فلفلة كُحِلَ بها مذبوحه. وأمَّا قوله: " تخطَّوا نحو نارك " البيت، فمنه أخذ النَّمريُّ قوله: ليلٌ من النَّقع لا شمسٌ ولا قمرُ ... إلاَّ جبينك والمذروبة الشَّرَعُ ومثله للأُخيطل: لا نجمَ إلاَّ البِيضُ وال ... بَيضاتُ والدَّرَق اللَّوامِعْ ومثله: تَبني سنابكُها مِن فوق هامهمُ ... ليلًا كوكبُهُ البِيضُ المباتيرُ ومثله لبشَّار: كأنَّ مُثارَ النَّقع فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ ولعبد الرحمن بن حسَّان أيضًا: يا أُمَّ بشرٍ ثِقي بالله واعْترِفي ... بالحقِّ إنَّ قضاءَ الله مَبرومُ وانْعَيْ أباكِ إذا ما قالَ مُختبطٌ ... أين الكرامُ المَطاعينُ المَطاعيم مثل السِّنان لطيف البطن لا مرِحٌ ... إنْ نالَ دُنيا ولا بالزَّاد مَنهومُ لا يُسلمُ الجارَ والمولَى لعَثْرته ... ولا يُسالمُ وابنُ العمّ مظلومُ وله أيضًا: قالتْ سُلَيْمَى وأبصرتْ عَجَبا ... مالَكَ نِضْوًا واللُّبُّ مُشترَكُ فقلتُ بي غُصَّةٌ أُكابدُها ... أولادُ عوفٍ وعامرٍ هَلَكوا خَلَّوا فِجاجًا عليَّ فانْحرفتْ ... لم يستطعْ سدَّهنَّ مَن تَرَكوا ومن مشهورات المراثي وجِيادها قصيدة أبي ذؤيب الهذليّ يرثي بَنيه ونحن نختارها وأوَّلها: أمِن المَنون ورَيبها تتوجَّعُ ... والدَّهرُ ليس بمُعتبٍ مَن يجزَعُ ولقد أرَى أنَّ البُكاءَ سلامةٌ ... ولَسَوفَ يولَعُ بالبُكا مَن ييْجَعُ قالتْ أُميمةُ ما لِجسمك شاحبًا ... منذُ ابتُذِلْتَ ومثلُ مالِكَ ينفَعُ أمْ ما لِجسمك لا يُلائمُ مضجعًا ... إلاَّ أقضَّ عليك ذاكَ المضجَعُ
فأجبتُها أنْ ما لجسميَ أنَّهُ ... أودَى بَنِيَّ من البلادِ فودَّعوا أودَى بنيَّ وأعقَبوني حَسرةً ... عند الرُّقاد وعَبرةً ما تُقلعُ فالعينُ بعدهمُ كأنَّ حِداقَها ... سُملتْ بشوكٍ فهْيَ عُورٌ تدمَعُ سَبَقوا هوايَ وأعْنَقوا لِهواهُمُ ... ففقدتهمُ ولكلِّ جنبٍ مصرَعُ فلبثتُ بعدهمُ بعيش ناصِب ... وإخالُ أنِّي لاحقٌ مُستتبَعُ ولقد حَرَصتُ بأن أُدافعَ عنهمُ ... فإذا المنيَّةُ أقبلتْ لا تُدفَعُ وإذا المنيَّةُ أنشبتْ أظفارَها ... ألفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفَعُ وتجلُّدي للشَّامتينَ أُريهمُ ... أنِّي لرَيب الدَّهر لا أتضعضَعُ حتَّى كأنِّي للحوادثِ مَروةٌ ... بصفا المُشَقَّر كلَّ يوم تُقرَعُ والنَّفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتَها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنَعُ والدَّهرُ لا يبقَى على حَدَثانه ... جَونُ السَّراة له جدائدُ أربَعُ بقَرار قِيعانٍ سقاها صَيِّفٌ ... واهٍ فأثْجَمَ بُرهةً لا يُقلِعُ والدَّهرُ لا يبقَى على حَدَثانه ... شَبَبٌ أفَزَّتْهُ الكلابُ مُفزَّعُ حَمِيتْ عليه الدِّرعُ حتَّى وجهُهُ ... من حرِّها يومَ الكريهةِ أسفَعُ بَينا تَعنُّقِهِ الكُماةَ وخُدعةٍ ... منه أُتيحَ له جَريءٌ سَلْفَعُ فتنادَيا وتواقفتْ خَيلاهُما ... وكِلاهما بطلُ اللِّقاءِ مخدَّعُ متحاميَين المجدَ كلٌّ واثق ... ببلائِهِ واليوم يومٌ أشنَعُ وعليهما مَسرودَتانِ قَضاهما ... داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ وكلاهما في كفِّهِ يَزَنيَّةٌ ... فيها سنانٌ كالمَنارة يلمَعُ وكلاهما متوشِّحٌ ذا رونقٍ ... عَضْبًا إذا مسَّ الضَّريبة يقطَعُ فتخالَسَا نفسَيْهما بنوافذٍ ... كنوافذِ الخرق الَّتي لا تُرقعُ وكلاهما قد عاشَ عيشَةَ ماجدٍ ... وجنَى العلاءَ لَوَ انَّ شيئًا ينفَعُ ومن المراثي الجِياد قصيدة زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلَّب، فاستنشده المهلَّب هذه القصيدة حتَّى أتى على قوله:
فإذا مررتَ بقبره فاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجان وكلَّ طرفٍ سابِحِ فقال له المهلَّب: فهل عقرتَ عليه، يا أبا أُمامة، فرسك؟ قال: لا، قال: ولِمَ؟ قال: لأنِّي كنت على مُقْرِف ولو كنتُ على عتيق لفعلت، فاستحسن المهلَّب قوله وقال لمن حضر مجلسه من ولده ومواليه: ليُهد كلُّ واحدٍ منكم إلى زياد فرسًا من خيله، فيقال إنَّه انصرف بأكثر من مائة فرس، وأوَّل هذه القصيدة المختارُ منها قوله: قلْ للقوافلِ والغُزاة إذا غَزَوا ... والباكِرين وللمُجِدّ الرَّائحِ إنَّ السماحةَ والمُغيرةَ ضُمِّنا ... قبرًا بمروَ على الطَّريقِ الواضحِ فإذا مررتَ بقبرِهِ فاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجان وكلَّ طرفٍ سابِحِ وانْضَحْ جوانبَ قبرهِ بدِمائها ... فلقد يكون أخا ندًى وذبائحِ وإذا يُناحُ على فتًى فتعلَّمَنْ ... أنَّ المغيرةَ فوق نَوح النَّائحِ وأرَى المكارمَ يوم زِيلَ بنَعْشه ... زالتْ بفضلِ مكارمٍ ومَمادحِ فكفَى لنا حَزَنًا ببيتٍ حَلَّهُ ... أُخرى الزَّمان فليس عنه ببارحِ لعَفَتْ منابِرُهُ وحُطّ سُروجُهُ ... عن كلِّ طامحةٍ وطِرْفٍ طامِحِ ماتَ المغيرةُ بعد طولِ تعرُّضٍ ... للموتِ بين أسنَّةٍ وصفائحِ والقتلُ ليس إلى القتالِ ولا أرَى ... حَيًّا يؤخِّرُ للشَّفيق النَّاصِحِ للهِ درُّ منِّيَّةٍ فاتتْ بهِ ... فلقد أراهُ يردُّ غَرْب الجامحِ الآنَ لمَّا كنتَ أكملَ مَن مَشَى ... وافترَّ نابُكَ عن شَباة القارحِ وتكامَلَتْ فيك المروءةُ كلّها ... وأعنْتَ ذلك بالفَعال الصَّالحِ فانْعَ المغيرةَ للمُغيرة إذ بدتْ ... شَعواءَ مُجْحِرةً نُباحَ النَّابحِ صفَّانِ مختلفانِ حين تلاقَيا ... آبُوا بوجْه مُطلِّق أو ناكحِ تَشفي بحِلْمك لابْن عمِّك جهلَهُ ... وتَرُدُّ عنه كفاحَ كلّ مُكافحِ وإذا الأُمورُ على الرِّجالِ تشابَهَتْ ... وتُوُزِّعتْ بمغالقٍ ومَفاتحِ فتَلَ السَّحيلُ بمبْرَمٍ ذي مِرَّة ... دون الرِّجال بفضل عقلٍ راجحِ
صِلٌّ يموتُ سليمُهُ قبل الرُّقَى ... ومُخاتِل لعدوّه بتصافُحِ إنَّ المَهالبَ لا يزالُ لهم فتًى ... يمرِي قوادمَ كلّ حربٍ لاقحِ ملكٌ أغرُّ متوَّجٌ يَسمو لهُ ... طرفُ الصَّديق وغُضَّ طرفُ الكاشحِ رفَّاعُ ألوية الحروبِ إلى العِدَى ... بسُعود طيرِ سوانحٍ وبَوارحِ أمَّا قوله: " فإذا مررتَ " البيتين، فكثير جدًّا وقد ذكرنا شيئًا منه، ومن مليح ما لم نذكره قول ابن الرومي يرثي بستان المغنّية: إنَّ ثرًى ضمَّها لأفضلُ مَح ... جوج لصبٍّ وخيرُ مُعتَمَرِ أقسمتُ بالدَّلِّ من مَلاحتها ... وحسنِ ذاك السُّجُوِّ والحَوَرِ لو عُقرتْ حول قبرها بَقَرُ ال ... إنسِ مكانَ القِلاص والجَزَرِ وانْتُحِرتْ في قبابها بُهُمُ ال ... حرب وصِيدُ المُلوك من مُضرِ يقول فيها: بستانُ أُسقيتِ من مدامِعِنا ... لا مِن سَواري الغُيوث والمطرِ بلْ حَقُّ سُقياكِ أنْ تكون من الصَّ ... هباء حِمصَ أو جَدَرِ بل من رحيق الجِنان يُختمُ بال ... مِسكِ سُلافًا به بلا عَكَرِ بل منْ نَجيع القلوب يُمزَجُ بال ... عَطف وصَفو الوِداد لا الكَدَرِ ما أحسن ما أتى ابنُ الرُّومي بهذين المعنيين إذ كانت مرثيته هذه لمُغنِّية وليست في شجاع ولا كريم فيذكر فيها من المعنى المتقدّم الَّذي كنَّا في ذكره، كما يُذكر في أمثالهما. وأمَّا قول زياد: " لعفت منابره " البيت، فإليه نظر البحتريّ بقوله في مرثية أبي سعيد: حُطَّتْ سروجُ أبي سعيدٍ واغْتَدتْ ... أسيافُهُ دون العدوِّ تُشامُ وأمَّا قوله: " صفَّان مختلفان " البيت، فمعنى غريب وما نعرف له نظيرًا في تمامه وزيادته لأنَّه ذكر أنَّ هذين الصَّفَّين لمَّا تلاقيا قُتل بعضهم فطُلِّقت نساء المقتولين ونكح آخرون، أراد أنَّهم سَبَوا نساءً فنكحوهنّ، وقد أتينا بقطعة صالحة من المراثي فيها مَقنع لما أردناه. ونذكر ههنا أشباه لها نظائر إلاَّ أنَّها غريبة قليلة، فمن ذلك قول زياد الأعجم:
لقد لجَّ هذا الدَّهرُ في نَكَباته ... عليَّ إلى أنْ ليسَ في الكِيسِ درهمُ وأمستْ جَواليقي برغم ظعينَتي ... رِهانًا على ما في الجَواليقِ يعكَمُ وأعظم مِن ذا أنَّ شِعريَ مُعربٌ ... فصيحٌ وأنِّي حين أنطِقُ أعْجمُ المعنى الَّذي في البيت الأوسط من هذه الأبيات غريب قليل في الشِّعر وما نعرف أحدًا من الشعراء المتقدمين والمحدثين أتى به إلاَّ زيادٌ وأخذ منه ابن زرعة الكنانيّ فقال: وسُفرتي في السُّوق مَرهونة ... على الَّذي يُؤكَلُ في السُّفره عمرو بن برّاقة الهَمْدانيّ: غَبرتْ خَيلُنا نُقاسمُها القُو ... تَ ولمْ يُبقِ حاصدُ المَحْل عُودا شتوةً تُوسعُ الجِمالُ لها الرِّسْ ... لَ ونَسقي عِيالَنا تَصريدا ذاكَ حتَّى إذا الرَّبيعُ نفَى الأز ... مةَ قُدْنا بها شياطينَ قُودا حبَّذا هنَّ مَتجرًا رَبَحَ الصَّفْ ... قَةِ تَحوي الغِنَى وتَشفي الحُقودا وهذا المعنى أيضًا قليل، ومن أجود ما نعرف فيه بعد هذه الأبيات قول طُفيل الغَنويّ: نُولِّيها الصَّريحَ إذا شَتَونا ... على عِلاَّتنا ونَلِي السَّمارا رجاءً أنْ تؤدِّيَهُ إلينا ... من الأعداءِ غَصْبًا واقْتِسارا الأوَّل أجود لأنَّ الثاني جعله " رجاءً " والأوَّل جعله حقًّا وبيَّن عنه فقال: " بكلّ قَعب لبنٍ قعودُ " والشيء إذا كان من جنسه كان أحذق لقائله، وهو يشبه قول أبي تمَّام: رَقاحِيُّ حربٍ طالَ ما انقلبتْ لهُ ... قَساطلُ يوم الرَّوع وهْيَ سَبائكُ ومثله قول البحتريّ: فلا تَسألوها عن قديم تُراثها ... فعَسجدُها ممَّا أفادَ حَديدُها وشبيه بهذا وإن لم يكن هو بعينه قول الآخر: شكرتْ جِيادُك منك حُسنَ مَقيلها ... في الصَّيف بين بَراقعٍ وجِلالِ فَجَزتكَ صبرًا في الوَغَى حتَّى انثنتْ ... جَرْحَى الصُّدور سليمةَ الأكفالِ لم نُرد بهذين البيتين سلامة الأعجاز وجِراحات الصُّدور، وأن ذلك مدحٌ للفارس، ولو أردنا ذلك لجئنا ببيت صالح الدَّيلميّ ونظائره، وهو:
كم قدَّ في الرَّوع للأعداءِ من ثُغَر ... وكم له قدَّتِ الأعداءُ من لَبَبِ وإنَّما أردنا صبرَ الخيل ومكافأتها على الإحسان إليها. أبو حيَّة النُّميريّ: إذا أنتَ رافقتَ الحُتاتَ بن جابر ... فقلْ في رفيقٍ غائبٍ وهْوَ شاهِدُ أصمّ إذا ناديتَ جَهلًا وإنْ تَسِرْ ... فأعمَى وإنْ تَفعلْ جميلًا فجاحِدُ أواني وإيَّاهُ الطَّريقُ عشيَّةً ... يهابُ سُراها الأحْمَسيُّ المُعاوِدُ فأُقسمُ بَرًّا أنَّ لولا خيالُهُ ... لما كنتُ إلاَّ مثل من هو واحدُ هذا مليح وهو أيضًا قليل للمتقدّمين وقد ذكره قومٌ من المحدثين، فمنهم الَّذي يقول: خرجنا جميعًا إلى نُزهة ... وفينا زيادٌ أبو صَعْصَعَهْ فسِتَّةُ رهطٍ به خمسةٌ ... وخمسةُ رهطٍ به أربَعَهْ مثله: عندي جُعلتُ لك الفِدَى ... سهلٌ وسهلٌ ليس عندِي إن لم يكنْ لي ثانيًا ... فكأنَّني في البيتِ وَحْدِي مثله لآخر: وصاحبٍ أصبحَ مِن بَرْدِهِ ... كالماءِ في كانونَ أو في شُباطْ نادَمتُهُ يومًا فألفَيْتُهُ ... متَّصل الصَّمت قليلَ النَّشاطْ حتَّى لقد أوهَمَني أنَّه ... بعضُ التَّماثيل الَّتي في البِساطْ وهذا المعنى قريب من قول الخليل بن أحمد: فهُمْ كثيرٌ بِي وأعْ ... لمْ أنَّني بِهِمُ قليل
قد اخترنا في هذا الكتاب من أشعار العرب وبديع معانيهم وطريف استعاراتهم وتشبيهاتهم ما وقع في جملة من الورق كثيرة، وضمَّته عدة أجزاء، ولو أردنا أضعاف ذلك لمَا تعذَّر علينا ولكُنَّا نقوم به إلاَّ أنَّا مِلنا إلى الاختصار وتجنَّبنا الإكثار، وفيما ذكرنا من ذلك مَقنع وبلاغ ودلالة على فضل المتقدمين. وجميع ما أثبتناه فاختيار من أشعارهم المشهورة والمجهولة وما لنا إلاَّ الجمع والتَّأليف، ولعلَّ غيرنا ممَّن يقرأ هذا الكتاب يُرذل شيئًا ممَّا اخترناه ويهجِّن شيئًا نقلناه، وهذا غير مزرٍ بنا ولا ناقصٍ لنا، لأنَّ لكلّ إنسان اختيارًا، ولعلَّ آخر ممَّن يتصفَّحه يعرف النَّظير لشيء ممَّا ذكرناه وهو لا يعرف غيره فيشنِّع علينا ويقول: تركوا نظائر، ولن نشرط أنَّا نأتي بجميع النظائر ولعلَّنا أعرفُ بما خرَّجه الرَّازي علينا منه إلاَّ أنَّا تركناه لمعنًى، ويجوز أن لا نعرفه لأنَّا لم نُحط بجميع العلم والشِّعر أكثر ممَّا يُحصى، والغرض الَّذي ذكرناه وأوردنا من التَّنبيه على محاسنهم فقد بلغناه والآن نبدأ بعون الله وحسن توفيقه في اختيار أشعار المحدثين وغريب معانيهم وحسن استعاراتهم بعد هذا الكتاب ليشتمل الكتابان على الفنَّين من الشِّعر القديم والمحدث، ونرجو أن يقع هذا الكتاب الآخر موقع الكتاب الأوَّل من قلب من صنَّفناه من أجله - أيَّده الله - إن شاء الله تعالى، والحمد لله وصلَّى الله على محمد نبيِّه الكريم وعلى آله وسلَّم تسليمًا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم الكتاب. كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله مَودود بن أبي الفضل الكرديّ، حامدًا لله على نعمه ومصلِّيًا على محمد نبيِّه الكريم وعلى آله، وافق الفراغ منه يوم الثلاثاء سابع ذي القعدة من سنة ثلاث وستمائة.
يا ليلةً يُنحَى الحَسودُ بها ... لا زِلتُ أشكُرُ بعدكِ الدَّهْرا خشور بن قبيصة العامليّ: نظرتُ حيالَ الشَّمس من مشرق الضُّحى ... وأوفيتُ من لبنانَ رُكنًا عَطَوَّدا إلى ظُعُنٍ للمالكيَّة غُدوةً ... فيا لك مِن مرأًى أشاقَ وأبْعَدا بعينَينِ لم يَستأنِسا فيضَ عَبرةٍ ... ولم تَرِدا جَوَّ العراق فترْمَدا إلى البيت الأخير نظر العبَّاس بن الأحنف في قوله: بكتْ غيرَ آنِسةٍ بالبُكاءِ ... ترَى الدَّمعَ في مُقلَتَيها غَريبا مثله قول ابن المعتز: وتُديرُ فاترَتَين من ألْحاظها ... لم تَعرِفا غيثَ الدُّموع فتَمْرَها قُحافة بن منظور العَمِّيّ: لعمرك إنِّي يوم سَلْعٍ للائمٌ ... لنفسِي ولكنْ ما يرُدُّ التَّلوّمُ أأمكنتُ من نفسي عدُوِّي ضَلَّةً ... ألهفي على ما فات لو كنتُ أعلمُ لعمري لقد كانت فِجاجٌ عريضةٌ ... وليلٌ سُخاميّ الجَناحَين أدهمُ ولو شئتُ إذ بالأمر يسرٌ لقلَّصتْ ... برَحْلي فَتلاءُ الذِّراعينِ عيهَمُ عليها دليلٌ بالفَلاة نهارَهُ ... وباللَّيل لا يُخطِي لها القصدَ مَنسِمُ مُزوِّد أخو الشَّمَّاخ: أعددتُ بيضاءَ للحروبِ ومَص ... قولَ الغِرارَين يفصِمُ الحَلَقا وفارجًا نبعةً وملءَ جَفِ ... يرٍ من نصالٍ تخالُها وَرَقا وأرْيَحِيًّا عضْبًا وذا خُصَلٍ ... مُخلولقَ المتْن سابحًا تَئِقا يَملأُ عينيك في الفِناء ويُرضي ... كَ وَقارًا إنْ شئتَ أو نَزَفا سنان بن بهدلة اللَّيثي: ومولَى خاشعٍ تحت العَوالي ... خَضِيبَ النَّحرِ أسلمَهُ القريبُ جعلتُ لِنحره نحرِي مجنًّا ... وقد بلغتْ حناجِرَها القلوبُ مثله لمزاحم العُكليّ: ومُستلحَمٍ بين الأسنَّة قد رأَى ... حِياضَ المنايا والرِّماحُ شوارعُ عَطفتُ عليه والسُّيوفُ كأنَّها ... خلالَ القَنا قرنٌ من الشَّمس طالعُ مسكين الدَّارميّ: ذَريني أُمَّ مسكين ذريني ... فإنَّ الحقَّ يُودِي بالبعيرِ وناجيةٍ نحرتُ لشَرْب صدقٍ ... ولم أعبَأ بتصريف الدُّهورِ
كأنَّ جبينَها كُركيُّ ماءٍ ... قليلُ الرِّيشِ مقتولٌ كَسيرُ ولا واللهِ رَبّكَ ما أُبالي ... لمن كانَ العشيرُ من الجزورِ وإذا كانَ القُتارُ أحبّ ريحًا ... إلى الفتَيات من ريحِ العَبيرِ ابن الدُّمَينة: أيا كبِدَينا أجْمِلا قد وَجدتُما ... بأهلِ الحِمَى ما لم تجدْ كبِدانِ إذا كبِدانا خافَتا صرفَ نيَّةٍ ... وعاجلَ بينٍ ظلَّتا تجِبانِ يخبِّرُ طَرفانا بما في قلوبنا ... إذا استَعجمتْ بالمنطقِ الشَّفتانِ أحسنُ ما قيل في الخِباء قولُ مُضرِّس الأسدي: وظلّ كظلّ المَضْرَحِيّ رفعتُهُ ... يطيرُ إذا هبَّتْ له الرِّيحُ طائرُهْ لبيضِ الوجوهِ أدلجوا كلَّ ليلهم ... ويومهمُ حتَّى استرقَّتْ ظهائرُهْ فأضحَوا نَشاوَى بالفَلا بينَ أرحُلٍ ... وأقواسُ نبعٍ من خِباءٍ شواجرُهْ أخَذنا قليلًا من كَرانا فوقعتْ ... على ظَهْر رشَّاشٍ غليظٍ حَزاورُهْ رُقادًا به العجلانُ ذو الهمّ قانعٌ ... ومَن كان لا يسرِي به الهمُّ حاقرُهْ مثله لأبي الهندي: وفِتيانِ صدقٍ من تميمٍ وجوهُهم ... وإنْ سفعتهنَّ الهواجرُ وضَّحُ رفعتُ لهم يومًا خباءً ممدَّدًا ... بستَّة أرماحٍ تسَفُّ وتطمحُ تخفِّضهُ أيديهمُ فكأنَّه ... ظَليمٌ على هاماتهم يترجَّحُ كأنَّا ربَطنا بالخباء مشهّرًا ... من الخيلِ مِلواحًا يسيرُ ويرمحُ مُهلهل بن ربيعة التَّغلبي: ليسَ مثلِي يخبِّر القومَ عنهم ... أنَّهم قُتِّلوا وينسَى القِتالا لم لأرِمْ حومةَ الكتيبة حتَّى ... حُذيَ المُهرُ من دماءٍ نِعالا ما نعرف في الاعتذار من الفرار أحسن من هذين البيتين لأنَّه قال: لم أبرح حتَّى قاتلتُ قتالًا شديدًا، وقد كنَّا قدَّمنا قبل هذا الموضع أشياء من اعتذارهم وحججهم في ذلك، ونذكر ههنا بعض ما أغفلناه هناك، فمن ذلك قول ابن عنقاء الهُجَيميّ: أجاعلةٌ أُمُّ الحُصَين خَزايةً ... عليَّ فِراري أنْ لقيتُ بني عبسِ فليسَ الفرارُ اليومَ على الفتَى ... إذا عُرفتْ منه الشَّجاعةُ بالأمسِ
ومثله زُفَر بن الحارث وقد فرَّ يوم مرج راهط في شعر له: فلم تُبلَ منِّي نبوةٌ قبل هذه ... فِراري وتركي صاحبيَّ ورائيا عشيَّة أجرِي بالقَرينِ فلا أرَى ... من النَّاسِ إلاَّ مَن عليَّ ولا لِيا أيذهبُ يومٌ واحدٌ إنْ أسأتُهُ ... بصالحِ أيَّامي وحُسنِ بلائيا فلا تحسَبوني إنْ تغيَّبتُ غافلًا ... ولا تفرَحوا إن جئتُكم بلقائيا فقد ينبتُ المرعَى على دِمَن الثَّرَى ... وتبقَى حَزازاتُ النُّفوس كما هِيا فهذان الشاعران ذكرا أنَّ فرارهما كان مرّةً واحدةً في الدَّهر، وقد اعتذر غيرهما بغير هذا فقال: قالت أُمامةُ لم تكنْ لك عادةٌ ... أن تتركَ الأصحابَ حتَّى تُعذرا لو كانَ قتلٌ يا أُمامَ فراحةٌ ... لكنْ فررتُ مخافةً أنْ أُوسَرا فهذا ذكر أنَّ فراره لم يكن خوفًا من القتل بل من الأسر، وقد أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال: أطال إساري في الصَّبابة هجرُهُ ... وعند الشّجاع الأسرُ شرٌّ من القتلِ وممَّن ذكر أنَّه يقاتل وهو يرى وجهًا للقتال ويفرُّ إذا لم يرَ لذلك وجهًا عمرو بن معدي كرب بقوله: ولقد أملأُ رحلَيَّ بها ... حذرَ الموت وإنِّي لفَرورُ ولقد أعطِفُها كارِهةً ... حين للنَّفسِ من الموتِ هَريرُ كلّ ما ذلك منِّي خُلُقٌ ... وبكلٍّ أنا في الحربِ جَديرُ وقريب من هذا قول أبي خراش: فإنْ تزعُمي أني جبُنتُ فإنَّني ... أفرُّ وأرمِي مرَّةً كلّ ذلكِ أُقاتلُ حتَّى لا أرَى لي مُقاتلًا ... وأنجُو إذا ما خفتُ بعضَ المهالكِ وقد ذكر بعضهم وقد عُبِّر بالفرار أنَّه لم يفرَّ حتَّى فرَّ أصحابه، وهو عبد الله بن الحميّر العقيليّ أخو توبة، وكان لقي حربًا ففرَّ فاعترضه بعض أصحابه فقال له: أردِفني، فلم يفعل وقال: غداةَ يقولُ القَينُ هل أنتَ مُردِفي ... وما بين ظهر القَين والرُّمح إصبعُ فقلتُ له يا بنَ المُريبة إنَّها ... بربٍّ خفيفً واحدٍ هي أسرعُ فإنْ يكُ عارًا يومَ وجٍّ أتيتُه ... فِراري فذاك الجيشُ قد فرَّ أجمعُ
وممَّن آثر القتل على الفرار بنو ماويَّة بنت الأحبّ وكانوا سبعة قتلوا بأجمعهم في بعض حروب خثعم، فقالت أُمُّهم ترثيهم: هوتْ أُمُّهم ماذا بهم يومَ صُرِّعوا ... بجَيْشان من أوتاد مُلكٍ تهدَّما أبَو أن يفرُّوا والقَنا في نُحورهم ... ولم يرتَقوا من خَشية الموت سُلَّما ولو أنَّهم فرُّوا لكانوا أعزَّةً ... ولكنْ رأوا صبرًا على الموتِ أكرَما وإلى هذه الأبيات نظر أبو تمَّام في قوله يرثي محمَّد بن حُميد: وقد كانَ فوتُ الموتِ سهلًا فردَّه ... إليه الحفاظُ المرُّ والخلقُ الوعرُ ونفسٌ تعافُ الفقرَ حتَّى كأنَّه ... هو الكفرُ يومَ الرَّوعِ أو دونه الكفرُ فأثبتَ في مستنقعِ الموت رجْلَه ... وقال لها من تحتِ أخمَصك الحشرُ ولمَّا وقعت الهزيمة على مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أميَّة، بموضع من أرض مصر يقال له أبو صير أهاب بالنَّاس ليرجعوا، فلم يلووا عليه، فنضا سيفه وقاتل قتال مستقتلٍ، فقال له المسوِّدة لما رأوا من وافر بأسه وشجاعته: يا هذا، لا تقتل نفسك ولك الأمان، فتمثَّل بأبيات تمثَّل بها الحسين صلوات الله عليه يوم قُتل وقد بُذل له الأمان، وهي: أذُلُّ الحياة وذُلُّ الممات ... وكلًاّ أراهُ طعامًا وَبيلا فإنْ كانَ لا بدَّ إحداهُما ... فسِيروا إلى المَوت سَيرًا جميلا ومثل هذا ما يُروى لأبي تمَّام - ما نظنُّه له -: رحِم اللهُ جعفرًا فلقد كانَ أبِ ... يًّا شَهمًا وعاش كريما مثَّل الموتَ بين عينيه والذُّ ... لَّ فكُلًاّ رآهُ حظًّا لَئيما ثمَّ سارتْ به الحميَّةُ قُدْما ... فأماتَ العِدى ومات كريما كعب بن الأشقريّ في المغيرة بن المهلَّب: كم حاسدٍ لك قد عَطلتَ همَّتَهُ ... مُغرًى بشتم صروف الدَّهر والقدرِ كأنَّما أنت سهمٌ في مَفاصله ... إذا رآكَ ثنَى طَرْفًا على عَوَرِ كم حسرةٍ منك تَرْدِي في جَوانحه ... لها على القلبِ مثلُ الوخْز بالإبرِ
أنتَ الكريمُ الَّذي لا شيءَ يُشبهُهُ ... لا عيبَ فيك سوَى أنْ قيلَ من بشَرِ البيت الأخير من هذه الأبيات مدحٌ مخرجه مخرج الذَّمّ وقد ذكره عبد الله بن المعتز في كتاب ألَّفه ولقَّبه بكتاب البديع، وهذا المعنى كثير في الشعر القديم والمحدث، فمن ذلك قول ابن المولى: ألا بأبينا جعفرٍ وبأُمِّنا ... إذا ما أُسودُ الحرب سارَ لواؤُها ولا عيبَ فيه غير ما خوفِ قومِه ... على نفسِهِ أن لا يطولَ بقاؤُها والأصل في هذا المعنى وهو النهاية في الجودة والصحة والإصابة قول النابغة الذبياني: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قِراع الكتائبِ وقد أخذ السَّموأل بن عاديا لفظ النابغة في هذا البيت ومعناه فقال: ولا عيبَ فينا غير أنَّ سيوفنا ... بها من قِراع الدَّارِعين فلولُ ومن هذا المعنى قول جُويَّة بن عطيَّة السَّعدي: ولا عيبَ فينا غير أنَّه فِصالَنا ... عِجافٌ فقلنا نحن بالبازل البزما وأنَّا نرَى أنَّ السُّيوفَ لئيمةٌ ... إذا لم نجدْ فيها من أعدائنا الدَّما هذا مثل بيت النابغة إلاَّ أنَّ بيت النابغة أجود، ومثله قول النابغة الجعديّ: فتًى تمَّ فيه ما يسرُّ صديقَهُ ... على أنَّ فيه ما يسوءُ الأعادِيا فتًى كمُلتْ أخلاقُه غيرَ أنَّه ... جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقيا ومثله قول أبي الأسود: يقولون نصرانيَّةٌ أُمُّ خالدٍ ... فقلتُ ذَروها كلُّ نفسٍ ودِينُها فإنْ تكُ نصرانيَّةٌ أُمُّ خالدٍ ... فإنَّ لها وجهًا جميلًا يَزينُها ولا عيبَ فيها غيرَ زُرقةِ عَينها ... كذاك عِتاقُ الطَّير زرقٌ عُيونها ومثله قول نُصيب أو غيره: سمعتُ بذكر النَّاس هندًا فلو أزلْ ... أخا دَنَفٍ حتَّى نظرتُ إلى هندِ فأبصرتُ هندًا حرَّةً غير أنَّها ... تصدَّى لِقتل المسلمين على عَمْدِ ومثله قول ابن الرّوميّ: ولا عيبَ فيها غيرَ أنَّ ضجيعَها ... وإن لم تُصبهُ السَّاهريَّةُ يسهرُ ومثله قول ابن رابعة اليربوعيّ:
ولا عيبَ فينا غير رَدّ نسائكم ... إليكم ولولا نحن عُدنَ حوامِلا وأنَّا كشَفْنا العارَ عنكم بوقعةٍ ... أذلَّتْ من الأعداءِ رأسًا وكاهِلا ومثله قول الفضل بن الرَّبيع: لا عيبَ فيَّ سوَى مُداعبتي ... عِينًا يَصِدنَ الأُسدَ بالمُقَلِ ما ضرَّني أن قال ذو حسدٍ ... أتلفتَ مالَ أبيك في الغزلِ ومثله للشنفرى يذكر فرسه: ولا عيبَ في اليَحموم غير هُزاله ... على أنَّه يوم الهِياج سَمينُ وكم مِن عظيم الخَلق عَبْلٍ موثَّقٍ ... حواهُ وفيه بعد ذاكَ جُنونُ ومثله قول أبي هِفَّان: عيبُ بني مَخْلَدٍ سَماحُهم ... وأنَّهم يُتلفونَ ما مَلَكوا وأن فيهم لِمن يلايِنُهم ... لِينٌ وفيهم لغيرهم حَسَكُ ومثله للقطاميّ: جزَى اللهُ خيرًا والجزاءُ بكفِّه ... بني دارمٍ عن كلِّ جانٍ وغارمِ همُ حَمَلوا رَحْلي وأدُّوا أمانتي ... إليَّ وردُّوا فيَّ ريشَ القوادمِ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ قُدورَهم ... على المالِ أمثالُ السِّنين الحَواطمِ وأنَّ مَواريثَ الأولَى يرِثونَهم ... كنوزُ المعالِي لا كنوزُ الدَّراهمِ وما ضرَّ منسوبًا أبوه وأُمُّه ... إلى دارمٍ ألاَّ يكونَ لهاشمِ ومثله قول ابن أبي أميَّة الكاتب: خلا من العيبِ غير أنْ فترتْ ... منهُ جفونٌ ومالَ كالغُصُنِ لا شيء فيه يقول عائبُهُ ... قد تمَّ لو أنَّ ذاك لم يكُنِ البيت الثاني من هذين البيتين هو من غير هذا المعنى الَّذي نحن فيه، ومثله قول الآخر: ليس فيها ما يقالُ لهُ ... كمَلَتْ لو أنَّ ذا كمَلا كلُّ جزءٍ من محاسنها ... قائمٌ في حُسنه مثَلا
قد أتينا من هذا المعنى بنظائر كثيرة، وهو يتَّسع لولا أن قد ذهبنا لاختصاره ههنا، ويقرب من هذا المعنى الَّذي ذكرناه ههنا معنًى آخر، وهو ضدُّه، وسبيله أن لا يثبت معه لا للتّقارب بل للتضادّ، وقد أكثرت الشعراء مثله في القديم والمحدث، ولم يذكره ابن المعتز في كتاب البديع على معرفته بالشعر وحُسن نقده، فلا ندري لأيّ حالٍ أغفله، وقد ذكر أنَّه استغرق في كتابه جميع معاني الشعر الَّذي يقال له البديع، وهذا المعنى ذمٌّ مخرجه مخرج المدح، فمن ذلك - وهو الأصل - قول طرفة بن العبد: ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ له غنًى ... وأنَّ له كشْحًا إذا قامَ أهْضَما وأنَّ جوارِي الحيِّ يعكُفْنَ حولَه ... عُكوفَ النَّصارَى حول عيسى بن مَريَما ومثله قول النّجاشيّ أو غيره: قُبيّلة لا يَغدِرون بذمَّةٍ ... ولا يظلِمون النَّاسَ حبَّةَ خردَلِ ولا يَرِدون الماءَ إلاَّ عشيَّةً ... إذا صدَرَ الورَّادُ عن كلِّ منهلِ وقد تكلَّمنا على هذين البيتين في موضعهما من الكتاب؛ ومن هذا المعنى قول جوَّاس بن القَعْطل: رأيتُ أبا القعقاع لا يكرهُ الخَنا ... ولكنَّه يسرِي إليه فيُسرعُ يُحسِّرُ رأسًا لا يقنَّعُ للخنا ... ولكنَّه للمكرُماتِ يُقنَّعُ ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ سَوامَه ... يُعنِّي الَّذي يرجو نَداه ويخدَعُ ومثله قول الكميت بن معروف: لا خيرَ في عمرو بن مُ ... رَّة غير ما خَلْقٍ ومنظَرْ ودراهمٍ كثُرتْ يُشَ ... دُّ على خواتمها وتُطمرْ وسَوارحٍ مثل الدَّبا ... وصوافِنٍ كالرِّيح ضُمَّرْ هي نُهْزةٌ للسَّائلي ... نَ وعن حقوق الحيِّ تُحظرْ والدَّهرُ يهدِمُ ما بنَى ... ويُذلُّ عزَّةَ مَن تجبَّرْ ومثله قول العُجير: رأيتكمُ لا تُنكرونَ دنيَّةً ... ولا تَدفعونَ الحقَّ والحقُّ مُقبلُ فإنْ نالَكم ذُلٌّ بَخَعتم بكلِّ ما ... يَرومُ العدوُّ منكمُ ويؤمِّلُ ولا خير في أقوالكم غير أنَّها ... تَروق العيونَ كثرةً حين تُنقلُ
ومثله قول دِعبل في مالك بن طوق إذ عُزل: لا خيرَ فيك سوَى كلامٍ طيّبٍ ... ومَواعدٍ تُدنِي وفِعلٍ يُبعِدُ وأُبوَّةٍ في تغلبٍ لو أنَّها ... للكلب كانَ الكلبُ فيها يزهدُ ومثله قول أبي تمَّام في مالك أيضًا ورهطه: كثرتْ فيهم المواشيُ إلاَّ ... أنَّها من مَناكحٍ ودِياتِ ومثله لابن الروميّ: كثرتْ دراهمُ خالدٍ ... لكنَّها من دَخلِ عِرسِهْ ما شئتَ من خيرٍ يخبِّ ... رُ زائرًا عن طِيب نفسِهْ ومثله لعمارة بن عقيل: ولا خيرَ فيه غيرَ أنَّ جيادَهُ ... مسوَّمةٌ ليستْ بهنَّ كُلومُ وأسيافُهُ لم تدرِ ما طعمُ ضربةٍ ... فهنَّ صِحاحٌ ما بهنَّ ثُلومُ مثله: أغرَّك أنْ كانت لبطنك عُكنةٌ ... وأنَّك مَكفيٌّ بمكَّةَ طاعمُ ومثله لأحمد بن يوسف الكاتب: كنيفُ ديوانك مختومُ ... وأنتَ في دَينك مرْكومُ أحسنُ ما فيك على أنَّه ... أقبحُ ما في الأُمَّةِ اللُّومُ ومثله قول دِعبل في أبي تمَّام: تشبَّهتَ بالأعراب أهل التَّعجرُفِ ... فدلَّ على فَحواكَ قبحُ التَّكلُّفِ لسانٌ نُباطيٌّ إذا ما صرفتهُ ... إلى جهة الأعرابِ لم يتصرَّفِ وشيخُك شيخٌ صالحٌ غيرَ أنَّه ... مليءٌ بتحبيرِ الرِّداءِ المفوَّفِ لئن كانَ للأشعار والنَّحو حافظًا ... لقد كانَ من حفَّاظ سُورة يوسفِ نسب أباه في هذا البيت إلى الحياكة لأنَّ أكثر الحاكة يحفظون سورة يوسف. ومن المعنى الَّذي نحن فيه قول الأسلميّ في قومٍ كانوا يقولون أنَّهم من ولد عقيل بن أبي طالب، وكان شكَّ في نسبهم: يقولونَ طبعُ الطَّالبيِّين مرَّةٌ ... وطبعُكم فيما يقولون بلغمُ فإنَّهم أومَوا إلى دَفع حقِّكم ... ولا ذنبَ لِي إنَّ الأطبَّاء أعلمُ وقد أكثر مَخلد بن بكَّار الموصليّ في هذا المعنى، ونحن نذكر بعض ذلك، فمنه قوله: أنتُ عندِي جَدَلِيٌّ ... ليس في ذاكَ كلامُ عربيٌّ عربيٌّ ... عربيٌّ والسَّلامُ لك من ميراثِ آبا ... ئك قِسِيٌّ وسِهامُ وضِبابٌ مُخضَباتٌ ... ويَرابيعٌ وهامُ
وقذَى عينيك صَمغٌ ... ونواصيك ثَغامُ شَعرُ ساقَيك وفَخْذيْ ... كَ خُزامَى وثُمامُ قاعدٌ في وسْط سلمَى ... وحَواليك سِلامُ أنتَ لو جُلتَ كذى لانْ ... جَفَلتْ منك نَعامُ أنا ما ذَنبي إذا كذَّ ... بَني فيك الأنامُ وبدتْ منك سَجايا ... نَبَطِيَّاتٌ لئامُ وقَفًا يَحلف ما إنْ ... أعرَقَتْ فيك الكرامُ وله أيضًا مثله من قصيدة: أُريِّثُ عن عِرضه العالَمين ... وأرفعُ من ذِكره الخامِلا ولو أنَّ في الصَّبرِ لِي مُبغِضًا ... لأمَّمه حافيًا راجِلا فما لي أُقاتلُ فيه الأنامَ ... فأقطَع في حبِّه الواصِلا أنا قلتُ شهوتُهُ خارِج ... وقد زَعموا يشتهي داخِلا وقد زعموا أنَّه حامِلٌ ... ومَن رأى ذكَرًا حامِلا وقد قَرَفوا أُمّه بالبَلاء ... فقلتُ اخْسَئوا قتمُ باطِلا فقالوا كيف يكون الصَّمي ... مُ ينكِحُ ذا عدَمٍ وائِلا ولو لم يكنْ ههنا ريبةٌ ... لمَا نكحَ النَّاهقُ الصَّاهِلا وقد قيل في أُخته ما سمعتَ ... وقد صدَّق الفاعلُ القائِلا أرادتْ وتِربٌ لها نُزهةً ... فصادفَتا ثمِلًا جاهِلا فكان من الأمرِ ما قد علمتَ ... فآبتْ إلى أهلها حامِلا وله أيضًا في هذا المعنى: أنت عندي صَليبةٌ كم تصيحُ ... شَعرُ فخذَيك والمفارِقِ شِيحُ عينُك القاصِعاءُ أنفك دَأما ... ءُ وأُذناك نافِقاءُ فسيحُ شَعرُ إبْطَيك أبْهُقانٌ وصُدغا ... كَ شُكاعَى خلاله..... قد عَدَدْناك في الذُّرى بعدَ وهمٍ ... فاعْف واصفحْ إنَّ الكريمَ صَفوحُ قد أتينا من هذين المعنيين بما فيه مقنعٌ وتركنا منهما أضعاف ما ذكرنا. أنشدنا أبو بكر بن دريد، ﵀، لجَهم بن خلف المازنيّ وزعم أنَّه أجود ما قيل في ذِكر الحمَام: أبكيتَ أنْ صدحتْ حمامةُ أيكةٍ ... ورقاءُ تهتفُ في الأراكِ وتسجَعُ عجبًا لمبكَى عينها وجُمودِها ... وللوعةٍ في صدرها ما تقلِعُ هيَّاجة الأحزان مِطراب الضُّحى ... تَبكي بشجوٍ دائمٍ وتفجَّعُ
غَرَدتْ بلحنٍ فاستجابَ لصَوتها ... وُرقٌ على فَنَن الغُصونِ تفجَّعُ يُسعدنَ فاقدةً أُنيحَ لفَرخها ... سَوذانِقٌ شاكِي المَخالب أسفَعُ فانقضَّ من جوِّ السَّماء كأنَّه ... برقٌ تلألأَ من سحابٍ يلمَعُ فحَواه بين مخالبٍ مَذْرُوبةٍ ... ومضَى كلمحِ البرقِ أو هوَ أسرَعُ من بعدِ ما طارتْ به من عُشّها ... واخْضرَّ منه الطَّوقُ فهْوَ ملمَّعُ أودَى بواحدها الزَّمانُ وريبُهُ ... إنَّ المنايا بالأحبَّةِ تفجَعُ أفتِلك أم كُدريَّةٌ بتَنوفةٍ ... غَبراءَ يُصبحُ آلُها يترفَّعُ باتتْ تلظَّى للورود ودُونها ... يَهْماءُ طامسةُ المعالم بلقَعُ فغدتْ لوِرْدٍ قبلَ فُرَّاط القطا ... تنجُو نجاءً في الرِّياحِ وتمزَعُ عُلويّةٌ تطوِي الفِجاجَ وتنتَحي ... بلَبانها في الرِّيحِ حين ترفَّعُ فبدَا لها حَوْمٌ وقد متَعَ الضُّحى ... مُتحيِّرٌ يستنُّ فيه الضّفدَعُ فدنتْ ونادتْ باسمِها ثمَّ ارتوتْ ... من باردٍ للكُدرِ فيه مشرَعُ حتَّى إذا نهِلتْ وبلَّتْ نحرَها ... وتحاملَتْ عادتْ إليه تكرَعُ فبدتْ لها من حَمأةٍ مَسنونةٍ ... حَدَمٌ ومن طِين الشَّرائع ترفَعُ ناطتْ إداوتَها إلى حَيزومها ... وتروَّحتْ عجلَى النّجاء تسرَّعُ لمُزَغَّبٍ ألِفَتهُ بين تنائف ... فيها لكُدْريّ القطا مستودَعُ فتناوبتْهُ على المساءِ فصوَّبتْ ... ما أُرْبِغَتْ طورًا تفوق وترقَعُ فسقتْهُ أنفاسًا فأدنَى جِيدَهُ ... من جِيدها وفؤادُهُ لا ينقَعُ أما وصف الحمام من الشعراء المتقدمين والمحدثين فكثيرٌ جدًا إلاَّ أنَّ هذا المعنى الَّذي ذكرناه قليلٌ فيه، ونحن نختار منه شيئًا، فمن ذلك قول ابن الطَّثْريَّة: تذكَّرتُ ليلَى أنْ تغنَّتْ حَمامةٌ ... وأنَّى بليلَى والفؤادُ قريحُ يمانيَّةٌ أمستْ بنجرانَ دارُها ... وأنتَ عراقيٌّ هواكَ نَزوحُ ومن دون ليلَى سبسبٌ مُتماحلٌ ... يُجيبُ صداهُ البومَ حين يَصيحُ
يظلُّ به سربُ القطا متحيِّرًا ... إذا ماجَ بحرُ الآلِ وهْوَ يلوحُ تَجوب من البيداءِ كَدراءُ جَونةٌ ... سماويَّةٌ عجلَى النّجاء طَموحُ تُبادرُ جَونًا تَنسج الرِّيحُ مَتنهُ ... له حَبَبٌ في جانبَيه يَسيحُ عليه دِفاقٌ في الغُدَيَّات واردٌ ... ولآخرَ في بَرد العشِيِّ يروحُ فعبَّتْ وعبَّ السِّربُ حتَّى إذا ارتوتْ ... ذكرنَ فِراخًا دونهنَّ طَروحُ ملأنَ أداوَى لم يشِنْهنَّ خارِزٌ ... بسَيْرٍ ولا يُلفَى بهنَّ جروحُ فطِرن يُبادرنَ الضِّياءَ تقدَّمتْ ... عليهنَّ مِغلاةُ النّجاء طَموحُ إلى ابنٌ ثلاثٍ بالفلاة كأنَّما ... بجَنْبَيه من لَفْح السّموم جُروحُ فظلَّتْ تُسقِّيه نِطافَ إداوَةٍ ... له غَبْقةٌ من فضلها وصَبوحُ ومن هذا المعنى قول أبي صفوان الأسديّ: وقد شاقَني نوحُ قُمريَّةٍ ... هتوفِ الغَداةِ طَروب العِشا من الوُرق نوَّاحةٍ باكرتْ ... عَسيبَ أشاءٍ بذات الغضَى فغنَّتْ عليه بلحنٍ لها ... يَهيجُ على الصِّبّ ما قد مضَى فلم أرَ باكيةً مثلَها ... تبكِّي ودَمعتُها لا تُرَى أضلَّتْ فُرَيخًا فطافتْ به ... وقد عَلِقتهُ حبالُ الرَّدَى فلمَّا بدَا اليأسُ منها بكتْ ... عليه وماذا يرُدُّ البُكا وقد صادَهُ ضَرِمٌ مُلحَمٌ ... خفوقُ الجَناح حثيثُ النَّجا حديدُ المخالبِ عارِي الوظي ... فِ ضارٍ من الزُّرقِ فيه قَنا فباتَ عَذوبًا على مَرقَب ... بشاهقةٍ صَعبةِ المُرتقَى فلمَّا أضاءَ له صُبحُهُ ... ونكَّبَ عن منكبيهِ النَّدَى وحتَّ بمَخطمه جامدًا ... على خَطْمِه من دماءِ القَطا تصعَّدَ في الجوِّ ثمَّ اسْتَدا ... رَ طار حَثيثًا إذا ما انْصَمَى فآنسَ سربَ قَطا قاربٍ ... جبَى منهلٍ لم تَمِحْهُ الدَّلا غدونَ بأسقيَةٍ يَرتوينَ ... لزُغبٍ مُطرَّحةٍ بالفَلا يُبادرنَ وِردًا فما يَرعوين ... على ما تخلَّفَ أو ما وَنَى تذكَّرنَ ذا عَرْمَضٍ طاميًا ... يجولُ على حافتَيه الغُثا
به رفقةٌ من قطًا واردٍ ... وأُخرى صوادرُ عنه رِوَا فملأنَ أسقيةً لم تُشدّ ... بخرزٍ وقد شُدَّ منها العُرا فأقعصَ منهنَّ كُدريَّةً ... ومزَّقَ حَيزومها والحشَى فطارَ وغادرَ أشلاءها ... تطيرُ الجنوبُ بها والصَّبا يَخَلْن حفيفَ جَناحيه إذ ... تدلَّى من الجوِّ برقًا بدَا فولَّين مجتهداتِ النَّجا ... جَوافِل في طامسات الصُّوَى ومن جيّد ما ذُكر به الحَمام، وإن لم يكن فيه ذكر القطا، قول حميد ابن ثور: وما هاجَ هذا الشَّوقَ إلاَّ حمامةٌ ... دعتْ بقلوبٍ في حمَامٍ ترنُّما من الوُرق حمَّاءُ العِلاطَين باكرتْ ... عَسيبَ أشاءٍ مطلعَ الشَّمس أسحَمَا إذا زعْزعتْهُ الرِّيح أو لعبتْ به ... أرنَّت عليه مائلًا أو مُقوَّما تُنادي حمامَ الجَلْهَتَيْنِ وترعَوِي ... إلى ابنِ ثلاثٍ بين عُودين أقْتَما مُطوَّق طوقٍ لم يكنْ عن جَعِيلةٍ ... ولا ضربِ صَوَّاغ بكفَّيه دِرهما بنَتْ بيتَهُ الخرقاءُ وهْيَ رفيقةٌ ... له بين أعوادٍ بعَلياءَ سُلَّما كأنَّ على أشداقهِ نَوْرَ حنوةٍ ... إذا هو مدَّ الجِيدَ منهُ ليطْعَما فلمَّا اكْتَسَى الرِّيشَ السُّخامَ ولم تجدْ ... لها معه في ساحةِ العُشِّ مجثمَا أُتيحَ لها صقرٌ مُنيفٌ فلم يدعْ ... لها ولدًا إلاَّ رِمامًا وأعظُما فأوْفتْ على غصنٍ ضُحَيًّا فلم تدعْ ... لباكيةٍ في شجوِها مُتلوَّما عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤها ... فصيحًا ولم تفتحْ بمنطقِها فَما ولمْ أرَ محزونًا له مثلُ شجوِها ... ولا عَرَبيًّا شاقهُ صوتُ أعجَمَا أما قوله: " مطوّق طوق " البيت، فمثل قول مجاشع الجرميّ: صدوحُ الضُّحَى معروفةُ اللَّحن لم تزلْ ... تقودُ الهوَى من شَجوها ويقودُها جزوعٌ جمودُ العَين دائمة البُكا ... وكيف بُكا ذي عبرةٍ وجمودُها مطوَّقةٌ لم يضربِ القَينُ فِضَّةً ... عليها ولم يعطلْ من الطَّوق جِيدُها
وأما قوله: " كأنَّ على أشداقه " البيت فقد تقدَّمت نظائره، ومن هذا المعنى في ذكر الحمام وليس فيه ذكر الصَّقر بل ذِكر رامٍ رمَى فأصاب، قول محمد بن يزيد الحِصنيّ: أشاقكَ برقٌ أم شجَتْك حمامةٌ ... لها فوقَ أغصان الأراكِ نَئيمُ أضافَ إليها الهمّ فقدانُ آلفٍ ... وليلٌ يسدُّ الخافقَين بَهيمُ أنافتْ على ساقٍ بليلٍ فرجَّعتْ ... وللوجدِ منها مُقعدٌ ومُقيمُ تَميدُ إذا ما الغصنُ مادتْ مُتونهُ ... كما مادَ من ريِّ المُدام نديمُ فباتتْ تُناديه وأنَّى يُجيبُها ... مَنوطٌ بأطراف الجناحِ سَهيمُ رَماه فأصْماهُ فطارتْ ولم يطرْ ... فظلَّ لها ظلٌّ عليه يحومُ قرينةُ إلفٍ لم تفارقهُ عن قلًى ... غداةَ غدَا يومٌ عليه مشومُ وراحتْ بهمٍّ لو تضمَّنَ مثلهُ ... حشَى آدميٍّ راحَ وهْوَ رميمُ فللبرقِ إيماضٌ وللدَّمعِ واكفٌ ... وللرِّيحِ من نحو العراقِ نسيمُ وللطَّائرِ المحزون نغمٌ كأنَّها ... على كبدِ الصِّبّ المُحبِّ كلومُ غناءٌ يروعُ المُنصتينَ وتارةً ... بكاءٌ كما يبكِي الحميمَ حميمُ فطورًا أشيمُ البرقَ أين مصابُه ... وطورًا إلى إعوالِ تلك أهيمُ ومن دونِ ذا يشتاقُ من كانَ ذا هَوى ... ويعزُبُ عنه الحلمُ وهْوَ حليمُ عِكرمة بن مُخاشن البلويّ: دعتْ فوقَ ساقٍ دعوةً لو تناولتْ ... بها الصّمَّ من أعلى أبانٍ تحدَّرا تُبكِّي بعينٍ تجري دموعُها ... ولكنَّها تُجري الدُّموع تذكُّرا مُحلاّةُ طوقٍ ليس يُخشَى انْفِصامهُ ... وصدرٌ كمقطوفِ البنفسج أخْضَرا تنازعُها ألوانُ شقرٍ صقالُها ... ترَى لتَلالي الشَّمس فيها تحيُّرا فما نعرف في هذا المعنى أحسن منه ولا أصحّ تشبيهًا لمن تأمَّله ووقف عليه، وما نعرف له نظيرًا فنورده، لقد تأتَّى لهذا الأعرابيّ تشبيهٌ حسنٌ صحيحٌ. وأمَّا قوله: " تنازعها ألوان شُقر " البيت، فإليه نظر البحتري بقوله: إذا قابلَتْه الشَّمسُ ردَّ ضياءهَا ... عليها صقالُ الأقحُوان المنوِّرِ
وأمَّا قوله: " تبكِّي بعين " البيت، فقد أخذه ديك الجنّ فقال: حمائمُ وُرقٌ في حمَى وَرَقٍ خُضر ... لها مقلٌ تُجري الدُّموعَ ولا تجرِي تكلَّفنَ إسعادَ الغريبة إذ بكتْ ... وإنْ كنَّ لا يدرينَ كيف جوَى الصَّدرِ لها حُرَقٌ لو أنَّ خنساءَ أعولَتْ ... بهنَّ لأدَّتْ حقَّ صخرٍ إلى صخرِ فقلتُ لنفسي ههنا طلبُ الأسَى ... ومَعدنُه إذ فاتني طلبُ الصِّبرِ طلَبنا ولو أُعطَى المنَى لصحبتُها ... حَمامًا ولو تُعطَى المُنَى لروتْ شِعري ومن مليح ما قيل في هذا المعنى قول ابن المعتز: وبكيتُ من حُزنٍ لنوحِ حمامةٍ ... دعتِ الهديلَ فظلَّ غيرَ مُجيبها ناحتْ ونُحنا غير أنَّ بكاءَنا ... بعيوننا وبكاؤها بقلوبِها نذكر ههنا قطعةً نختارها من مراثي العرب إذ كانت مراثيهم تصدر عن قلوبٍ قرحةٍ فتجود لذلك ألفاظها وتحسن معانيها، فمن ذلك قول الشَّمردل يرثي أخاه: أَلوف لأضياف الشِّتاء كأنَّما ... يراهُ الحَيا أيتامُهُ وأراملُهْ رخيصُ نضيجِ اللَّحمِ مُغْلٍ بِنيِّهِ ... إذا بردتْ عند الشِّتاءِ أناملُهْ إذا ما أتَى يومٌ من الدَّهر بيننا ... فحيَّاك عنِّي شرقُهُ وأصائلُهْ وكلُّ سَنا صبحٍ أضاءَ ومغربٍ ... من الشَّمس وافَى جُنحَ ليلٍ أوائلُهْ أبَى الصَّبرَ أنَّ العينَ بعدك لم تزلْ ... يخالطُ جفنَيها قذًى لا يزايلُهْ وكنتُ أُعيرُ الدَّمعَ قبلك من بكَى ... فأنتَ على مَن ماتَ بعدك شاغلُهْ يذكِّرني هيفُ الجنوبِ ومُنتهَى ... نسيم الصَّبا رمْسًا عليه جنادلُهْ وهاتفةٌ فوقَ الغصونِ تفجَّعتْ ... لِفقدِ حمامٍ أفردتهُ حبائلُهْ وسَورةُ أيدي القوم إذ حُلَّتِ الحُبَى ... حُبَى الشِّيب واستَغْوَى أخا الحِلم جاهلُهْ فعينيَّ إذ أبْكاكما الدَّهرُ فابْكِيا ... لمنْ نصرُهُ قد بانَ منَّا ونائلُهْ إذا استعبرتْ عُوذُ النِّساء وشمَّرتْ ... مآزرَ يومٍ لا تُوارَى خلاخلُهْ وثِقْنَ به عند الحفيظة فارْعَوَى ... إلى صوتهِ جاراتهُ وحلائلُهْ
وكنتُ به أغشَى القتالَ فعزَّني ... عليه من المقدارِ ما لا أُقاتلُهْ الأبَيرد اليربوعيّ يرثي أخاه: فإنْ تكنِ الأيَّامُ فرَّقنَ بيننا ... فقد عذرتْنا في صَحابتنا العذرُ وكنتُ أرَى هجرًا فراقك ساعةً ... ألا لا بلِ الموتُ التَّفرُّقُ والهجرُ فتًى إنْ هو استغنَى تخرَّقَ في النَّدَى ... وإنْ فاتَ مالٌ لم يضعْ متنهُ الفقرُ فتًى يشتَري حسنَ الثَّناء بماله ... إذا السَّنةُ الشَّهباء قلَّ بها القطرُ ويعلمُ أنَّ الدَّائراتِ دوائرٌ ... على المرءِ حتَّى يدركَ العسرةَ اليسرُ إلى الله أشكُو في بُرَيدٍ مُصيبتي ... وبثِّي وأحزاني يضيقُ بها الصَّدرُ وقد كنتُ أستعفِي الإلهَ إذا اشتكَى ... من الأجْرِ لي فيهِ وإنْ سرَّني الأجرُ فتَى الحيِّ والأضيافِ إن روَّحَتهمُ ... بَلِيلٌ وزادُ السَّفْرِ إنْ أرملَ السَّفْرُ سلكتْ سبيلَ العالمين فما لهُم ... وراءَ الَّذي لاقيتَ مَعدًى ولا قصرُ وأبليتَ خيرًا في الحياةِ وإنَّما ... ثوابكَ عندي اليومَ أن ينطقَ الشَّعرُ أمَّا قوله: " فتى يشتري حسن الثَّناء " والبيت بعده فقد أخذ صدرَيهما لفظًا أبو نواس فجعلهما بيتًا واحدًا وهو قوله: فتًى يشتري حسنَ الثَّناء بماله ... ويعلمُ أنَّ الدَّئراتِ تدورُ لبيد بن ربيعة العامريّ يرثي أخاه أرْبَد: ما إنْ تُعرِّى المنونُ من أحدٍ ... من والدٍ مُشفقٍ ومن ولدِ أخشَى على أربدَ الحتوفَ ولا ... أفرَقُ نَوءَ السِّماك والأسَدِ فجَّعَني الرَّعدُ والصَّواعق بال ... فارسِ يومَ الكريهةِ النَّجُدِ الحاربِ الجابرِ الحريبِ إذا ... جاءَ نكيبًا وإنْ تعُدْ يعُدِ لا تبلغُ العينُ كلَّ نهمتها ... ليلةَ تُمسي الجيادُ كالقِدَدِ كلُّ بني حرَّةٍ مصيرهمُ ... قُلٌّ وإنْ أكثرتْ من العددِ يا عينُ هلاَّ بكيتِ أربدَ إذ ... قُمنا وقامَ الخصومُ في كبَدِ إنْ يشغَبوا لا يبالِ شغبهمُ ... أو يقصدوا في الخِصام يقتصِدِ النمِر بن تولب يرثي إخوته:
بينَ البَديّ وبين برقة ضاحكٍ ... غوثُ اللهيف وفارسٌ مقدامُ ومقابرٌ بين الرُّسيس وعاقلٍ ... درستْ وفيها مُنجبونَ كرامُ جزعًا جزِعتُ عليهمُ فدعوتُهم ... لو يسمعونَ وكيف يُدعَى الهامُ لا تبعدُوا وغدَا السَّلامُ عليكمُ ... وسرَى فقد يتفرَّقُ الأقوامُ فأبِيت مسرورًا برؤيةِ من أرَى ... فإذا انتبهتُ إذا هيَ الأحلامُ الفرزدق في ابنَين له ماتا: وكم متمنٍّ أنْ أموتَ وقد بَنَتْ ... حَياتي له شمًّا عظامًا قبابُها فلا تحسَبا أني تضعضعَ جانِبي ... ولا أنَّ نارَ الحربِ يخبُو شهابُها بقِيتُ وأبقتْ من قَناتي مَصابَتي ... عَشَوزَنةً زَوراءَ صمًّا كعابُها على حدثٍ لو أنَّ سلمَى أصابَها ... بمثل بَنِيِّ ارْفضَّ منها هضابُها فما زلتُ أرمِي الحربَ حتَّى تركتُها ... كسيرَ الجناحِ ما يَدِفُّ عُقابُها إذا ما امْتراها الحالبونَ عصبتُها ... على القسرِ حتَّى ما يدِرُّ عِصابُها وأقْعتْ على الأذنابِ كلُّ قبيلةٍ ... على مضضٍ منِّي وذلَّتْ رقابُها أخٌ لكما إنْ عضَّ بالحربِ أصبحتْ ... ذَلولًا وإنْ عضَّتْ به فُلَّ نابُها كثيِّر يرثي عبد العزيز بن مروان: تقولُ ابنة البكريّ يوم لقيتُها ... لعمرك والدُّنيا متينٌ غرورُها لأصبحتَ هدَّتك الحوادثُ هَدَّةً ... نعمْ فشَواهُ الرَّأس بادٍ قتيرُها فأنساكَ سلمَى والشَّبابَ الَّذي مضَى ... وفاةُ ابنِ ليلَى إذ أتاكَ خبيرُها فإنْ تكُ أيَّام ابنِ ليلَى سبقْنَني ... وطالتْ سِنِيَّ بعدهُ وشهورُها فإنِّي لآتٍ قبرهُ فمسلِّمٌ ... وإنْ لم تكلّمْ حفرةٌ مَن يزورُها ترَى القومَ يُخفون التَّبسُّمَ عندهُ ... ويُنْذرهم عُورَ الكلام نَذورُها ليلَى الأخيليَّة في تَوبة: أعَيني ألا أبكِي توبةَ بن الحُمَيِّر ... بدمعٍ كسَحِّ الجدولِ المتفجِّرِ لتبكِ عليه من خَفاجةَ نسوةٌ ... بماءِ شؤون العَبرة المتحدِّرِ سمعنَ بِهَيْجا أرهقتْ فذكرنَه ... ولا يبعثُ الأحزانَ مثلُ التّذكُّرِ
كأنَّ فتَى الفِتيان توبةَ لم يُنخْ ... بنجدٍ ولم يهبطْ مع المتغوِّرِ ولم يردِ الماءَ السِّدامَ إذا بدَا ... سَنا الصُّبح في بادِي الحواشي المنوِّرِ قتلتمْ فتًى لم يُسقطِ الرُّعبُ رمحهُ ... إذا الخيلُ جالتْ في قنًا متكسِّرِ وبيداءَ مِمْحال يحارُ بها القطا ... قطعتَ على هَول الجَنان بمنسِرِ فلمَّا بدتْ أرض العدوِّ سقيتَها ... مُجاجَ بَقيّات المَزاد الموفَّرِ ولمَّا أهابوا للنِّهاب حويتَهُ ... بِخاظي البضيع مُلهب الشَّدِّ مِحضَرِ فأحرزتَ منهُ ما أردتَ بقدرةٍ ... وسطوةِ جبَّارٍ وإقدامِ قَسوَرِ ألا رُبَّ مكروبٍ أجبتَ ونائلٍ ... فعلتَ ومعروفٍ لديكَ ومُنكرِ فيا توبَ للمولَى ويا توبَ للنَّدَى ... ويا توبَ للمستنبحِ المتنوِّرِ أمَّا قولها: " ولمَّا أهابوا " البيتين، فما نعلم أنَّ أحدًا من الشعراء مدح إنسانًا بأنه يحوي السَّلَب ويُقدم عليه هذا الإقدام، الَّذي ذكرت ليلَى، غير هائلٍ، بل رأيناهم يمدحون الفارس بأنه يشهد الحرب ويُجيد القتال، فإذا بلغ حاجته من قهر عدوّه ترك السَّلب تنزُّهًا عن ذلك وظلف نفسٍ أن يأخذ شيئًا من أسلاب أعدائه بعد قتلهم وهزيمتهم إذ كان غرضه ذلك لا غيره، وقد ذكرنا قطعةً من أشعارهم في ذلك قبل هذا الموضع. وقالت ليلَى ترثي توبة أيضًا: أقسمتُ أبكي بعد توبةَ هالكًا ... وأحفِلُ مَن دارتْ عليه الدَّوائِرُ لعمرُك ما بالموتِ عارٌ على الفتَى ... إذا لم تصبهُ في الحياةِ المعايِرُ وما أحدٌ حيٌّ وإنْ كانَ سالمًا ... بأخلدَ ممَّن غيَّبتهُ المقابِرُ ومَن كانَ ممَّا يُحدثُ الدَّهرُ جازعًا ... فلا بدَّ يومًا أنْ يُرَى وهوَ صابِرُ وليسَ لذِي عيشٍ من الموتِ مذهبٌ ... وليس على الأيَّامِ والدَّهرِ غابِرُ وكلُّ جديدٍ أو سبابٍ إلى بلًى ... وكلُّ امرئٍ يومًا إلى اللهِ صائِرُ وكلُّ قَرينَي أُلفةٍ لتفرُّقٍ ... شَتاتًا وإنْ عاشا وطالَ التَّعاشُرُ
فأُقسمُ لا أنفكُّ أبكيكَ ما دعتْ ... على فنَنٍ وَرقاءُ أو طارَ طائِرُ قتيلَ بني عوفٍ فيا لَهْفَتا له ... وما كنتُ إيَّاهم عليه أُحاذِرُ ولكنَّما أخشَى عليه قبيلةً ... لها بدُروب الرُّوم بادٍ وحاضِرُ أمَّا قولها: " قتيل بني عوف " البيتين، فإنَّا عنتْ بهذه القبيلة غسَّان لأنَّهم ملوك يجوز أمرُهم، فقالت: إنَّما كنت أخشى أن يقتله بعض الملوك لا بني عوف وهذا هجاءٌ لهم وغضٌّ منهم، ومثله قول أبي خراش: لعمرُك ما خشِيتُ على أُبَيٍّ ... مَصارعَ بين قَوٍّ والسُّلَيِّ ولكنِّي خشيتُ على أُبَيٍّ ... جريرةَ سيفهِ في كلِّ حيِّ فتَى الفِتيان مُحْلَوْلٍ مُمِرٍّ ... وأمَّارٍ بإرشادٍ وغيِّ ومثله قول الآخر: لعمرُك ما خشيتُ على يزيدٍ ... رماحَ الجنِّ أو إيَّاكَ حارِ بَيْهس بن نُمير: إذا ما دعَا الدَّاعي حُصينًا رأيتَني ... أُراعُ كما راعَ العجولَ مُهيبُ وكم من سَمِيٍّ ليس مثلَ سَميِّه ... وإنْ كانَ يُدعَى باسمِهِ فيُجيبُ منقذ بن عبد الرحمن يرثي امرأته: وكذاكَ يفعلُ في تصرُّفِهِ ... والدَّهرُ ليس ينالُهُ وِتْرُ كنتُ الضَّنينُ بمنْ أُصبتُ بهِ ... فسلوتُ حين تقادمَ الدَّهرُ ولخيرُ حَظّك في المصيبةِ أنْ ... يلقاكَ عند نُزولها الصَّبرُ أمَّا قوله: " كنت الضَّنين " البيت، فمثل قول الآخر: وكما تبلَى وجوهٌ في الثَّرَى ... فكذا يبلَى عليهنَّ الحزنْ ومثله قول الآخر: يبرُدُ الحزنُ كلَّ يومٍ ويبلَى ... مثل ما يبرُدُ الحديثُ المُعادُ مثله قول أحمد بن أبي فنن في محمد بن عبد الملك الزّيّات وقد أُصيب بولدٍ له: أبا جعفرٍ والدَّهرُ فيه فجائعٌ ... تَروضكَ حتَّى لا تفيضَ المدامعُ ستَسلو إذا ما الدَّهرُ مرَّتْ صروفُهُ ... عليكَ ولو أقسمتَ أنَّك جازعُ مثله لأبي تمَّام: عجائبَ حتَّى فيها عجائبُ ابن المعذّل: ليس بمسخوطٍ فِعالُ امرئٍ ... كلُّ الَّذي يفعلُ مسخوطَ آخر:
أهَجرٌ بعدَ هجرٍ بعد هجرٍ ... لقد أنَست بالهِجرانِ صدرِي مثله لآخر: سيُسليك مرُّ الدَّهر عمَّن رُزِيتَهُ ... وإنْ ذرفتْ عيناك من بعدِهِ دَما وما أحدٌ في النَّاس يُسلبُ صبرهُ ... على أحدٍ إلاَّ أنابَ وسلَّما آخر: رُوّعتُ بالبينِ حتَّى ما أُراعُ له آخر: ورُوّعتُ حتَّى ما أُراعُ من النَّوَى ومن جيد المراثي ونادرها لفظًا ومعنًى قول ثابت بن جابر بن سفيان الفهميّ يرثي الشَّنفرَى: فإنْ تكُ نفسُ الشَّنفرَى حُمَّ يومُها ... وراحَ له ما كانَ منهُ يُحاذرُ فما كانَ بِدعًا أن يصابَ فمثلُه ... أُصيبَ وحُمَّ الملتَجُون الفوادرُ قضَى نحبَهُ مستكثرًا من جميلهِ ... مُقلًاّ من الفحشاءِ والعِرضُ وافرُ يفرِّجُ عنه غُمَّةَ الرَّوع عزمُه ... وصفراءُ مِرنانٌ وأبيضُ باترُ وأشقرُ غيداقُ الجِراء كأنَّه ... عُقابٌ تدلَّى بين نِيقَين كاسرُ يجُمّ جمومَ البحر طالَ عُبابُهُ ... إذا فاضَ منه أوَّلٌ جاشَ آخرُ لئنْ ضحكتْ منك الإماءُ لقد بكتْ ... عليك فأعْوَلْن النّساء الحرائرُ وطعنةِ خَلْسٍ قد طُعنتَ مُرِشّةٍ ... لها نفذٌ فيه تضلُّ المسابرُ إذا كُشفتْ عنها السُّتورُ شَحا لها ... فمٌ كفم العزلاءِ فَيحانُ فاغِرُ يظلُّ لها الآسي يميدُ كأنَّه ... نَزيفٌ هَراقتْ لُبَّه الخمرُ ساكرُ فيكفي الَّذي يكفي الكريمُ بحَزمه ... ويصبرُ إنَّ الحرّ مثلك صابرُ ومَرقبةٍ شمَّاءَ أقعيتَ فوقَها ... ليغنمَ غازٍ أو ليدركَ ثائرُ وأمْر كسدِّ المنخِرَين اعتليتَهُ ... فنفَّستَ منه والمنايا حواضرُ فلو نبَّأتْني الطَّيرُ أو كنتُ شاهدًا ... لآساكَ في البلوَى أخٌ لك ناصرُ وخفَّضَ جأشِي أنَّ كلَّ ابْن حُرَّةٍ ... إلى حيثُ صرتَ لا محالةَ صائرُ وإنَّ سوامَ الموت تَجري خِلالنا ... روائحُ من أحداثه وبواكرُ أمَّا قوله: " وخفَّض جأشِي " البيت، فمثل قول الخنساء: ولولا كثرةُ الباكين حَولي ... على إخوانهم لقتلتُ نَفسي
وما يبكون مثل أخي ولكنْ ... أُعزِّي النَّفسَ عنهُ بالتَّأسِّي وفي بيت الخنساء هذا زيادةٌ في المعنى، ومثل المعنى الأوَّل: ومنْ يرَ بالأقوامِ يومًا يرَوْا به ... فجيعةَ يوم لا تَوارَى كواكبُهْ وهوَّنَ وجْدِي عن خليليَ أنني ... إذا شئتُ لاقيتُ امرأً ماتَ صاحبُهْ ومثله: فإنْ يقسِموا مالِي بنِيَّ ونسوتي ... فلنْ يقسِمُوا خُلقي الجميلَ ولا فِعلي ولولا الأُسَى ما عشتُ في النَّاسِ ساعةً ... ولكنْ إذا ما شئتُ قابلَني مِثلي مثله: وهوَّنَ وجدي عن خليليَ أنني ... متَى شئتُ لاقيتُ امرأً ماتَ صاحبُهْ فاطمة ابنة الأحجم: يا عينُ بكِّي بَني سعدٍ ومثلهمُ ... أبْكِي إذا أعوزَ اللَّحمُ الأياسيرُ شُمٌّ أنوفهمُ غلبٌ رقابهمُ ... كأنَّ أوجههم حُسنًا دَنانيرُ كأنَّ عينيَ لمَّا أنْ ذكرتهمُ ... غُصنٌ يُراحُ من الطَّرفاءِ ممطورُ ما نعرف في سرعة تحدُّر الدمع مثل هذا البيت، وقريبٌ منه بيت جِران العَود: فبتُّ كأنَّ العين أفنانُ سِدرةٍ ... عليها سَقيطٌ من ندَى اللَّيل ينطُفُ إلاَّ أنَّ البيت الأول أتمُّ معنًى وأكثر زيادةً من بيت جران العود هذا لأنَّه ذكر أنَّ عينه مثل الغصن الممطور إذا حرَّكته الرِّيح وهذا النّهاية في سرعة تحدُّر الدَّمع، ومن أحسن ما قيل في سرعة الدَّمع بعد هذين البيتين: وما شَنتا خرقاءَ واهِيتا الكُلَى ... سقَى بهما ساقٍ ولمَّا تبلَّلاَ بأضيعَ من عينَيك للدَّمْع كلَّما ... تذكَّرتَ إلفًا أو توهَّمتَ منزِلا جوَّاس بن القعطل: لا زالَ صوبٌ من ربيعٍ وصيّفٍ ... بهضب القليب فالتِّلاعُ به خُضرُ يُروِّي عظامًا لم تكنْ في حياتها ... يرِنُّ بها حِنثُ اليمين ولا الغدرُ الغطمَّش الضَّبّيّ يرثي عبيدة بن الأعور: لعَنَ الإلهُ النَّاسَ إلاَّ مُسلمًا ... والدَّهرُ بعد بعيدة بنِ الأعورِ بعدَ امرئٍ واللهِ لم يكُ عاجزًا ... عند الحروبِ ولا ضعيفَ المَكسرِ
وإذا جنَيتُ عليه حربًا حاطَنِي ... ولجأتُ تحتَ لَبان لَيثٍ مُخدِرِ فمضَى وغادرَني أُعالجُ بعدَه ... حربَ النَّوائبِ في زمانٍ مُدبرِ مغلِّس بن لقيط يرثي أخاه: سقَى اللهُ أصداءً برقدٍ وذمَّةٍ ... برقدٍ ذهابًا لا تحلِّي غُيومُها ولا زالَ فينا كلُّ مَيثاءَ يُرتَعَى ... بها النَّورُ والبُلدانُ يُرعَى هَشيمُها ألا لا أرَى بعد ابنِ زينبَ لذَّةً ... لدُنيا ولا حالًا يَدومُ نَعيمُها ولا ذا أخ إلاَّ سيفجعُهُ به ... حِمام المنايا حين يأتِي غَريمُها ابن يربوع بن حنظلة: يُذَكِّرُني عمرًا بكاء حَمامةٍ ... على فَنَنٍ من بطنِ بِيشةَ مائلِ ترَى أهلَهُ في نعمةٍ وهْوَ شاحبٌ ... طَوِي البطنِ مخماصُ الضُّحَى والأصائلِ جُمانة ابنة الأحنف الدَّارميَّة: طلبتُ ولمْ أُدركْ بوجْهي ولَيتَني ... قَعدتُ فلم أبْغِ النَّدَى بعد غائبِ ولو جاءَ باغِي الخيرِ في عهد سائبٍ ... ثَوَى غيرَ قالٍ أو غَدا غيرَ خائبِ أقول وما يدري الَّذين غَدَوا بهِ ... على النَّعش ماذا أدْرَجوا في السَّبائبِ وكلُّ فتًى يومًا سيركبُ مرَّةً ... على النَّعش أعناقَ العدَى والأقاربِ أعرابيّ من بني سعد يرثي قومه: ألم ترَ خُلاَّني مضَوا لسبيلهم ... أبانٌ وعمرٌو منهمُ وجريرُ يقولُ رجالٌ لا يَضيرك فقدُهم ... بلَى إنَّ فقدَ الصَّالحين يَضيرُ هذا مثل قول الآخر: وقالَ أُناسٌ لا يضيرك نأيُها ... بلَى كلُّ ما شفَّ النُّفوسَ يضيرُها أليسَ يضيرُ العينَ أنْ تألَفَ البكا ... ويُمنعَ منها نومُها وسُرورُها وقريبٌ من هذا المعنى وإن لم يكن بعينه قول الآخر: وقالوا: لا يضيرك نأى شهرٍ ... فقلت لصاحبي: فلمن يضير الستمدرل بن شريك: دَلَّوْه فوق يديَّ تحت رِدائهِ ... خَفِرَ الشَّمائل مُسلَمَ الأسرارِ جَدَثا تضمَّنَ نائلًا وعفافةً ... أُسْقيتَ من جدثٍ كذاكَ كُبارِ كاللَّيث يُبطئُ عن أذَى جِيرانه ... ويكون أسرعَهم إلى الأثْآرِ عبيد بن أيوب العنبري:
سأبْكي حُصينًا ما تغنَّى حَمائمٌ ... وأبْكي حُصينًا والحمائمُ هُجَّدُ لقد هَدمُوا قِدْرًا جِماعًا وجَفنةً ... بوارى سَديف الشَّولِ كانتْ تُشيَّدُ وقد عاشَ محمودًا وأصبح فقْدُهُ ... على الأقرَبين والعِدَى وهْوَ أَنْكدُ أبو العالية: صبرتُ ولم أُبدِ اكْتِئابًا ولا تَرَى ... أخا جَزَعٍ إلاَّ يصيرُ إلى الصَّبرِ وإنِّي وإنْ أبديتُ صبرًا لمُنطوٍ ... على حَرّ أحزانٍ أحرَّ من الجمرِ وأملِكُ من عَيني الدُّموعَ وربَّما ... تبادرَ عاصٍ من سوابقها يجرِي تمثَّل قتيبة بن مسلم حين أتاه موت الحجَّاج بقول الحطيئة: لعَمري لَنعم المرءُ من آل جعفرٍ ... بحَورانَ أمسَى ألقَتْهُ الحبائلُ لقد فقدُوا عزمًا جليلًا وسُؤددًا ... وحِلمًا أصيلًا خالفتهُ المجاهلُ إذا عِشتَ لم أملَلْ حياتي وإنْ تمُتْ ... فما في حياةٍ بعدَ موتكَ طائلُ وما كانَ بيني لو لَقيتُك سالمًا ... وبين الغنَى إلاَّ ليالٍ قلائلُ طُفيل بن عوف الغنويّ يرثي زرعة بن عمرو بن الصَّعق: فلم أرَ هالكًا من أهلِ نجدٍ ... كزُرعةَ يوم قامَ به النَّواعِي أعزَّ رَزِيَّةً وأجلَّ فقدًا ... على المولَى وأفضلَ في المساعِي وأعزَزَ نائلًا لمَن اعْتَفاهُ ... وأصبرَ في اللِّقاء على المِصاعِ وأقْولَ للَّتي نبذَتْ بَينها ... وقد رأتِ السَّوابقَ لا تُراعِي فلا وَقَّافة والخَيلُ تُردِي ... ولا خالٍ كأنبوب اليَراعِ شِهابٌ يُستضاءُ به إذا ما ... دَجا الإظلامُ أوقَدَ باليَفاعِ زينب بنت الطَّثريَّة ترثي أخاها يزيد: أرَى الأثْلَ من بطن العقيق مُجاورِي ... مقيمًا وقد غالَتْ يزيدَ غوائلُهْ فتًى قُدَّ قدَّ السَّيف لا مُتضائلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبّاتُهُ وبَآدِلُهْ فتًى لا يُرَى خَرقُ القميص بخَصْره ... ولكنَّما تُوهِي القميصَ حَمائلهْ فتًى ليسَ لابن العمّ كالذِّئب إنْ رَأَى ... بصاحبه يومًا دَمًا فهْوَ آكلُهْ
يسُرُّك مظلومًا ويُرضيك ظالمًا ... وكلّ الَّذي حمَّلْتَه فهْوَ حاملُهْ إذا القومُ أمُّوا بيتَهُ فهو عامِدٌ ... لأفضلِ ما أمُّوا له فهو فاعلهْ إذا نزلَ الأضيافُ كانَ عذَوّرًا ... على الحيِّ حتَّى تستقِلَّ مَراجلهْ إذا كانَ خيرُ الجِدّ أرْضاك جِدُّه ... وذو باطلٍ إنْ شئتَ أرضاك باطِلهْ مضَى ووَرِثْناهُ دَريسَ مُفاضةٍ ... وأبيضَ هنديًّا طويلًا حَمائلهْ أمَّا قولها: " أرى الأثْلَ " البيت، فبذا أخذت أخت الوليد بن طريف الشَّارِي قولها ترثي أخاها الوليد: أيا شجرَ الخابور مالكَ مُورِقًا ... كأنَّك لم تجزعْ على ابْن طَريف أمَّا قولها: " فتًى قُدَّ قدَّ السيف " البيت، وقولها: " فتى لا يرى خرق القميص " البيت، تقول: إنَّه لطيف البطن مضطمِر الخصر، وهذا عندهم غايةٌ في المدح للصّعلوك والفارس، بل يرونه مدحًا للعظيم القَدر، فأمَّا الفارس فيمدح بالنَّحافة، فتقول: إنَّ خصره غير منتفخ لضُمره فما يتخرَّق قميصه في خصره لذلك، بل تتخرَّق أكتافه من نجاد سيفه، ويجوز أيضًا أن تكون مناكبه قليلة اللَّحم فيخرق قميصه، وشبيه بهذا المعنى قول متمِّم في أخيه مالك: لقد غيّب المِنهالُ تحت ردائه ... فتًى غير مِبطان العشيَّات أرْوعا ومثله: رأيتُكما يا بْنَي أخي قد سمِنتما ... وما يُدركُ الأوتارَ إلاَّ المُلوَّحُ وأمَّا قولها: " فتى ليس لابن العمّ " البيت، فإنَّ صاحب المنطق يذكر أنَّ الذِّئب إذا كان عليه أدنَى دمٍ اجتمعت عليه الذِّئاب فتوزَّعته بينها أشلاءً، ومثله قول الآخر: وكنتُ كذئب السَّوء لمَّا رأَى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال على الدَّمِ الغطمَّش الضِّبّيّ: أقول وقد ضاقتْ شؤوني بعَبرةٍ ... أرَى الأرضَ تبقَى والأخلاَّء تَذهبُ أخِلاَّيَ لو غير الحِمَام أصابَكم ... عَتبتُ ولكن ما على الموت مَعتِبُ أمَّا قوله: " أقول وقد ضاقت " البيت، فمثل قول الآخر:
إذا زرتُ أرضًا بعد طول اجْتنابها ... فقدتُ صديقِي والبِلادُ كما هِيا والأصل قوله: بَلِينا وما تَبْلَى النُّجومُ الطَّوالعُ ... وتبقَى البلادُ بعدنا والمَصانعُ وَسْنَى ابنة عمرو القيسيَّة: فتًى مثل صدر الهُنْدُوانيّ لم يكنْ ... جَبانًا إذا الحربُ العَوانُ اشْمَعلَّتِ ولو فُجعتْ غُرّ النُّجوم بمثله ... إذًا لتولَّى ضوءها واضْمحلَّتِ رأيتُ حالَ العِيس بعدك عُرِّيتْ ... ومكرمةَ الفتيان في النَّاس قلَّتِ توسعة بن أبي غسَّان: قلْ للأراملِ واليتامَى قد ثوَى ... فلْتَبْكِ أعينُها على عتَّابِ أودَى ابنُ كلّ مُخاطرٍ بتِلادِهِ ... وبنفسهِ بُقْيًا على الأحسابِ الرَّاكبين من الأمورِ صدورَها ... لا يركبونَ مَعاقدَ الأذْنابِ أنيف بن مخارق الأسديّ: أصبحتُ بعد ربيعةَ بن مُكدم ... غَرَضًا بصَرْدَحةٍ لِمن رامانِي فلأرْمينَّهمُ برغم أُنوفهم ... جَهدي على عَوَزِي من الفتيانِ ميَّة ابنة ضِرار ترثي أخاها قَبيصة: ما بات من ليلة مذ شَدَّ مِئزَرَهُ ... قَبيصةُ بن ضِرارٍ وهْوَ مَوتورُ لا يعرفُ الكلِمُ العُورانُ مجلسَهُ ... ولا يذوق طعامًا وهْو مستورُ الطَّاعن الطَّعنةَ النَّجلاءَ عن عُرُضٍ ... كأنَّها ضَرَمٌ باللَّيل مسعورُ عُتَيّ بن مالك العقيليّ: إذا النَّاسُ عَزَّوني تذكَّرتُ هل إلى ... لقاء ابْن أوسٍ في الحياةِ سبيلُ يُعزِّي المُعزِّي ساعةً ثمَّ يَنكفي ... وفي النَّفس حاجاتٌ لهنَّ غَليلُ كأنْ لم يُسايِرْني ابنُ أوسٍ ولم نرُعْ ... قلائصَ أطلاحًا لهنَّ ذميلُ ولم نُلقِ رَحْلَينا معًا بتَنوفةٍ ... ولم نرمِ جَوزَ اللَّيل حين يَميلُ
قُتَيْلة بنت النَّضر بن الحارث بن كلدة بن عبد الدَّار بن قصيّ، وكان النَّضر لعنه الله من المستهزئين برسول الله ﷺ فأُسر يوم بدر كافرًا، فضرب النَّبيّ ﷺ عنقه صبرًا بالصفراء في طريق بدر إلى المدينة، وكانت ابنته قُتيلة من أحسن نساء العرب وأفصحهنَّ، وكان النَّبيّ ﷺ أراد أن يتزوَّجها حتَّى كان من أمر أبيها ما كان، فكتبتْ إلى النَّبيّ ﷺ: يا راكبًا إنَّ الأُثَيلَ مَظِنَّة ... من صُبح خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ أبلغْ به مَيتًا بأن تحِيَّة ... ما إن تزالُ بها الرَّكائبُ تخفقُ منِّي إليك وعَبرةً مسفوحةً ... جادتْ بَوادرُها وأُخرى تخنُقُ هل يسمعنَّ النَّضرُ إنْ نادَيتَهُ ... بلْ كيفَ يسمعُ مَيِّتٌ لا ينطقُ ظلَّتْ سيوفُ بني أبيه تَنوشُهُ ... للهِ أرحامٌ هناك تُشقَّقُ قسرًا يُساقُ إلى المنيَّة مُتعبًا ... رَتَكَ المقيَّدِ وهْو عانٍ مُوثقُ أمحمَّدٌ ها أنتَ صِنْوُ نَجيبةٍ ... في قومها والفحلُ فحلٌ مُعرِقُ ما كانَ ضرَّك لو مَنَنْتَ فربَّما ... منَّ الفتَى وهو المَغيظُ المُحنَقُ فلمَّا اتَّصل شِعرها بالنَّبيّ ﷺ قال: لو كانَ اتَّصل بي قبلُ لمننتُ عليه. المرّار الفقعسيّ: ألا نوَّهَ الدَّاعي بعمرٍو فأسمَعَا ... ونادَى خبيرٌ منك يا عمرو أفظَعَا فقلتُ ألمَّا اسْتُكملتْ خَيراتُهُ ... وبَرَّز حانَتْه المنايا فودَّعا مضَى عنِّي به كلُّ لذَّةٍ ... تَقَرُّ بها عينايَ فانْقطعا مَعا شهدتُ على أرضٍ بها حفَروا له ... بِطيبِ الصَّعيد نكهةً وتَضوُّعا وما دنِسَ الثَّوبُ الَّذي زوَّدُوكَهُ ... وإنْ خانهُ رَيبُ البِلَى فتقطَّعا وطابَ ثرًى أصبحتَ فيه وإنَّما ... يطيبُ إذا كانَ الثَّرى لك مضجَعا دَفَعنا بك الأيَّامَ حتَّى إذا أتتْ ... إليك المنايا لم نجِد عنك مَدفَعا معروف بن مالك النَّهشليّ:
سأبْكيك ما فاضتْ دُموعي وإنْ تغِضْ ... فحسبك منِّي ما تُجنُّ الجوانحُ كأنْ لم يمتْ حيٌّ سِواك ولم تقُمْ ... على أحدٍ إلاَّ عليكَ النَّوائحُ لئن حسُنتْ فيك المَراثي وذِكرُها ... لقد حسُنتْ من قبلُ فيك المدائحُ فما أنا من رُزءٍ وإنْ جلَّ جازعٌ ... ولا في سُرور بعد موتك فارحُ كعب الغنويّ يرثي أخاه: تقولُ سليمَى ما لجسمك شاحبًا ... كأنَّك يحميك الشَّرابُ طَبيبُ أتَى دون حُلوِ العيش حتَّى أمَرَّهُ ... نُكوبٌ على آثارهنَّ نُكوبُ أخو شَتَواتٍ يعلمُ الضَّيفُ أنَّه ... سيكثُرُ ما في قِدره ويَطيبُ إذا ما تراءاهُ الرِّجالُ تحفَّظُوا ... فلم تنطقِ العوراءُ وهْوَ قريبُ فتًى لا يُبالي أن يكونَ بجسمه ... إذا نالَ خَلاَّتِ الكرام شُحوبُ وحدَّثْتُماني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيف وهذِي هَضبةٌ وكَثيبُ وماءُ سماءٍ ليس فيه مَحَمَّةٌ ... ببرِّيَّةٍ تجري عليهِ جنوبُ وإنِّي لَباكيهِ وإنِّي لَصادقٌ ... عليهِ وبعضُ القائلينَ كَذوبُ لعمرُكُما إنَّ البعيد الَّذي مضَى ... وإنَّ الَّذي يأتِي غدًا لقريبُ أما قوله: " إذا ما تراءاهُ الرِّجال " البيت فقريب من قول مُهلهل: نُبِّئتُ أنَّ النَّارَ بعدك أُوقدتْ ... واسْتَبَّ بعدك يا كُليبُ المجلسُ وتَفاوَضوا في أمرِ كلّ نقيصةٍ ... لو كنتَ شاهدَ أمرِهم لم ينْبِسوا وأمَّا قوله: " وحدَّثتماني " البيت والبيت الَّذي بعده فمثل قول أبي ذُؤيب: يقولونَ لي لو كانَ بالرَّملِ لم يمتْ ... نُبَيْشةُ والطُرَّاق يكذِب قيلُها ولو أنَّني أودعتُهُ الجوَّ لارْتَقتْ ... إليه المنايا عينُها أو رسولُها على حين ساواهُ الشَّبابُ وقاربتْ ... خُطايَ وخِلتُ الأرضَ وعْرًا سُهولُها أوس بن حجر، وكان الأصمعي والمفضّل الضَّبّيّ وأكثر الرُّواة يقولون إنَّه لم يبتدئ أحدٌ من الشعراء ابتداء مرثية أحسن من ابتداء هذا الشِّعر، وهو: أيَّتُها النَّفسُ أجمِلي جزعا ... إنَّ الَّذي تحذَرين قد وقَعا
ألا لمِّعِي الَّذي يَظنّ لك الظَّ ... نَّ كأن قد رأَى وقد سمِعَا والحافظ النَّاسَ في المُحول إذا ... لم يُرسِلوا خلفَ عائذٍ رُبعا وهبَّتِ الشَّمألُ البَليلُ وقد ... أمسَى ضجيعُ الفتاة مُلتَفِعا عامَ تُرَى الكاعبُ المنَعَّمةُ ال ... حسناءُ في زادِ أهلِها سَبُعا ليبككَ الضَّيفُ والمجالسُ وال ... فِتيا طرًّا وطامعٌ طَمِعا والحيُّ إذْ حاذَروا الصَّباحَ وقد ... خافوا مُغارًا وآنَسوا فَزَعا والتحمَتْ حَلْقتا البِطان على ال ... قومِ وجاشتْ نفوسُهم جَزَعا كثيِّر: تاللهِ أنسَى مصيبتي أبدًا ... إن أسْمعتْني حَنينَها الإبِلُ لم يعلمِ النَّعشُ ما عليه من ال ... جُود ولا الحاملونَ ما حَمَلوا حتَّى أجَنُّوهُ في ضريحهمُ ... حيثُ انتهَى من خليلك الأمَلُ أما قوله: " لم يعلم النَّعش ما عليه " البيت، فأخذه ابن ميَّادة في قوله: ما دَرَى نعشُهُ ولا حاملوه ... ما على النَّعشِ من عَفاف وجُود حُميد بن ثور: لقد غادرَ الموتُ قبل الصَّفا ... وبعد المُشقَّر قدرًا جليلا كثيرًا حلاوةُ أخلاقِهِ ... شديدَ المَرارة صَعبًا ذَلولا خذلتَ الوليَّ لِكأس الحِمامِ ... ولم تكُ يا بْن عُمَيرٍ خذولا وأيَّمتَ منَّا الَّتي لم تلدْ ... كيُتْمِ بَنيك وكنتَ الخليلا وكنتَ لنا جَبَلًا مَعْقِلًا ... وعند المَقامة بُرْدًا جميلا وتَغْدِي بمالِك أموالَنا ... فلا يحسبُ النَّاسُ فينا بخيلا مطر بن جبير العجليّ: أقلِّي من التِّبْكاءِ يا أُمَّ مالكٍ ... عليك فإنَّ الدَّهرَ جَمٌّ غوائلهْ لقد رحلَ الحيُّ المُقيمُ وخلَّفوا ... فتًى لم يكنْ يَبدأْ به من يُنازلهْ ولم يكُ يخشَى الجارُ منه إذا دَنا ... أذاهُ ولا يخشَى الحَريمةَ سائلهْ وقد كانَ عبد الله ذا أرْيَحِيَّةٍ ... إذا اهتزَّ للخير الَّذي هو فاعلهْ ولو أنَّني قدَّرتُ يومَ حِمامه ... لقاتلْتُ عنه لو أرَى من يُقاتلهْ سَلَمة بن مالك الجعفيّ:
أقولُ لنفسِي في الخَلاءِ ألومُها ... لكِ الويلُ ما هذا التَّجلُّدُ والصَّبرُ أما تفهمينَ الخُبرَ أنْ لستُ لاقِيا ... عِرارًا وقد واراهُ من دونيَ القبرُ وكنتُ أعدُّ بَينهُ بعضَ ليلةٍ ... فكيف ببينٍ دون ميعادهِ الحشرُ وهوَّنَ وَجْدي أنَّني سوف أغتَدِي ... على إثرهِ يومًا وإنْ طالَ بِي العُمرُ فلا يُبعِدَنْك اللهُ إمَّا تَركتنا ... حميدًا وأودَى بعدك الخوفُ والبِشرُ فتًى كانَ يُعطي السَّيفَ في الرَّوع حقَّهُ ... إذا ثوَّبَ الدَّاعِي وتشقَى به الجُزرُ فتًى كانَ يُدنيهِ الغِنَى من صديقهِ ... إذا ما هو استغْنَى ويُبعدُهُ الفقرُ فنِعم مُناخُ الحيّ كانَ إذا انبرتْ ... شَمالٌ وأمستْ لا يُعرِّجُها سِترُ ومأوَى اليتامَى المُمْحِلين إذا انْتَهوا ... إلى بابهِ شُعثًا وقد قحَطَ القطرُ وقال: سقر اللهُ قبرًا لستُ زائرَ أهلهِ ... ببِيشةَ إمَّا أدركتْهُ المَقابرُ تضمَّن خِرقًا كالهلال ولم يكنْ ... بأوَّل خِرقٍ ضُمِّنتهُ المقابرُ كأنِّي غداةَ اسْتَعْلَنوا بنَعيِّه ... على النَّعشِ يهفُو بين جَنبَيَّ طائرُ هشام بن عُقبة أخو ذي الرُّمَّة: نعَى الرَّكبُ أوفَى حينَ آبتْ رِكابُهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍّ فأوجَعوا نَعَوا باسقَ الأخلاق لا يخلفونَهُ ... تكادُ الجبالُ الصمُّ منه تصدَّعُ تعزَّيتُ عن أوفَى بغَيلانَ بعدَه ... عَزاءً وجفنُ العين مَلآن مُترعُ ولم يُنسني أوفَى المُصيباتُ بعدَه ... ولكنَّ نَكْأَ القَرح بالقَرح أوجعُ عجز هذا البيت من المعاني الجياد والأمثال السَّائرة وما نعرف له نظيرًا فنورده.
لمَّا فرغ خالد بن الوليد من قتال طليحة بن خويلد الأسديّ ومن كان معه، مضى إلى أرض بني تميم لقتال من ارتدَّ بها من العرب، فلمَّا صار بمكانٍ يقال له البطاح من أرضهم ألفَى به بني يربوع وعليهم مالك بن نويرة اليربوعيّ فقتله في جماعة من قومه، ويقال أنَّ خالدًا قتل مالكًا ومن معه وهم مسلمون وذلك أنَّ أبا بكر ﵁ قدم إلى خالد ومن معه من المسلمين إذا نزلوا بحيّ من أحياء العرب أمهلوهم إلى وقت الصلاة فإن رأَوهم يصلُّون وإلاَّ قاتلوهم، فيقال إنَّ أصحاب خالد وافوا بني يربوع وقت الفجر، فأذَّن مؤذّنهم وأذَّن مؤذّن الآخرين سواء فأتوا جميعًا الصلاة، إلاَّ أنَّ خالدًا قتلهم أجمعين. ويقال إنَّ خالدًا لمَّا أمر بضرب عنق مالك التفت وهو يُقاد إلى القتل، فنظر إلى امرأته وهي أجمل نساء العرب وهي تبكي مسفرةً عن وجهها، فقال لها: أنت والله قتلتني بهذا الجمال، لأنَّ خالدًا لمَّا نظر إليك وقعتِ بقلبه فأمر بقتلي. ويقال إنَّه لما قتله أخذ رأسه فجعله أثْفِيَّةً للقِدر وجعل وجهه مما يلي النَّار، فنظرت إليه على تلك الحال امرأة من قومه فقالت: اصرفوا وجهه عن النَّار فإنَّه والله كان غضيض الطَّرف عن الجارات، حديد النَّظر في الغارات، لا يشبع ليلة يُضاف، ولا ينام ليلة يخاف. ولمَّا قتله خالدٌ تزوَّج امرأته، وكان مالك من فرسان العرب وفتيانهم، وأكثر فيه أخوه متمِّم من المراثي. ويقال إنَّه قدم المدينة بعد قتل أخيه متظلِّمًا، فاستنشده المسلمون شعرَه في أخيه، فأقبل ينشدهم وهو يبكي، فقال له عمر بن الخطاب ﵁: سألتك الله، يا متمِّم، هل كان أخوك على ما تصفه في شعرك؟ قال: اللهم نعم، إلاَّ أني قلت في بعض ذلك: " فتًى غيرَ مِبطان العشيَّات أروَعا " وقد كانت له بطنٌ حادرةٌ، ويقال إنَّه سئل عن أخيه وجَلده فقال: كان يركب الجمل الثَّفالَ بين المزادتين النَّضوحَين في اللَّيلة القَرَّة ويعتقل الرُّمح الخطل ويجنِّب
الفرس الجرور وعليه الشَّملة الفَلوت ثمَّ يصبح ضاحكًا طلق الوجه، وسئل مرَّةً أخرى فقيل له: أين كان مالك منك؟ فقال: ساعةٌ واحدة - والله - من مالك مثل حولٍ منِّي مجرَّمٍ، قيل: وكيف ذاك؟ قال: أُسرت في بعض أحياء العرب فأقمتُ حولًا مجموعةً يدايَ إلى عنقي، فلمَّا كان في الشَّهر الحرام جاء مالك لفدائي، فلمَّا أشرف على الحيّ ونظروا إلى جماله لم يبقَ فيهم قاعدٌ إلاَّ قام ولا ذات خِدرٍ إلاَّ كشفت سِجفَ خِدرها لتنظر إليه، فلمَّا كلَّمهم وسمعوا فصاحته وبيانه أطلقوني له بغير فداء فعلمتُ أنَّ ساعةً منه خيرٌ من حول منِّي. وكان متمِّمٌ أعور فيُروى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب قال له: يا متمِّم! ما بلغ من حزنك على مالك؟ فقال: بكيتُ عليه بعيني الصحيحة حتَّى أسعدتها بالبكاء عيني العوراء، فقال أمير المؤمنين: هذا نهاية الحزن. ومراثي متمِّم في مالك كثيرة إلاَّ أنَّا نورد ما نختار من بعضها، فمن ذلك قصيدته المشهورة وأوّلها: لعمري وما عَمري بتأبين مالكٍ ... ولا جزعًا ممَّا أصابَ فأوجَعا لقد غيَّبَ المِنهال تحت ردائهِ ... فتًى غيرَ مِبطان العشيَّاتِ أروعا لبيبًا أنارَ اللُّبَّ منه سماحةً ... خَصيبًا إذا ما راكبُ الجَدب أمْرَعا تَراهُ كمثل السَّيف يندَى بَنانهُ ... إذا لم تجدْ عند امرئ السَّوء مطمَحا ويومًا إذا ما كظَّك الخصمُ إنْ يكنْ ... نَصيرَك فيه لا تكنْ أنتَ أضْرَعَا أبَى الصَّبرَ آياتٌ أراها وأنَّني ... أرَى كلَّ حَبلٍ بعد حبلك أقطَعا أقول وقد طارَ السَّنا في رَبابه ... بجَونٍ يَسُحُّ الماءَ حتَّى تَريَّعا سقَى اللهُ أرضًا حلَّها قبرُ مالكٍ ... ذهابَ الغَوادي المُدجِنات فأمْرعا لَعِشنا بخَير في الحياة وقبلَنا ... أصابَ المنايا رهطَ كسرَى وتُبَّعا وكنَّا كنَدمانَي جَذيمةَ حِقبةً ... من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يتصدَّعا فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكًا ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً مَعَا
تقولُ ابنةُ العَمْريّ مالَكَ بعدَنا ... أراكَ قديمًا ناعمَ البالِ أفرَعَا قَعيدَكِ ألاَّ تُسمعيني مَلامةً ... ولا تَنْكَئي قرحَ الفؤاد فييجَعَا بحسبك أنِّي قد جهدتُ فلم أجدْ ... بكفِّي عنهُ للمنيَّة مدفَعَا فما وجْدُ أظْآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ... رأينَ مَجَرّا من حُوارٍ ومصرَعَا ولا شارِفٍ جَشَّاء رِيعت فرجَّعتْ ... حَنينًا فأبكَى شجوُها البَرْكَ أجمَعَا بأوجَدَ منِّي يومَ فارقتُ مالكًا ... ونادَى بهِ الموتُ الحثيثُ فأسمَعَا فإنْ يكُ حُزنٌ أو تتابُعُ عَبرةٍ ... أذابتْ عَبيطًا من دمِ الجوف مُنقَعَا تجرَّعتُها في مالكٍ واحْتَسَيْتُها ... لأعظمَ منها ما احْتَسَى وتجرَّعَا وكان الَّذي قتل مالكًا رجلٌ يعرف بابن الأزور وفيه يقول متمّم: نِعم القتيلُ إذا الرِّياحُ تناوحتْ ... خلفَ البُيوت قتيلُك ابنَ الأزورِ أدَعَوتَهُ بالله ثمَّ غَدَرتَهُ ... لو هُو دعاكَ بذمَّةٍ لم يغدِرِ لا يُضمرُ الفحشاءَ تحتَ ثيابه ... حلوٌ شمائلُهُ عفيفُ المَيْزَرِ فلَنِعم حشوُ الدِّرع كنتَ وحاسرًا ... ولَنِعم مأوَى الطارق المتنوِّرِ سمحٌ بأذناب المخَاض إذا شَتَا ... طلقٌ حلالُ المال عير عَذَوَّرِ وله من أُخرى: ولو شئتُ بالله الَّذي نزَّلَ الهُدَى ... حَلَفتُ وبالأدْم المجلَّلَة الهُدْلِ لئن مالكٌ خلَّى عليَّ مكانَهُ ... لنِعمَ فتَى العَزّاء والزَّمن المحْلِ شديدٌ على الأعداءِ سهلٌ جَنابُهُ ... لمنْ يَجتدِي معروفَهُ غير ذي دخْلِ كريم الثَّنا حُلْو الشَّمائل ماجدٌ ... صَبورٌ على العَزَّاء مُشترَكُ الرَّحْلِ حليمٌ إذا القومُ الكرامُ تَنازَعوا ... فحُلَّتْ حُباهم واسُخِفُّوا من الجهْلِ وإنْ كانتِ الظَّلماءُ سِترًا لبعضهم ... بدَا وجهُهُ في غير فُحش ولا بخْلِ أخو ثقة لا يعتَري الذَّمُّ نارَهُ ... إذا أُوقدتْ بين الرَّكائب والرَّحْلِ وكلُّ امرئٍ في النَّاس بعد ابنَ أُمِّه ... كساقطةٍ إحدَى يَدَيه من الخبْلِ
وبعضُ الرِّجال نخلة لا جَنَى لها ... ولا ظلَّ إلاَّ أن تُعَدَّ من النَّخْلِ وله من أُخرى: حَلَفتُ بربّ الرَّاقصات عشيَّةً ... وحيث تُناخ البُدْنُ دافَعها العقلُ لئن فاتَني ريبُ الزَّمان بمالك ... وقد كملتْ فيه المروءةُ والعقلُ ففاتَ ولو قيل الفِداءُ فديتُهُ ... وما عزَّ مالٌ عن فِداهُ ولا أهلُ لنِعم مُناخ الضَّيف إنْ جاءَ طارقًا ... إذا أخمدَ النِّيرانَ أو حارَدَ المحلُ ونِعم محلُّ الجار حلَّ بأهله ... إذا ما بدَا كعبُ المَصونة والحِجْلُ ونِعم أخو العاني إذا القيدُ عضَّهُ ... وأسرَعَ في ضاحِي سواعده الغُلُّ حَييٌّ بَذِيٌّ أيّ ذلك التمستَهُ ... وذو لبدٍ شَثْنٌ براثنُهُ عَبْلُ وإن جاءَ طاري اللَّيل يخبِط طارقًا ... تهلَّلَ معروفٌ خلائقُه جَزْلُ أخو ثقة لا يَعتري الذَّمُّ نارَهُ ... إذا لم يكنْ في القومِ شُربٌ ولا أكلُ ومراثي متمّم في مالك كثيرةٌ جدًّا وإنَّما أتينا منها باليسير اجتنابًا للتطويل. جرير يرثي امرأته أمّ حَزْرة: لولا الحياءُ لهاجَني استعبارُ ... ولزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ فسقَى ثرَى جدثٍ ببُرقة ضاحكٍ ... هزِمٌ أجشُّ وديمةٌ مِدرارُ متراكمٌ زجِلٌ يُضيءُ وميضُهُ ... كالبُلقِ تحت بطونها الأمهارُ صلَّى الملائكةُ الَّذين تُخيِّروا ... والمُصطفونَ عليك والأبرارُ فلقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ ... ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقارُ فعليكِ من صلواتِ ربّك كلَّما ... ضجَّ الحجيجُ ملبِّينَ وغاروا كانتْ مُكارمةَ العَشير ولم يكنْ ... يخشَى غوائلَ أمّ حَزْرةَ جارُ ولَّهتِ قلبِي إذ عَلَتْني كبرةٌ ... وذَوو التَّمائمِ من بَنيكِ صغارُ أرعَى النُّجومَ وقد مضتْ غَورِيَّةٌ ... عُصَبُ النُّجوم كأنَّهنَّ صِوارُ يا نظرة لك يوم هاجتْ عبرةً ... مِن أُمّ حَزْرة بالنُّميرةِ دارُ تُحيي الرَّوامسُ ربعَها فتجدُّهُ ... بعد البلَى وتُميتُهُ الأمطارُ
كانَ الخليطُ همُ الخليطُ فأصبحوا ... مُتبدِّلين وبالدِّيار ديارُ لا يلبثُ القُرناءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ كثيّر في خالد بن عبد الله الأسديّ: على خالد أصبحتُ أبْكي لخالد ... وأصدُقُ نفسًا قد أُصيبَ خليلُها تذكَّرتُ منه بعد أوَّل هجعةٍ ... مساعيَ لا أدرِي على مَن أُحيلُها وكنتَ إذا نابتْ قُريشًا ملمَّةٌ ... وقال رجالٌ سادةٌ مَن يزيلُها تكون لها لا مُعجَبًا بنجاحها ... ولا يحمل الأثقالَ إلاَّ حمولُها فأينَ الَّذي كانتْ معدٌّ تنوبُهُ ... ويحتملُ الأعباءَ ثمَّ يَعولُها النابغة الجعديّ: ألا أبلِغا عَوفًا وصاحبَ رَحله ... ومن يغوِ لا يعدمْ على الغيِّ لاحِيا فأيّتما عينٍ بكتْ إنْ هلكْتما ... فلا رقأتْ حتَّى تموتَ كما هِيا ولو أنَّ قومي لم تحنى جُدودهم ... وأحلامُهم أصبحتُ للفتقِ آسِيا ولكنَّ قومي أصبحوا مثلَ خيبرٍ ... بها داؤُها ولا تضرُّ الأعادِيا تلومُ على هلكِ البعير ظَعينتي ... وكنتُ على لَوم العواذل بازِيا ألم تعلَمي أنِّي رُزئتُ مُحاربًا ... فما لكِ منه اليومَ شيءٌ ولا لِيا فتًى تمَّ فيه ما يسرُّ صديقَهُ ... على أنَّ فيه ما يسوءُ الأعادِيا فتًى كمُلتْ أخلاقُهُ غيرَ أنَّه ... جوادٌ فيما يُبقي من المالِ باقِيا ومِن قبله ما قد فُجعتُ لعامرٍ ... وكانَ ابنَ عمِّي والخليلَ المُصافِيا وما شَكِسُ الأنياب شَثنٌ بنانُهُ ... من الأسْدِ يَحمي من تِهامةَ وادِيا إذا ما رأَى قِرنا مُدِلًا هوَى له ... جرِيئًا على الأقرانِ أغضَفَ ضارِيا فليس بمسبوقٍ بشيءٍ أرادَهُ ... وليس بمغلوبٍ وليس مُفادِيا بأعظمَ منهُ في الرِّجالِ مَهابةً ... وآخرَ معدوًّا عليه وعادِيا فلا يُبعدْنكَ اللهُ إنْ كانَ حدثٌ ... أصابكَ عنَّا نازحَ الدَّار نائِيا ولكنْ جزاكَ اللهُ حَيّا وهالكا ... على كلِّ حالٍ خيرَ ما كانَ جازيا مُرَّة بن عمرو النَّهشلي:
لعمري لئنْ أمسَى يزيد بن نهشلٍ ... حَشا جَدَثٍ تسفِي عليه الرَّوائحُ لقد كانَ ممَّن يبسطُ الكفَّ بالنَّدَى ... إذا ضنَّ بالخير الأكُفُّ الشَّحائحُ إذا ابتدَرَ البابَ المَهيبَ رأيتَهُ ... يَدِنُّ جَنابَيه الكهولُ الجحاجحُ فبعدك أبدَى ذو الضَّغينة ضِغنَهُ ... وسدَّ ليَ الطَّرفَ العيونُ الكواشحُ ذكرتُ الَّذي ماتَ النَّدَى عند موتِهِ ... بعاقبةٍ إذ صالحُ العيش طالحُ إذِ العيشُ لم يكدَرْ عليَّ ولم يمتْ ... يزيدُ وإذْ لِي ذو العداوة ناصِحُ وعافتْ عليَّ النَّومَ عينٌ مريضةٌ ... إذا أُشربَ النَّومَ العيونُ الصَّحائحُ إذا جمدتْ عنك العيونُ وحادَرَتْ ... فيَبكيك من عينيَّ دمعٌ مُسامحُ إذا أرَقِي أفنَى من اللَّيل ما مضَى ... تمطَّى به ثِنْيٌ من اللَّيل جانِحُ ليَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومة ... ومُستنبحٌ في أوَّل اللَّيل طائِحُ ولعبد الرَّحمن بن حسَّان الكلابيّ: كأنَّ العين حين تُريد نَوما ... طريفٌ أو بفُلْفُلة كَحيلُ أعاذلَ أقصِري عن بعض لَومي ... فإنَّ اللَّومَ محمِلُهُ ثقيلُ وقُولي لا ألومُكَ أو تنحَّى ... وقد يُعصَى وإن نصحَ العَذولُ أعاذلَ إنَّ صبْرِي عن عمير ... لَتَجميلٌ وما ذهبَ الغَليلُ إذا وطَّنتُ جأشي للتَّعَزِّي ... أبَى الذِكِراتُ والعينُ الهمولُ رأينا مَن تقاسمُهُ المنايا ... يُضامُ ولا يُفاداهُ قَتيلُ فصبرًا يا عُمَيْرُ فكلُّ قوم ... سيسلبهُم كريمهمُ السَّبيلُ وقولِي غيرَ كاذبةٍ رُزئنا ... فتَى صدقٍ إذا برَدَ الأصيلُ لأمَّمتُ النَّدَى وطَلَعتَ فيه ... ثنايا الطَّالعونَ لها قليلُ وركبٍ قد هوَوْا لك بعد ركبٍ ... تلفُّهم شآميَّةٌ بَليلُ تخطَّوْا نحو نارك كلَّ نارٍ ... ووجهُك والنَّدَى لهمُ دليلُ إلى رَحب الفِناء نَدٍ نَجيبٍ ... كأنَّ جبينَهُ سيفٌ صقيلُ أغرّ تُفرِّجُ الغَمَّاءَ عنه ... إمامتُهُ الكريمةُ والرَّحيلُ يزينُ الرَّكبَ حين يكون فيهم ... ويحمَدُهُ المُرافقُ والخَليلُ
وقد غلِقَ النَّدَى بلوَى زَرودٍ ... لقد غالَ ابن عبد الله غُولُ كأنَّ الأرضَ إذ فقدتْ عميرًا ... وإنْ جادَ الرَّبيعُ بها مَحولُ أمَّا قوله: " كأنَّ العين حين تُريد نوما " البيت، فمأخوذ من قول المرقِّش: وكأنَّ حبَّةَ فلفلٍ في عَينه ... ما بين مُصبَحها إلى إمْسائها ومنه أخذ عبد العزيز قوله: " كأنَّ فلفلة كُحِلَ بها مذبوحه. وأمَّا قوله: " تخطَّوا نحو نارك " البيت، فمنه أخذ النَّمريُّ قوله: ليلٌ من النَّقع لا شمسٌ ولا قمرُ ... إلاَّ جبينك والمذروبة الشَّرَعُ ومثله للأُخيطل: لا نجمَ إلاَّ البِيضُ وال ... بَيضاتُ والدَّرَق اللَّوامِعْ ومثله: تَبني سنابكُها مِن فوق هامهمُ ... ليلًا كوكبُهُ البِيضُ المباتيرُ ومثله لبشَّار: كأنَّ مُثارَ النَّقع فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ ولعبد الرحمن بن حسَّان أيضًا: يا أُمَّ بشرٍ ثِقي بالله واعْترِفي ... بالحقِّ إنَّ قضاءَ الله مَبرومُ وانْعَيْ أباكِ إذا ما قالَ مُختبطٌ ... أين الكرامُ المَطاعينُ المَطاعيم مثل السِّنان لطيف البطن لا مرِحٌ ... إنْ نالَ دُنيا ولا بالزَّاد مَنهومُ لا يُسلمُ الجارَ والمولَى لعَثْرته ... ولا يُسالمُ وابنُ العمّ مظلومُ وله أيضًا: قالتْ سُلَيْمَى وأبصرتْ عَجَبا ... مالَكَ نِضْوًا واللُّبُّ مُشترَكُ فقلتُ بي غُصَّةٌ أُكابدُها ... أولادُ عوفٍ وعامرٍ هَلَكوا خَلَّوا فِجاجًا عليَّ فانْحرفتْ ... لم يستطعْ سدَّهنَّ مَن تَرَكوا ومن مشهورات المراثي وجِيادها قصيدة أبي ذؤيب الهذليّ يرثي بَنيه ونحن نختارها وأوَّلها: أمِن المَنون ورَيبها تتوجَّعُ ... والدَّهرُ ليس بمُعتبٍ مَن يجزَعُ ولقد أرَى أنَّ البُكاءَ سلامةٌ ... ولَسَوفَ يولَعُ بالبُكا مَن ييْجَعُ قالتْ أُميمةُ ما لِجسمك شاحبًا ... منذُ ابتُذِلْتَ ومثلُ مالِكَ ينفَعُ أمْ ما لِجسمك لا يُلائمُ مضجعًا ... إلاَّ أقضَّ عليك ذاكَ المضجَعُ
فأجبتُها أنْ ما لجسميَ أنَّهُ ... أودَى بَنِيَّ من البلادِ فودَّعوا أودَى بنيَّ وأعقَبوني حَسرةً ... عند الرُّقاد وعَبرةً ما تُقلعُ فالعينُ بعدهمُ كأنَّ حِداقَها ... سُملتْ بشوكٍ فهْيَ عُورٌ تدمَعُ سَبَقوا هوايَ وأعْنَقوا لِهواهُمُ ... ففقدتهمُ ولكلِّ جنبٍ مصرَعُ فلبثتُ بعدهمُ بعيش ناصِب ... وإخالُ أنِّي لاحقٌ مُستتبَعُ ولقد حَرَصتُ بأن أُدافعَ عنهمُ ... فإذا المنيَّةُ أقبلتْ لا تُدفَعُ وإذا المنيَّةُ أنشبتْ أظفارَها ... ألفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفَعُ وتجلُّدي للشَّامتينَ أُريهمُ ... أنِّي لرَيب الدَّهر لا أتضعضَعُ حتَّى كأنِّي للحوادثِ مَروةٌ ... بصفا المُشَقَّر كلَّ يوم تُقرَعُ والنَّفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتَها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنَعُ والدَّهرُ لا يبقَى على حَدَثانه ... جَونُ السَّراة له جدائدُ أربَعُ بقَرار قِيعانٍ سقاها صَيِّفٌ ... واهٍ فأثْجَمَ بُرهةً لا يُقلِعُ والدَّهرُ لا يبقَى على حَدَثانه ... شَبَبٌ أفَزَّتْهُ الكلابُ مُفزَّعُ حَمِيتْ عليه الدِّرعُ حتَّى وجهُهُ ... من حرِّها يومَ الكريهةِ أسفَعُ بَينا تَعنُّقِهِ الكُماةَ وخُدعةٍ ... منه أُتيحَ له جَريءٌ سَلْفَعُ فتنادَيا وتواقفتْ خَيلاهُما ... وكِلاهما بطلُ اللِّقاءِ مخدَّعُ متحاميَين المجدَ كلٌّ واثق ... ببلائِهِ واليوم يومٌ أشنَعُ وعليهما مَسرودَتانِ قَضاهما ... داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ وكلاهما في كفِّهِ يَزَنيَّةٌ ... فيها سنانٌ كالمَنارة يلمَعُ وكلاهما متوشِّحٌ ذا رونقٍ ... عَضْبًا إذا مسَّ الضَّريبة يقطَعُ فتخالَسَا نفسَيْهما بنوافذٍ ... كنوافذِ الخرق الَّتي لا تُرقعُ وكلاهما قد عاشَ عيشَةَ ماجدٍ ... وجنَى العلاءَ لَوَ انَّ شيئًا ينفَعُ ومن المراثي الجِياد قصيدة زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلَّب، فاستنشده المهلَّب هذه القصيدة حتَّى أتى على قوله:
فإذا مررتَ بقبره فاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجان وكلَّ طرفٍ سابِحِ فقال له المهلَّب: فهل عقرتَ عليه، يا أبا أُمامة، فرسك؟ قال: لا، قال: ولِمَ؟ قال: لأنِّي كنت على مُقْرِف ولو كنتُ على عتيق لفعلت، فاستحسن المهلَّب قوله وقال لمن حضر مجلسه من ولده ومواليه: ليُهد كلُّ واحدٍ منكم إلى زياد فرسًا من خيله، فيقال إنَّه انصرف بأكثر من مائة فرس، وأوَّل هذه القصيدة المختارُ منها قوله: قلْ للقوافلِ والغُزاة إذا غَزَوا ... والباكِرين وللمُجِدّ الرَّائحِ إنَّ السماحةَ والمُغيرةَ ضُمِّنا ... قبرًا بمروَ على الطَّريقِ الواضحِ فإذا مررتَ بقبرِهِ فاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجان وكلَّ طرفٍ سابِحِ وانْضَحْ جوانبَ قبرهِ بدِمائها ... فلقد يكون أخا ندًى وذبائحِ وإذا يُناحُ على فتًى فتعلَّمَنْ ... أنَّ المغيرةَ فوق نَوح النَّائحِ وأرَى المكارمَ يوم زِيلَ بنَعْشه ... زالتْ بفضلِ مكارمٍ ومَمادحِ فكفَى لنا حَزَنًا ببيتٍ حَلَّهُ ... أُخرى الزَّمان فليس عنه ببارحِ لعَفَتْ منابِرُهُ وحُطّ سُروجُهُ ... عن كلِّ طامحةٍ وطِرْفٍ طامِحِ ماتَ المغيرةُ بعد طولِ تعرُّضٍ ... للموتِ بين أسنَّةٍ وصفائحِ والقتلُ ليس إلى القتالِ ولا أرَى ... حَيًّا يؤخِّرُ للشَّفيق النَّاصِحِ للهِ درُّ منِّيَّةٍ فاتتْ بهِ ... فلقد أراهُ يردُّ غَرْب الجامحِ الآنَ لمَّا كنتَ أكملَ مَن مَشَى ... وافترَّ نابُكَ عن شَباة القارحِ وتكامَلَتْ فيك المروءةُ كلّها ... وأعنْتَ ذلك بالفَعال الصَّالحِ فانْعَ المغيرةَ للمُغيرة إذ بدتْ ... شَعواءَ مُجْحِرةً نُباحَ النَّابحِ صفَّانِ مختلفانِ حين تلاقَيا ... آبُوا بوجْه مُطلِّق أو ناكحِ تَشفي بحِلْمك لابْن عمِّك جهلَهُ ... وتَرُدُّ عنه كفاحَ كلّ مُكافحِ وإذا الأُمورُ على الرِّجالِ تشابَهَتْ ... وتُوُزِّعتْ بمغالقٍ ومَفاتحِ فتَلَ السَّحيلُ بمبْرَمٍ ذي مِرَّة ... دون الرِّجال بفضل عقلٍ راجحِ
صِلٌّ يموتُ سليمُهُ قبل الرُّقَى ... ومُخاتِل لعدوّه بتصافُحِ إنَّ المَهالبَ لا يزالُ لهم فتًى ... يمرِي قوادمَ كلّ حربٍ لاقحِ ملكٌ أغرُّ متوَّجٌ يَسمو لهُ ... طرفُ الصَّديق وغُضَّ طرفُ الكاشحِ رفَّاعُ ألوية الحروبِ إلى العِدَى ... بسُعود طيرِ سوانحٍ وبَوارحِ أمَّا قوله: " فإذا مررتَ " البيتين، فكثير جدًّا وقد ذكرنا شيئًا منه، ومن مليح ما لم نذكره قول ابن الرومي يرثي بستان المغنّية: إنَّ ثرًى ضمَّها لأفضلُ مَح ... جوج لصبٍّ وخيرُ مُعتَمَرِ أقسمتُ بالدَّلِّ من مَلاحتها ... وحسنِ ذاك السُّجُوِّ والحَوَرِ لو عُقرتْ حول قبرها بَقَرُ ال ... إنسِ مكانَ القِلاص والجَزَرِ وانْتُحِرتْ في قبابها بُهُمُ ال ... حرب وصِيدُ المُلوك من مُضرِ يقول فيها: بستانُ أُسقيتِ من مدامِعِنا ... لا مِن سَواري الغُيوث والمطرِ بلْ حَقُّ سُقياكِ أنْ تكون من الصَّ ... هباء حِمصَ أو جَدَرِ بل من رحيق الجِنان يُختمُ بال ... مِسكِ سُلافًا به بلا عَكَرِ بل منْ نَجيع القلوب يُمزَجُ بال ... عَطف وصَفو الوِداد لا الكَدَرِ ما أحسن ما أتى ابنُ الرُّومي بهذين المعنيين إذ كانت مرثيته هذه لمُغنِّية وليست في شجاع ولا كريم فيذكر فيها من المعنى المتقدّم الَّذي كنَّا في ذكره، كما يُذكر في أمثالهما. وأمَّا قول زياد: " لعفت منابره " البيت، فإليه نظر البحتريّ بقوله في مرثية أبي سعيد: حُطَّتْ سروجُ أبي سعيدٍ واغْتَدتْ ... أسيافُهُ دون العدوِّ تُشامُ وأمَّا قوله: " صفَّان مختلفان " البيت، فمعنى غريب وما نعرف له نظيرًا في تمامه وزيادته لأنَّه ذكر أنَّ هذين الصَّفَّين لمَّا تلاقيا قُتل بعضهم فطُلِّقت نساء المقتولين ونكح آخرون، أراد أنَّهم سَبَوا نساءً فنكحوهنّ، وقد أتينا بقطعة صالحة من المراثي فيها مَقنع لما أردناه. ونذكر ههنا أشباه لها نظائر إلاَّ أنَّها غريبة قليلة، فمن ذلك قول زياد الأعجم:
لقد لجَّ هذا الدَّهرُ في نَكَباته ... عليَّ إلى أنْ ليسَ في الكِيسِ درهمُ وأمستْ جَواليقي برغم ظعينَتي ... رِهانًا على ما في الجَواليقِ يعكَمُ وأعظم مِن ذا أنَّ شِعريَ مُعربٌ ... فصيحٌ وأنِّي حين أنطِقُ أعْجمُ المعنى الَّذي في البيت الأوسط من هذه الأبيات غريب قليل في الشِّعر وما نعرف أحدًا من الشعراء المتقدمين والمحدثين أتى به إلاَّ زيادٌ وأخذ منه ابن زرعة الكنانيّ فقال: وسُفرتي في السُّوق مَرهونة ... على الَّذي يُؤكَلُ في السُّفره عمرو بن برّاقة الهَمْدانيّ: غَبرتْ خَيلُنا نُقاسمُها القُو ... تَ ولمْ يُبقِ حاصدُ المَحْل عُودا شتوةً تُوسعُ الجِمالُ لها الرِّسْ ... لَ ونَسقي عِيالَنا تَصريدا ذاكَ حتَّى إذا الرَّبيعُ نفَى الأز ... مةَ قُدْنا بها شياطينَ قُودا حبَّذا هنَّ مَتجرًا رَبَحَ الصَّفْ ... قَةِ تَحوي الغِنَى وتَشفي الحُقودا وهذا المعنى أيضًا قليل، ومن أجود ما نعرف فيه بعد هذه الأبيات قول طُفيل الغَنويّ: نُولِّيها الصَّريحَ إذا شَتَونا ... على عِلاَّتنا ونَلِي السَّمارا رجاءً أنْ تؤدِّيَهُ إلينا ... من الأعداءِ غَصْبًا واقْتِسارا الأوَّل أجود لأنَّ الثاني جعله " رجاءً " والأوَّل جعله حقًّا وبيَّن عنه فقال: " بكلّ قَعب لبنٍ قعودُ " والشيء إذا كان من جنسه كان أحذق لقائله، وهو يشبه قول أبي تمَّام: رَقاحِيُّ حربٍ طالَ ما انقلبتْ لهُ ... قَساطلُ يوم الرَّوع وهْيَ سَبائكُ ومثله قول البحتريّ: فلا تَسألوها عن قديم تُراثها ... فعَسجدُها ممَّا أفادَ حَديدُها وشبيه بهذا وإن لم يكن هو بعينه قول الآخر: شكرتْ جِيادُك منك حُسنَ مَقيلها ... في الصَّيف بين بَراقعٍ وجِلالِ فَجَزتكَ صبرًا في الوَغَى حتَّى انثنتْ ... جَرْحَى الصُّدور سليمةَ الأكفالِ لم نُرد بهذين البيتين سلامة الأعجاز وجِراحات الصُّدور، وأن ذلك مدحٌ للفارس، ولو أردنا ذلك لجئنا ببيت صالح الدَّيلميّ ونظائره، وهو:
كم قدَّ في الرَّوع للأعداءِ من ثُغَر ... وكم له قدَّتِ الأعداءُ من لَبَبِ وإنَّما أردنا صبرَ الخيل ومكافأتها على الإحسان إليها. أبو حيَّة النُّميريّ: إذا أنتَ رافقتَ الحُتاتَ بن جابر ... فقلْ في رفيقٍ غائبٍ وهْوَ شاهِدُ أصمّ إذا ناديتَ جَهلًا وإنْ تَسِرْ ... فأعمَى وإنْ تَفعلْ جميلًا فجاحِدُ أواني وإيَّاهُ الطَّريقُ عشيَّةً ... يهابُ سُراها الأحْمَسيُّ المُعاوِدُ فأُقسمُ بَرًّا أنَّ لولا خيالُهُ ... لما كنتُ إلاَّ مثل من هو واحدُ هذا مليح وهو أيضًا قليل للمتقدّمين وقد ذكره قومٌ من المحدثين، فمنهم الَّذي يقول: خرجنا جميعًا إلى نُزهة ... وفينا زيادٌ أبو صَعْصَعَهْ فسِتَّةُ رهطٍ به خمسةٌ ... وخمسةُ رهطٍ به أربَعَهْ مثله: عندي جُعلتُ لك الفِدَى ... سهلٌ وسهلٌ ليس عندِي إن لم يكنْ لي ثانيًا ... فكأنَّني في البيتِ وَحْدِي مثله لآخر: وصاحبٍ أصبحَ مِن بَرْدِهِ ... كالماءِ في كانونَ أو في شُباطْ نادَمتُهُ يومًا فألفَيْتُهُ ... متَّصل الصَّمت قليلَ النَّشاطْ حتَّى لقد أوهَمَني أنَّه ... بعضُ التَّماثيل الَّتي في البِساطْ وهذا المعنى قريب من قول الخليل بن أحمد: فهُمْ كثيرٌ بِي وأعْ ... لمْ أنَّني بِهِمُ قليل
قد اخترنا في هذا الكتاب من أشعار العرب وبديع معانيهم وطريف استعاراتهم وتشبيهاتهم ما وقع في جملة من الورق كثيرة، وضمَّته عدة أجزاء، ولو أردنا أضعاف ذلك لمَا تعذَّر علينا ولكُنَّا نقوم به إلاَّ أنَّا مِلنا إلى الاختصار وتجنَّبنا الإكثار، وفيما ذكرنا من ذلك مَقنع وبلاغ ودلالة على فضل المتقدمين. وجميع ما أثبتناه فاختيار من أشعارهم المشهورة والمجهولة وما لنا إلاَّ الجمع والتَّأليف، ولعلَّ غيرنا ممَّن يقرأ هذا الكتاب يُرذل شيئًا ممَّا اخترناه ويهجِّن شيئًا نقلناه، وهذا غير مزرٍ بنا ولا ناقصٍ لنا، لأنَّ لكلّ إنسان اختيارًا، ولعلَّ آخر ممَّن يتصفَّحه يعرف النَّظير لشيء ممَّا ذكرناه وهو لا يعرف غيره فيشنِّع علينا ويقول: تركوا نظائر، ولن نشرط أنَّا نأتي بجميع النظائر ولعلَّنا أعرفُ بما خرَّجه الرَّازي علينا منه إلاَّ أنَّا تركناه لمعنًى، ويجوز أن لا نعرفه لأنَّا لم نُحط بجميع العلم والشِّعر أكثر ممَّا يُحصى، والغرض الَّذي ذكرناه وأوردنا من التَّنبيه على محاسنهم فقد بلغناه والآن نبدأ بعون الله وحسن توفيقه في اختيار أشعار المحدثين وغريب معانيهم وحسن استعاراتهم بعد هذا الكتاب ليشتمل الكتابان على الفنَّين من الشِّعر القديم والمحدث، ونرجو أن يقع هذا الكتاب الآخر موقع الكتاب الأوَّل من قلب من صنَّفناه من أجله - أيَّده الله - إن شاء الله تعالى، والحمد لله وصلَّى الله على محمد نبيِّه الكريم وعلى آله وسلَّم تسليمًا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم الكتاب. كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله مَودود بن أبي الفضل الكرديّ، حامدًا لله على نعمه ومصلِّيًا على محمد نبيِّه الكريم وعلى آله، وافق الفراغ منه يوم الثلاثاء سابع ذي القعدة من سنة ثلاث وستمائة.
Shafi da ba'a sani ba