وكانت رجلاها عاريتين، ولم يكن عليها إلا غلالة شفافة، وكان هواء البحر يداعب شعرها الأشقر، فيتفرق متموجا على كتفيها. بردت ولم تستطع أن تمشي بقدميها الطريتين على الرمل والحصى لتبحث عن مكان يقيها برد الهواء، وجاعت؛ لأن تيزه القاسي لم يترك لها طعاما، فلم تجد قربها إلا ما كانت تأكل منه طيور البحر فأكلت منه. وفيما هي في هذه الحالة إذا بها تسمع ضجيج صنوج وطبول تضرب ضربا شديدا، فصعقت خوفا وسقطت إلى الأرض تتمتم كلمات متقطعة لا تفهم، وهرب الدم من وجهها فاصفرت، وشخصت عيناها إلى حيث تطلع الضجة فرأت حوريات الإله باخوس ورفيقاته الخفيفات الناعمات نافشات شعورهن سائرات في مقدمة موكب إله الكرمة، ورأت الشيخ سيلين مدبر الإله راكبا على حماره، متعلقا بناصيته لا يكاد يستمسك من سكره. ورأت الإله في قلب الموكب على مركبة مجللة بأوراق الكرمة وعساليجها تقودها النمورة تساس بأرسان من ذهب. وكانت أريان بعد فقدها تيزه قد فقدت لونها وصوتها وقوتها، فحاولت ثلاث مرات أن تهرب فكان الخوف في كل مرة يقيد رجليها، فاضطربت كالقذاة في مهب الرياح، ووقفت ضائعة الرشد لا تدري ما تصنع، فدنا الإله بمركبته منها ووقف قربها فعرف بها نسيبته أريان، أليست أريان بنت مينوس ابن أوروبا، وهذه أخت قدموس، وقدموس جد باخوس لأمه سميلا؟ فأريان إذا ابنة عمة أمه؛ ولذلك حنا عليها وقال لها: أبعدي الخوف عنك يا بنت مينوس! ستكونين زوجة باخوس أحن زوج وأخلصه، وإني مكافئك بتقديمي السماء لك مهرا، ستكونين نجمة جديدة، ويكون إكليلك الساطع دليلا للبحارة التائهين. قال هذا وقفز من مركبته، فخشعت الأرض تحت قدميه، وضم أريان إلى صدره وحملها فلم تتمنع منه ولم تتمنع عنه، وهل بإمكان بشرية أن تمتنع عن إله؟ أليس في طاقة الإله أن يفعل ما يشاؤه؟ حملها بينما كانت حوريات موكبه ينشدن أناشيد العرس، ورفيقاتهن يصحن: إيها إيها! هو ذا الإله وعروسه الشابة يتممان عقد الزواج، وكانت الأنوار اللازوردية والأضواء الشفقية تلفهما بغلالة شفافة فاتنة للعيون والألباب، ثم خلع الإله عن رأسه تاجه المرصع بالحجارة الكريمة وألبسها إياه، ثم حولها إلى نجمة زاهرة وأرسلها إلى السماء، وتحولت حجارة التاج الكريمة إلى نجوم صغيرة تدور متلألئة حول أريان في شكل تاج من النور البهي يستهديه البحارة الضالون في البحار سبيلهم فيهديهم إليه. (4) ديدون الصورية
كانت صور في عهد الفينيقيين عروس البحر الأبيض المتوسط وسيدة التجارة والبحار، وقد وصفها حزقيال النبي في نبوءاته فبين ما كانت عليه من العظمة والجمال وسعة الغنى والقوة البحرية وامتداد المتجر، وسماها تاجرة الشعوب في جزائر كثيرة. وكان في ذاك الزمان على هذه المدينة ملك يقال له بيلوس وهو حفيد إيتوبعل ملك صور وكاهن عشتروت الأكبر، وابن أخي إيزابل الشهيرة زوجة آخاب ملك السامرة وناشرة الديانة الفينيقية في إسرائيل. وكان بيلوس ملكا قويا غزا قبرس والجزائر اليونانية غزوات مظفرة عاد منها بالأسرى والغنائم.
ولم يكن له إلا ولدان: بغماليون وعليشار. وكانت هذه تهوى خالها سيشاربعل أكبر كهنة ملكرت وأول رجل في المدينة بعد أبيها الملك، وكان هو يهواها لما فيها من جمال وذكاء وجرأة، فطلبها من أبيها زوجة له فزوجه إياها وزفها إليه عذراء وربطها به بعهد الزواج، فولدت له ولدين ذكرين كانا بهجة نفسه.
ولم يلبث الملك بيلوس أن توفي فولى الشعب مكانه ولده بغماليون على صغر سنه آملا منه أن يكون كأبيه شجاعا عادلا محبا لشعبه ومصالحه، لكن بغماليون لم يحقق أمل الشعب منه، فقد كان ظالما شريرا رديء النفس مهملا لشئون المملكة، وكان يحسد صهره سيشاربعل على ثروته العظيمة، ويود لو انتزعها منه. يحسده على ثروته، ويغار منه؛ لنفوذه في الصوريين ونفاذ كلمته فيهم، وهذه الخلائق السيئة التي اشتمل بغماليون عليها، جعلت كبار رجال الدولة ينقمون عليه ويكرهونه، ويرغبون في تولية أخته بدلا منه، فتألبوا حزبا عليه بزعامة الكاهن الأكبر، وجعلوا يتربصون به ليقضوا منه لبانتهم.
وشعر بغماليون بهذا الشر الذي يهدده، فخاف على رأسه وتاجه، وانبرى بما فيه من خبث ولؤم يدس على صهره ومن لف لفه بين طبقة الشعب الجاهلة، يفعل ذلك في الخفاء خشية من أخته التي كانت تتمتع بمنزلة أسمى من منزلته في قلوب الصوريين، حتى تمكن من الفتك بأكثر رجال الحزب، ثم فاجأ صهره في الهيكل، فطعنه بخنجر مزق أحشاءه، وأخفى جثته في بعض سراديب المعبد، وذهب إلى أخته يقول لها إنه أرسل زوجها في أمر خطير، وعللها بعودته في وقت قريب.
تخلص بغماليون من مزاحمة صهره، فبقي عليه أن يقبض على كنوزه التي كانت تثير طمعه القاتل، ولكن سيشاربعل كان يخبئها في مكان خفي، حتى إنه لم يطلع عليه عليشار زوجته مع حبه لها وثقته بها.
مرت أيام وليال وعليشار تعلل نفسها بعودة زوجها، وهي لفراقه على مثل الجمر اللاهب، وكانت جثة سيشاربعل لا تزال مطروحة في سرداب الهيكل غير مواراة في قبر ولا مقامة عليها الطقوس الدينية التي تقام لكل ميت لتستطيع روحه دخول فردوس الآلهة. فلبثت روحه تائهة في ظلمات الجحيم لا ترى مكانا تستريح فيه.
وذات ليلة بينما كانت عليشار راقدة، بعد هواجس كثيرة ساورتها، رأت طيف زوجها يطلع عليها من بين ضباب كثيف مظلم، وعلى وجهه شحوب راعب، فأراها درجات المذبح المخضبة بدمائه، وأراها أحشاءه التي مزقها خنجر بغماليون، وكل الفظائع التي ارتكبت في سر قصر أخيها، ثم أمرها أن تهرب من صور الجميلة وتترك أرضها إلى الأبد، وأن تبني مدينة على الشاطئ الأفريقي حيث تشير عليها جونون ربة الأولمب بأن تبنيها، وأذن لها بأن تقف حياة ولديها على إتمام هذه الوصية، ثم كشف لها بطن الأرض وأراها المكان الذي دفن فيه كنوزه من ذهب وفضة وياقوت أحمر وزمرد أخضر ودرر ولآلئ، وأطلعها على المخبأ الذي خبأ فيه كنوز معبد ملكرت، وأمرها بأن تحمل كل هذه الكنوز معها لتكون عونا لها على أداء الرسالة التي عهد بها إليها، ثم توارى عنها.
استفاقت عليشار من نومها مذعورة مما رأت وعزمت على أن تنفذ وصية زوجها الرجل الوحيد الذي أحبته ولا تزال تحبه، فتهيأت للفرار، وبعثت إلى أصحاب زوجها فأتوها في خفية، فأخبرتهم بما رأت وما سمعت وما عزمت عليه، فوافقوها على الفرار، والتف حولهم كل الغاضبين على أعمال بغماليون الناقمين على سلوكه الرديء، فانتدبت منهم من سرق جثة زوجها من السرداب ودفنتها خارج مدينة صور لتتمكن روحه من الراحة في جنان الآلهة وهنائها، واستخرجت كنوز زوجها وكنوز المعبد من حيث كانت مدفونة، وأرسلت من يجوس الميناء لترى هل من سفن مهيأة للسفر؟ فرأوا مراكب موشكة أن تنشر أشرعتها فأمسكوها، وحملت إليها عليشار نفسها وولديها وكنوزها ورجالها، واستغاثت جونون لتعينها وتسهل سفرها وتدلها على المكان الذي تبني فيه مدينتها، ونذرت لها هيكلا في أول أرض تطؤها قدماها، ثم نادت على أصحابها واستقسمتهم بالآلهة أن يخلصوا لها وللقضية التي انتدبها إليها زوجها، فأقسموا لها يمين الإخلاص، وجعلوها ملكة عليهم يصدرون ويردون عن كل ما تأمرهم به.
سارت سفن عليشار تمخر البحر الأبيض والأمواج تتقاذفها والعواصف تشردها حينا وتجمعها حينا، يعلو بها التيار الثائر حتى يخيل لمن فيها أنهم لصقوا بالسحاب، وينحدر بها حتى يظنوا أن اللجة ابتلعتهم، بحر تضربه رياح الشتاء الهوجاء، وتهيج أمواجه الزوابع المجنونة، وسفن تتقلب في ظلمات غيوم دامسة تكتنفها من كل جانب، ولولا مهارة نوتية صور في تسيير السفن ومقدرتهم في خوض البحار مهما ثار تيارها وعربدت أمواجها، لكان الفينيقيون الهاربون قد هلكوا في الهالكين، وما زال هذا دأبهم حتى ألقت بهم يد الأقدار على الشاطئ الأفريقي، فتنفسوا الصعداء وسري عنهم، وشكروا الآلهة على نجاتهم، ثم انحدروا من سفنهم إلى غابة قرب الشاطئ خضراء ظليلة، فلجأت إليها عليشار بولديها وكنوزها فسماها أصحابها منذ ذلك اليوم ديدون أي اللاجئة.
Shafi da ba'a sani ba