وقل شيئا كهذا في مفهوم «الجهل»، إذ اللفظة وحدها لا تهدينا إلى ما ينبغي عمله، فهي - كما قلنا - لفظة دلالتها «كيفية»، تصلح للأحاديث الجارية، وتحفز الهمة ، لكنها لا تجدي بذاتها شيئا في رسم ما يراد عمله، حتى إذا ما حولناها إلى لغة العدد؛ أي إلى الدلالة الكمية، تبين الطريق؛ فنبدأ بالسؤال: جهل بماذا؟ وكم عدد الأفراد المراد تعليمهم؟ وكم عدد المدارس التي يمكن إعدادها؟ وكم طول الفترة المطلوبة؟ وكم مدرسا وكم كتابا، ومن ثم كم من المال يكفي هذا كله؟ والأمر كما ترى متوقف على إجابتنا عن السؤال الأول: جهل بماذا؟ أجهل بالقراءة والكتابة والحساب؟ أم - بالإضافة إلى ذلك - بطرائق الصنع في ميادين العمل؟ إذ الإجابة الأولى عن أسئلة كهذه تحدد لنا نوع المدارس المطلوبة كما تحدد أنواع المدرسين المطلوب إعدادهم، وهكذا.
الفرق بعيد بين لغة الحديث المألوفة ولغة العلم، وإذن فمن أهم أسس التفكير العلمي أن نستخدم مصطلحات العلوم ومفهوماتها؛ لأن ذلك كفيل بأن يفتح أمام أبصارنا مجال البحث العلمي أين يكون وكيف يكون؛ خذ مثلا مفهوم «اللون» كما نعرفه في أحاديثنا المعتادة، ومفهومه كما يعرفه علماء الطبيعة؛ فنحن في حياتنا العملية نميز بين الأحمر والأصفر والأخضر وغيرها من الألوان، نراها في كل شيء؛ في النبات وفي الزهور وفي الثياب وفي الصخور إلى آخر ما تزدحم به دنيانا من كائنات؛ أما عند العلم فاللون ضوء، يتغير بتغير أطوال الموجات الضوئية؛ إن علم الضوء لا يعنيه كيف ترى العين البشرية ولا ماذا ترى، بل يعنيه أطوال موجية يقيسها؛ ولذلك كان الأعمى كالبصير في دراسة علم الضوء إذ الأمر متعلق بأطوال وزوايا ومعادلات. ومرة أخرى نقول: إن الإنسان إذا وقف عند حدود إدراكه الكيفي للألوان، كما تدركها حاسة البصر من الأشياء إدراكا مباشرا، كان محالا عليه أن يصمم جهازا ينقل هذه الألوان من بعد، كالتلفزيون الملون مثلا، أما حين يترجم الألوان إلى موجات ضوئية معلومة الأطوال، فعندئذ ينفتح الطريق أمامه نحو تصور الجهاز الذي ينقل تلك الموجات؛ وقل الشيء نفسه بالنسبة للصوت؛ فليس علم الصوت قائما على الطريقة التي تسمع بها الآذان أصوات الطبيعة من لفظ مسموع إلى حفيف الريح في أوراق الشجر أو اصطخاب الموج في البحر، لا، بل يقوم علم الصوت على دراسة الموجات الصوتية، ما أطوالها وكيف تقاس وبأي الزوايا ينعكس الصوت أو ينكسر؛ فإذا ما ألم بهذا الجانب الرياضي من الظاهرة - استطاع التحكم فيها كيفما شاء.
دقة التفكير العلمي تتطلب تحويل مفاهيمنا إلى «كم» بعد أن كانت ذات طبيعة «كيفية» في إدراكنا اليومي؛ وإن العلوم المختلفة لتتفاوت في مقدار تقدمها بنفس المقدار الذي اختلفت فيه من حيث ضبطها لمفهوماتها ضبطا كميا؛ فعلم الفيزياء - مثلا - متقدم على علم الاقتصاد أو علم النفس، بنفس الدرجة التي استطاع بها أن يحول لغته إلى صيغ رياضية؛ وقد تسألني: لكن إذا كان ذلك مستطاعا في عالم الفيزياء وما إليه، فهل يمكن في عالم الإنسان؟ ماذا نحن صانعون في العلوم الإنسانية من اقتصاد إلى نفس إلى اجتماع وسياسة وغيرها؟ ونحن إن كنا سنقول كلمة موجزة فيما بعد عن الموقف العلمي بالنسبة إلى العلوم الإنسانية، فإننا نسارع هنا إلى الإجابة الموجزة، فنقول إن هذه العلوم - كغيرها - إنما تتقدم على الأساس نفسه، وبالدرجة نفسها، التي يمكنها بها أن تتحول من لغة الكيف إلى لغة الكم؛ فمثلا بدل أن نقول في علم النفس: «ذكاء» نحاول أن نبتكر الطريقة التي نقيس بها ذلك الذكاء قياسا عدديا، وبغير ذلك نجمد عند لفظة نعبر بها عن مجرد انطباعات غامضة عن أفراد الناس.
انظر إلى مفهوم «الحركة» كيف كان في علم الطبيعة إبان مراحله التاريخية الأولى، وكيف أصبح بعد نقلته الواسعة في عصر النهضة الأوروبية على أيدي جاليليو ونيوتن وغيرهما؛ كان تصور علم الطبيعة للحركة في مراحله الأولى تصورا كيفيا، فكان أرسطو - على سبيل المثال - يقسمها أنواعا بحسب اتجاهاتها، فيقول إن هناك حركة صاعدة أبدا كحركة اللهب، وحركة هابطة أبدا كحركة الحجر الساقط، وحركة دائرية - وهي عنده أكمل الأنواع - كحركة الأجرام السماوية في أفلاكها؛ إننا لو كنا وقفنا عند هذه المرحلة الوصفية لأنواع الحركة كما تراها حواسنا فيما حولنا من أشياء، ما استطعنا قط أن نخترع القطار والسيارة والصاروخ، إذ ماذا يفيدنا أن نصف ما نراه ثم لا شيء بعد ذلك؟ لكن جاء «جاليليو» (1564-1642م) فنظر نظرة أخرى قلبت الأمر رأسا على عقب، فقد أراد أن يجرد الحركة من الأجسام المتحركة، حتى لا ينشغل باتجاهها فيقول إن اللهب صاعد والحجر ساقط والكوكب يدور، لا، إنه جرد الحركة وحدها وحاول أن يجعلها متجانسة في طبيعتها، لا فرق بين أن يكون المتحرك حجرا أو لهبا أو ماء يتدفق به النهر؛ فالهدف العلمي الجديد ليس هو وصف ما هو كائن مشهود، بل هو استخراج القانون الكمي الذي يحدد لنا السرعة وما يؤثر فيها، ومن ثم حصلنا على قوانين حركة الأجسام، وسرعان بعد ذلك ما ازددنا علما بحركة الأجرام السماوية فتقدم علم الفلك، ثم ما هو إلا أن أخرج نيوتن قانون الجاذبية، وهكذا. وبأمثال هذه القوانين الكمية بات في مستطاع الإنسان أن يتحكم في تحريك المادة بالسرعة المطلوبة، فكان من التقدم الحضاري الحديث ما كان.
الفرق بين الكم والكيف هو الفرق بين ما أسماه علماء النهضة الأوروبية وفلاسفتها بالصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء، فماذا أرادوا بهذا التقسيم؟ لقد قال «جاليليو، ونيوتن، ولوك وغيرهم» إن ثمة للأشياء صفات ثابتة لا تتغير بعملية الإدراك الحسي عند الإنسان، فمثلا كون الجسم المعين مستديرا أو كرويا أو مربعا أو مثلثا - هذه صفات تظل فيه سواء أدركها الإنسان ببصره أو لم يدركها، وأما كون الجسم أصفر أو أخضر، وكونه حلوا أو مرا، وكونه صامتا أو ذا صوت، فهذا ضرب آخر من الصفات، لا يكون في الأشياء وإنما يخلقها الجهاز الإدراكي عند الإنسان، فالذي يأتي إلى العين من الجسم الملون موجة ضوئية ذات طول معين، فتترجمها العين وملحقاتها من الجهاز البصري إلى لون معين، وكذلك في حالة الصوت، وفي حالة الطعم وما إليها؛ أما الصفات الثابتة من الضرب الأول، فهي التي أسموها بالصفات الأولية، وهي وحدها التي تصلح أساسا للعلوم، وأما الصفات التي خلقها إدراكنا الحسي خلقا فهي الصفات الثانوية، وهي لا تصلح أساسا للعلوم.
وبناء على هذا التقسيم، كان على الباحث العلمي بإزاء كل ظاهرة أراد بحثها بمنهج العلم، أن يلتمس لها طريقة تطرح منها الجوانب الإدراكية التي خلقتها الحواس من عندها، ليستبقي منها الجوانب الموضوعية التي يمكن إخضاعها للقياس الكمي. (4-2) التفكير العلمي موضوعي
إن القسمة إلى «كيف» و«كم» التي أوجزنا فيها القول، وحاولنا بها أن نبين أن التفكير العلمي يتخلص ما استطاع من المعاني الكيفية، ليقصر نفسه على الجوانب الكمية وحدها، أقول إن هذه القسمة قد انتهت بنا إلى تقسيم الصفات إلى نوعين: الصفات الأولية والصفات الثانوية، وهو تقسيم شاع في عصر النهضة الأوروبية بين رجال العلم ورجال الفلسفة على السواء (والفلسفة في معظم حالتها إن هي إلا فلسفة للعلم) وذلك رغبة منهم في التفرقة الواضحة بين ما يصلح للتناول العلمي وما لا يصلح، وإنه ليجوز لنا أن ننظر إلى ذلك التقسيم نفسه من زاوية «الموضوعية» و«الذاتية» فنجد أن الصفات الأولية في الأشياء هي الصفات الموضوعية؛ أي هي الصفات التي لا ترتهن بطريقة الإدراك البشري للأشياء والظواهر؛ وأما الصفات الثانوية - على عكس زميلتها - فهي الصفات الذاتية؛ التي إنما يخلقها الإدراك البشرى خلقا من عنده، بحكم تركيب الجهاز الإدراكي عند الإنسان، ومن قبيل ذلك؛ الألوان والطعوم والأصوات؛ فبينما يمكن الصفات الأولية الموضوعية المستقلة بوجودها عن الإدراك البشرى لها، أن تقاس أبعادا وأوزانا وسرعات وهلم جرا، نرى الصفات الثانوية الذاتية المعتمدة في وجودها على طريقة إدراك الإنسان لها، غير قابلة للقياس، ومن ثم فهي غير قابلة للتحول إلى كم رياضي.
ومعنى ذلك أننا حين حددنا التفكير العلمي بأنه هو ما يعالج الجوانب الكمية من الظواهر، فقد كنا في الوقت نفسه بمثابة قولنا إن التفكير العلمي شرطه أن يكون موضوعيا لا ذاتيا؛ وموضوعيته كفيلة أن تنجو به من اختلافات النظرات الفردية التي كثيرا ما تتحكم فيها الأهواء والرغبات والحالات الوجدانية بصفة عامة؛ نعم، إن فلاسفة العلم وهم يحاولون تحديد هذا الجانب من التفكير العلمي - أعني جانب «الموضوعية» - تصادفهم صعاب كثيرة في التحديد؛ لأنه ما دام الإنسان هو نفسه أداة الإدراك بما لديه من أعضاء للحس ومن منطق للعقل، فكيف يمكن أن يجرد الموقف الموضوع للبحث من ذاته البشرية بكل ما فيها؟ إننا إذ نعتمد - مثلا - على المشاهدات الدقيقة وعلى التجارب التي نجربها، فإننا آخر الأمر نعتمد على حواسنا وعلى الأجهزة التي نوسع بها من نطاق تلك الحواس، وفي كلتا الحالتين لا نستطيع أن ندرك من حقائق الطبيعة إلا ما يمكن تلك الأجهزة إدراكه، كشبكة الصياد حين يطرحها في الماء، لا تمسك إلا الأسماك التي يمكن عيونها أن تحجزها عن الإفلات، وأما ما هو أدق حجما من عيونها فيفلت منها، وهكذا قل في أجهزتنا الإدراكية كلها، فهي تمسك من الحقائق ما هو في وسعها أن تمسك به، وإذن فهنالك حدود «ذاتية» لما ندركه أولا ندركه، مما يجعل الموضوعية المطلوبة منقوصة.
هذا كله صحيح، لكنه لا يمنع من أن نشترط للتفكير العلمي موضوعية بقدر مستطاع البشر، والتطور العلمي والارتقاء بالأجهزة العلمية، كفيلان - على امتداد الزمن - أن يظل الإنسان يصحح نفسه ويزيد من دقة علمه؛ فلا أقل من أن نشترط للتفكير العلمي أن يلتزم ما هو مشترك بين أهل التخصص في الميدان المعين من ميادين البحث؛ فلا يزعم لهم أحد - مثلا - أنه قد أدرك حقيقة ما يغير حواسه الظاهرة أو يغير أجهزته العلمية التي يستطيع أعضاء الأسرة العلمية جميعا أن يشاركوه فيها، كأن يقول إنه قد أدرك ما أدركه بقدرة خارقة امتاز بها دون سائر الزملاء؛ إذ قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون، لكنه على كل حال لا يندرج في المجال العلمي، طالما تعذر مشاركة الأسرة العلمية في المراجعة والتحقيق.
الحقيقة العلمية موضوعية بمعنى أن يشارك في إدراكها كل رجال الاختصاص، لا ينفرد بها بعض دون بعض بحجة أن لهم حاسة سادسة يتمتعون بها دون سواهم، أو أن لهم بصيرة ينفردون بها، أو أنهم يدركون الحقائق بقلوبهم قبل عقولهم، وما إلى ذلك من أقوال، لا نريد أن نتهمها بالكذب؛ لأنها قد تكون أقوالا صادقة كل الصدق في مجالها، لكنها برغم ذلك لا تعد من التفكير العلمي، لفقدانها خاصة الموضوعية التي تتيح لكل من شاء، ومن كان له القدر الكافي من التحصيل ومن التدريب، أن يراجع الأفكار المطروحة ليستوثق من صدقها صدقا علميا.
Shafi da ba'a sani ba