أرجعوا اللص إلى السجن والناس يهمسون بعضهم في آذان بعض قائلين: «كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس آنية الدير المقدسة؟»
ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرعون، وسار الجند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان إلا من عويل المسجونين، وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران.
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المرآة أمام الأشباح السائرة مفكرا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر، متأملا بما يحسبه الناس عدلا، متعمقا بأسرار الحياة باحثا عن معنى الكيان، حتى إذا ما تضعضعت أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلا لذاتي: الأعشاب تمتص عناصر التراب، والخروف يلتهم الأعشاب، والذئب يفترس الخروف، ووحيد القرن يقتل الذئب، والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يفني الأسد . فهل توجد قوة تتغلب على الموت، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلا سرمديا؟! ... أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة إلى نتائج جميلة؟! أتوجد قوة تقبض بكفها على جميع عناصر الحياة، وتضمها إلى ذاتها مبتسمة مثلما يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنما؟ أتوجد قوة توقف القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسروق منه أمام محكمة أسمى وأعلى من محكمة الأمير؟
2
وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة، وسرت بين الحقول حيث تبيح السكينة للنفس ما تسره النفس، ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة، ولما بلغت طرف الوادي التفت فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور تتطاير تارة، وتهبط طورا وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف أجنحتها، فتقدمت قليلا مستطلعا، فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على شجرة عالية، وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارة التي رجمت بها، وجثة فتى غارقة بالدماء المجبولة بالتراب، وقد فصل رأسها عنها.
وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقاب كثيف مظلم، ونظرت فلم أر سوى خيال الموت المريع منتصبا بين الجثث الملطخة بالدماء، وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجا بنعاب الغربان الحائمة حول فريسة شرائع البشر.
ثلاثة من أبناء آدم كانوا بالأمس على أحضان الحياة، فأصبحوا اليوم في قبضة الموت.
ثلاثة أساءوا بعرف البشر إلى الناموس، فمدت الشريعة العمياء يدها، وسحقتهم بقساوة.
ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين؛ لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة أمواتا لأنها قوية.
رجل فتك برجل آخر، فقال الناس: هذا قاتل ظالم، وعندما فتك به الأمير قال الناس: هذا أمير عادل.
Shafi da ba'a sani ba